بيشوى رمزى

تداخل المفاهيم.. بين الديمقراطية وحكم الفرد

الأربعاء، 03 يناير 2024 07:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
في الوقت الذي تبدو فيه الديمقراطية بمثابة النقيض لحكم الفرد، إلا أن ثمة انتقالات بين المفاهيم، تمثل علامات مهمة في مراحل المخاض في التاريخ الدولي، ربما ساهمت فيها بعضها  في الانتقال إلى الأخرى، حتى وإن كانت متعارضة معها، وهو ما يبدو في العديد من المشاهد التاريخية المهمة، منها على سبيل المثال، التحول من الحالة الثورية، بما تحمله من تقلبات سياسية واقتصادية، نحو تعزيز الاستقرار، وهو ما يبدو في حالة الشرق الأوسط، والذي تحول من هيامه بفكرة التغيير الجذري القائم على الهدم، نحو الاستقرار على أساس البناء التدريجي، في إطار إصلاحي، وهو ما تحقق في الأساس من رحم الحالة الثورية، والتي فشلت في تحقيق التطلعات، لتفتح الباب أمام فرصة من أجل البناء والتنمية.
 
ولكن بعيدا عن الحالة في الشرق الأوسط، ربما نجد أن ثمة تغييرات عميقة في المفاهيم الدولية، التي سعت القوى الكبرى إلى إضفاء هالة مقدسة عليها، وعلى رأسها الديمقراطية، باعتبارها المصدر الرئيسي لشرعية الأنظمة الحاكمة، وهو ما يبدو في حالات عدة شهدتها أوروبا والولايات المتحدة، ربما لفت إليها في مقالات سابقة، بين احتجاجات، واقتحامات للمؤسسات، في ظل فشل الأنظمة المنتخبة في تحقيق تطلعات الشعوب فيما يتعلق بالتعامل مع الأزمات الطارئة التي ضربت العالم، على غرار كورونا، في الوقت الذي نجحت فيه دولا أخرى موصومة بالديكتاتورية، القائمة على حكم الفرد، سواء في صورة شخص أو حزب، من التعامل مع تلك الأزمات وتحقيق اختراقات كبيرة فيما يتعلق بحلها.
 
إلا أن الانقلاب على "قدسية" الحالة الديمقراطية، ربما يتحقق بصورة تدريجية، ومن خلال آلياتها، وهو ما يبدو في العديد من النماذج البازغة، منها الخروج على الأحزاب التقليدية، كما يبدو في اختيار الشعوب لرؤساء بلا مرجعية حزبية، أو مؤسسي أحزاب جديدة بلا أجندة واضحة، وهو ما يمثل خروجا أوليا على مبدأ تعددية الأحزاب، والذي يمثل محورا مهما من محاور المفهوم، بينما اتجهت دولا أخرى نحو اختيار أحزاب يمينية معروفة بمواقفها المتشددة، يراها العالم المتقدم مخالفة للإطار الدولي الحاكم منذ عقود طويلة من الزمن، بينما تتم هذه الاختيارات عبر آليات ديمقراطية متعارف عليها، وعلى رأسها الانتخاب الحر المباشر.
 
بينما شهدت مراحل التغيير في المفاهيم، من خلال بزوغ أفراد لديهم من القدرة على إلهام الشعوب، إلى الحد الذي يخرجون فيه علانية عن الإطار الديمقراطي المعروف، بينما لم تتأثر شعبيتهم، وهو ما يبدو بوضوح في نموذج الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والذي تمكن بجلاء من فرض رؤيته على السياسة الأمريكية، منذ ظهوره على رأس السلطة في بلاده، بدءً من خروجه على مبادئ الأحزاب وعلى رأسهم الحزب الجمهوري الذي يمثله، مرورا بإعرابه عن امتعاضه من تحديد الفترات الرئاسية في الولايات المتحدة بفترتين فقط، بالإضافة إلى تشكيكه في نتائج الانتخابات الأمريكية الأخيرة، إلى الحد الذي دفع أنصاره لاقتحام الكونجرس في يناير 2021، وحتى إقدامه على الترشح في الانتخابات المقبلة، بعد فشله في الحصول على فترة ولاية ثانية، في انتخابات 2020، في سابقة ربما تمثل خروجا عن الأعراف الرئاسية في الولايات المتحدة منذ نشأتها، ناهيك عن ملاحقته بالقضايا والمحاكمات، التي لم تثنيه عن اتخاذ الخطوة التي يتطلع إليها.
 
والملاحظ في حالة ترامب، كنموذج للتحول العالمي من الديمقراطية إلى حكم الفرد، يجد أن ثمة ارتفاعا كبيرا في شعبيته، إلى حد تصدره لاستطلاعات الرأي في الداخل الأمريكي، في الوقت الذي يواصل فيه انتهاك الأعراف التي طالما تبنتها الولايات المتحدة، لعقود طويلة من الزمن، وآخرها امتناعه عن المشاركة في المناظرات الانتخابية أمام منافسيه الجمهوريين للفوز ببطاقة الترشح للمرحلة النهائية التي قد تعيد المواجهة بينه وبين غريمه جو بايدن، في نوفمبر 2024، بينما لم تتأثر حالة القبول التي يحظى بها في الشارع الأمريكي، بل على العكس مازال متصدرا.
 
وهنا يصبح ترامب، حال فوزه بترشيح الحزب الجمهوري، أو عودته للبيت الأبيض، بمثابة مرحلة جديدة من مراحل الخروج عن الحالة "النمطية" لمفهوم الديمقراطية، بينما تبقى آليات الديمقراطية التقليدية هي الوسيلة التي يتم بها هذا الخروج، عبر الصناديق، وهو ما يمثل استمرارا لمراحل سابقة، كانت فيها التظاهرات والاحتجاجات وسائل شرعية، في إطار حرية التعبير، التي تمثل جزءً لا يتجزأ من المفهوم نفسه.
 
وهنا يمكننا القول بأن حالة المخاض التي يشهدها العالم في اللحظة الراهنة لا تتوقف على مجرد صعود قوى جديدة، يمكنها القيام بدور أكبر في مزاحمة القوى الكبرى، وإنما ارتبطت كذلك بالمفاهيم التي أعلنتها واشنطن عندما سيطرت على زمام الأمور الدولية، لتتجه القواعد الدولية نحو مزيد من التوازن، بعيدا عن الديمقراطية المطلقة، في صورتها الخشنة، أو الديكتاتورية، لتخلق بينهما حالة وسط، سوف تنعكس لا محالة، ليس فقط على طبيعة العلاقات على قمة النظام العالمي، في إطار تعددي، ينهي الأحادية الأمريكية التي هيمنت على العالم خلال العقود الماضية، وإنما أيضا تحمل إرهاصات لطبيعة جديدة في التعامل مع القضايا الدولية الملحة، على غرار الأزمات الطارئة، أو القضايا طويلة الأمد، على غرار القضية الفلسطينية، وهو ما يتطلب استثمارا جيدا من قبل القوى الإقليمية الرئيسية في كافة مناطق العالم، لتحقيق أكبر قدر من التوازن بعيدا عن الانحيازات.
 
 
 









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة