نصر سليمان محمد يكتب: ماذا فعلت أيها الغراب؟

السبت، 11 يوليو 2015 10:17 م
نصر سليمان محمد يكتب: ماذا فعلت أيها الغراب؟ ورقة وقلم

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
جلست فى شرفة المنزل ذات مساء قبل غروب شمس يوم شديد الحرارة هربا من الجو الخانق والرطوبة العالية داخل الشقة.. فنحن فى منتصف شهر أغسطس وشمس النهار كأنها فوق الرؤوس تُبخر ما تبقى من سكينة وهدوء وتهيج الأعصاب وتدمر الأفكار.. حتى إذا ما انزوت وغربت تركت توابعها وذيولها من حرارة شديدة ورطوبة مرتفعة تجعل الإنسان يضيق بالحياة وبكل ما حوله .

وقد اعتدنا نحن المصريون مؤخرا الهروب من هذا الطقس والجلوس فى الحجرات المكيفة.. وغالبا لايوجد سوى تكييف واحد إن وجد فى منزل الأسر المتوسطة.. يهرع إليه الجميع هربا من هذا الحر القائظ .

أردت أن استريح بعض الوقت من هواء التكييف البارد الذى لم اعتاده ويسبب لى آلاما بالرأس بين الحين والآخر.. فخرجت إلى الشرفة قبل الغروب علنى التقط بعض الهواء الرطب وأجدد هواء صدرى.

جلست وفى يدى كوب من الشاى الساخن أرقب عددا من طيور الغربان وهى تحلق فى سماء المنطقة وتصيح بصوتها الحاد غير المحبب إلى النفس وكأنها فى عراك مستمر.. فقد انتشرت تلك الطيور فى مدن مصر فى المدة القصيرة الماضية وأصبح من المعتاد رؤية العشرات بل المئات منها فى أماكن كثيرة من المدن .

أخذت أتابع أحد الغربان الواقف على سلك الكهرباء الواصل بين عمودين ..وغراب آخر يحاول مشاكسته وزحزحته عن مكانه .. وشطح بى الخيال لتذكر قصة ولدى سيدنا آدم "قابيل وهابيل" وما دار بينهم والنهاية المؤلمة التى انتهت بها قصتهما من قتل قابيل أخيه هابيل.. وكيف عَلم هذا الغراب قابيل كيفية دفن أخيه بعد أن قتله وتركه فى العراء لا يعرف ماذا يفعل بجثته.. وكان الغراب رسولا من عند الله ليعلمه كيف يوارى سوءة أخيه ..وجاء ذكره فى القرآن بكل تبجيل ..

وبينما أنا مستغرق فى تذكر هذه القصة وأبعادها ..شاهدت فجأة أعدادا كبيرة من الغربان يجاوز عددها المئات وقد حجبت ما تبقى من ضوء الشمس قبل أن تغيب وتسحب نورها معها .. فاكتست السماء باللون الأسود المميز لهذه الطيور وغابت الشمس قبل موعدها ليحل ظلام الغربان على المكان .. ويردد المكان صدى صياحهم المزعج.. ويضيق الصدر بها وينقبض من نواحها .. فقد تربينا واعتدنا على التشاؤم من صوت الغراب .. ونستعيذ بالله من تواجده وكأنه شيطان رجيم .

قضيت عدة دقائق أرقب أسراب الغربان محاولا معرفة ما وراءها .. وأدركت سريعا وجود" فرخ غراب "صغير لايقوى على الطيران يسير على الأرض وسط الطريق .. ربما سقط وهو يتعلم الطيران أو وقع من فوق شجرة .. وجموع الغربان حوله تذهب وتجىء وتعلو وتهبط وكأنها تحيطه بمظلة سوداء صنعت بأجساد هذه الطيور تحميه من أى تعد وتبعث رسالة قوية لمن يحاول أن يقترب منه أو يؤذيه ..

استوقفنى هذا المشهد وانتبهت له بكل حواسى أرقب نهايته الغريبة.. وفجأة وبدون سابق إنذار هبط عدد لابأس به من هذه الطيور على سلك الكهرباء الواصل إلى منزلنا .. وفى لمح البصر سقط السلك وتشابك مع باقى الأسلاك .. ودوى صوت انفجار شديد.. ولمعت أضواء باهرة تخطف الإبصار وتصاعد دخان اسود كثيف أعقبه انقطاع الكهرباء عن المنطقة بأسرها بعد أن حدث تماس بين الأسلاك وتساقط عدد كبير منها ..

سقط قلبى مع سقوط السلك وانقطاع الكهرباء .. فالحرارة شديدة ..ولن أحتمل هذا الحر دون استخدام مراوح أو هواء التكييف .. هذا بخلاف فساد الأطعمة بالثلاجة .. والأهم من ذلك .. ماذا عن الأخبار التى أعددتها واستعد لإرسالها للصحيفة التى أعمل بها عن طريق شبكة الإنترنت .. وهى أخبار لا تحتمل التأخير ولابد من إرسالها بعد دقائق قليلة ... يا للهول ....ماذا فعلت أيها الغراب ..

كنا قد اعتدنا منذ بداية فصل الصيف منذ عدة سنوات على انقطاع التيار الكهربائى.. فحكوماتنا الرشيدة عودتنا على ذلك ترشيدا للاستهلاك ولعدم وجود وقود يكفى لتشغيل محطات الكهرباء .. وكنا نعيش أوقاتا صعبة نقاسى ويلات الحرارة الشديدة والإظلام الذى يعم الأحياء.. ولكن هناك فرق فإظلام الحكومة كان يستمر ساعة أو اثنتين على الأكثر.. وكنا نتحمله على مضض .. ونعد له العدة ونحسب له الحسابات..ولكننا هذه المرة فى مصيبة جلل .. فالأسلاك قد تساقطت .. وتعللت شركة إصلاح الأعطال بعدم وجود فريق فنى أو سيارة رافعة لتوصيل هذه الأسلاك.. وربما نظل فى هذا الظلام والجو الخانق لعدة ساعات ربما تطول إلى يوم كامل أو أكثر ...
يالها من مصيبة جلل فى هذا التوقيت وهذا الطقس القاتل ..
اجتاحنى الغضب وراودتنى نفسى أن أقتل هذا الغراب الصغير الذى يقف غير مبالى بما فعله بنا أهله وعشيرته وكأنه يتحدانا أن نفعل شىء ..

كظمت الغيظ وحاولت أن أحتفظ لنفسى بهدوئها.. فهذا الغراب وإن كنت فى غاية الحنق عليه وقد ازددت كراهية له بعد فعلته الشنعاء.. غير إنه فى النهاية "معلم البشرية الأول" ولا يجب إلا أن أكن له كل احترام ..
ارتديت ملابسى على ضوء شمعة صغيرة .. أغلقت الشقة بالمفتاح وركبت السيارة وتوجهت إلى منزل شقيقى الذى يبعد عن منزلى عدة كيلو مترات ... سهرت الليلة عنده وأنجزت الأعمال المكلف بها ...استمتعت بهواء التكييف ...وهدأت نفسى بعض الشىء ..

بينما استعد لإيقاف السيارة بعد عودتى لمنزلى صباح اليوم التالى .. لمحت أحد الغربان ينظر لى نظرة تحد وعينيه كلها مكر ودهاء.. توجهت إليه فى خشوع وعاتبته عتابا لينا عله يقبله ولا يستفزه.. أيها الغراب "الحفيد" لماذا تركت رسالة التنوير والتعليم التى حملها أجدادك ..والآن تعيث فى الأرض فسادا وتنشر الظلام فى ربوعها ..هل غَيرتك الأيام أيها المُعلم كما غيرت الكثير من النفوس ؟؟ هل انقلب بك الحال وتخليت عن الحكمة وضرب رأسك الهراء والهوى والأفكار ؟؟.. وقبل أن يجيب أدرت السيارة وانطلقت سريعا من أمامه .








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة