حازم حسين

الغرب راقصا فى كييف وعاريا فى غزة.. جَردة السياسة والدعاية بعد سنتين من فخ أوكرانيا

الثلاثاء، 27 فبراير 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
افتتحت الحرب سنتها الثالثة؛ لا أنجزت موسكو باقة أهدافها المُعلنة والخفيّة، ولا أحبطت كييف طوفان الشرق واكتفت بما كانت خسرته من أراضٍ فى السابق. وعملاً بقاعدة أن المُقدِّمات تُؤسِّس للنتائج؛ فالأرجح أن يأكل الصراع عامًا جديدًا ولا تتغيَّر التوازنات.. وصل الميدان إلى حالٍ أقرب للتجميد؛ إذ لا سبيل للحسم العسكرى بانتصار طرفٍ وإقرار الآخر بهزيمته، كما لا أُفقَ للتسوية السياسية على ما يبدو من الجميع. وصار المشهد شبيهًا برقصة سالسا: تتسارع الأقدامُ فى القاع وتبقى الأبدانُ المنتصبةُ على شىءٍ من الاتّزان أو الثبات الخادع، وقد يدور الراقصان حول بعضهما، والعراك من خِفَّته يشى بالغَزَل حينًا، وبالكُمون الاستراتيجى وترشيد الطاقة أحيانًا، وكلاهما يُراهن على المُفاجآت العارضة، وعلى الوقت وتعب الشريك.
 
أوكرانيا فى الميدان؛ لكنها آخر مَن يُمكن التعويل عليهم تصعيدًا أو تهدئة. لأمورٍ ظاهرة ومُضمَرة صار البلدُ المأزوم مُجرَّد تفصيلٍ صغير فى لُعبةٍ أكبر منه، بل لا تخصُّه وإن حملت اسمَه وأُديرت بملعبه.. يطيبُ للغرب الأطلسى أن يحصر المسألةَ فى تجلِّيها الراهن، ويُفسِّرها بعدوانية الروس وأطماعهم، ويُحبّ بوتين أن يعود بها فى الزمن؛ فيُؤسِّسها على القاعدة السوفيتية وتنازلات قادة الاتحاد لأقاليم الراية الشيوعية؛ وإن كان لكلِّ طرحٍ وجاهته وظلاله غير المُنكَرة؛ فلعلّ القراءة الأكثر شمولاً تتوسَّط النظرتين: تحديدًا ما بعد الحرب العالمية الثانية، وانفراد الولايات المتحدة بترسيم قواعد العالم الجديد. كان جنونُ اليمين الأوروبى حافزًا للتقارب، وجَبرت الليبراليةُ تناقضاتها مع الماركسية؛ إنما بانتهاء الخطر المُشترك ودخول برلين؛ عادت الأيديولوجيا للصدارة، عندما فتَّشت واشنطن عن عدوِّها الجديد لم تجد أفضل من العناوين الحمراء. هكذا استُبعِد الروس من قِسمة الغنائم، وانفرد الأمريكيون بالمنفعة والقرار، واستتبعوا حُلفاءهم الأُوروبيين وما تبقَّى من أطلال القارة. باختصار؛ أسَّست الحرب الباردة لِمَا تتصاعد سخونته فى أوراسيا اليوم، وما قد يتبعه مُستقبلاً.
 
ربما لم يكن مُمكنًا أن يتوافق الغرب مع السوفيت بعد سقوط النازية، وأمام يقين أمريكى بأنهم كانوا أبطالَ النصر وقادته. لكن واشنطن لم تُحاول أصلاً، ولا وضعت فكرة التعايش فى حساباتها، ونظرت إلى ستالين وخُلفائه فى الكرملين عبر الزاوية التى رأت هتلر وموسولينى والإمبراطور اليابانى هيروهيتو منها؛ بل إنها كانت أشدَّ ليونةً مع العدوّ من الحليف. وضعت خطَّة عملاقةً لإعمار أوروبا وتركت الدبَّ يلعق جراحَه مُنفردًا، وأدخلتهم فى حمايتها تحت مظلَّة الناتو، مُقابل أن نبذته أوّلاً؛ ثم اتخذته غريًما بأسرع ممَّا حسمت عداوتها الأولى بعد بيرل هاربر. المُؤكَّد أنه كانت لدى الشيوعيين طموحاتٌ عقائدية ونزواتٌ جغرافية مكتومة؛ لكنهم قبل أن يُبادروا بها بُوغتوا، ووقع فى نفوسهم شىءٌ أقرب لخليطٍ من المهانة والخيانة والخذلان.
 
المُعضلة فى إدارة ما بعد الحرب، وتوظيف فائض القوة لأجل الهيمنة، بدلَ إبقاء القطار على قضيبين مُتوازيين. نشبت المناكفةُ الباردة دون إعلانٍ، وعبَّرت عن نفسها فى الدعاية وسباقات التسلُّح والتحالفات، وسعت واشنطن لحصار الشيوعية واستئصالها، بينما كانت تتمدَّد فى بيئات الاستعمار الآفل وبين حركات التحرُّر، من أفريقيا لآسيا وأمريكا اللاتينية. وكشفت المُواجهة عن نفسها فى حصار برلين والحرب الكورية وحلف بغداد، وذروتها بأزمة الصواريخ الكوبية، وكادت تزج بالعالم فى أتون لوثة نووية. كان الميزان يميل للأمريكيين، والمرارة تتراكم فى حلوق السوفيت، وعلى عكس ما توهَّم البعض بأن انتهاء الحرب بتفكيك الاتحاد يحسم الصراع، ويُغلق دفاتره للأبد؛ كان فى الواقع يُؤسِّس لحقبةٍ من الحقد المُقدَّس، وجولةٍ مُؤجَّلة على شرط القدرة اللازمة للثأر وضَبط الاختلال. وإن كان بوتين تُوّج نَبيًّا سوفيتيًّا بعدما خسرت الإمبراطورية خمسة ملايين كيلو متر؛ فإن الصدام كان آتيًا فى كلِّ الأحوال، برجلِ الاستخبارات الآتى من مدينة لينين "سانت بطرسبرج حاليًا"، أو بأى جريحٍ آخر من روسيا التى لم تنس ماضيها اللامع، ولم تبرأ من وجيعتها القاسية.
 
يقولُ الرئيس الروسى إنهم اقترحوا الانضمام للناتو ورُفِضَ عرضُهم، وقُدِّمت لهم تطمينات بألَّا يتمدَّد الحلف لمجالهم الحيوى. والواقع أن الكتلة الأطلسية تأسَّست 1949 باثنى عشر عضوًا فقط، وإلى 1982 أضافت رُبعَ العدد، وفى ثلاثة عقود تالية تضاعف مُجتمعُها، وآخرهم فنلندا 2023 والسويد على مرمى حجر. أمَّا بشأن أوكرانيا؛ فكانت جيوش بوتين على حدودها، وتقارير واشنطن تُشير لغزوٍ وَشيك، ولم يتوقَّف التلويح الفجَّ بالضَمّ. بدا كأنّ الغربيِّين يتحرَّشون بالرجل عَلنًا؛ فإمَّا يفوزون بتنصيب صواريخهم على كتفيه، أو يخسر بالذهاب للحرب. ومهما قِيل عن تطلُّعاته، وعن إخلاصه لإرث الإمبراطورية ومساعى إحيائها؛ فإن المنطق الذى فرضه الأمريكيون كان واضحًا أنه يرفع الحرارة عمدًا، ويُغلق الخيارات على ثنائيّةٍ حارقة: أن يتقدَّم للحرب فى أرضٍ يبتلعُ بصعوبةٍ أنها اقتُطِعت منه، أو يتقاعس حتى يُطوِّق الخصومُ بيتَه الحصين ويقتطعوا ما تتعذَّر استعادته لاحقًا.. تعاملوا مع الروس مثلما عاملوا أفغانستان والعراق؛ لكنّهم ردّوا على طريقة رُعاة البقر ومن كِتاب الولايات المتحدة.
 
ما كان شىءٌ من السوابق يُرجِّح ابتلاع سيد الكرملين للرسالة صامتًا. لقد ورث تركةً مُثقلةً؛ لكنها تتشبَّث بكل ما يحمل رائحة مجدها القديم. بدأ الأمر بإقليم ترانسنستريا فى مولدوفا، وزاد مع بوتين بأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية من جورجيا، والقرم وبعض الدونباس بأوكرانيا. والحاصل أن روسيا الجديدة سلَّمت بأن يخرج الأبناء القُدامى من عصمتها؛ على شرط ألَّا يتحدثوا لُغةَ أعدائها أو ينتسبوا لهم بأوراقٍ ثبوتية. وتعدَّدت المُنازعات لأسبابٍ عدَّة، بين دعم الانفصاليين أو سقوط حكومات موالية، وأفضى التوجس لتفاهماتٍ هشَّة؛ لكنها كانت قابلةً للحياة نظريًّا. منها اتفاقيات مينسك برعايةٍ ألمانية فرنسية؛ لكن بريطانيا لعبت دورًا فى تشجيع كييف على المراوغة، ولم تكن واشنطن بعيدةً. وإذ ترى روسيا أن جمهورياتها السابقة أخذت منها فى الجغرافيا والاقتصاد وعناصر القوَّة، وتركت ديونَ الامبراطورية تُسدِّدها وحدها؛ فإنها لا تشعر بالمظلومية فحسب؛ بل يملؤها إحساسٌ بالاستحقاق والشراكة مع تلك الدول. ربما تُؤجِّل موعدَ التحصيل لاعتباراتٍ عسكرية وجيوسياسية؛ لكنها لا تشطبُ ما تراه حقًّا، ولا تتورّع عن التعجيل حالما يتأكّد لها التهديد، لا فى وَضعها القائم فقط؛ إنما فى آمالها المُعلَّقة واستراتيجياتها للمستقبل.
 
فى شرحه؛ قال بوتين إن أوكرانيا خطوة تكتيكية للغرب؛ أمَّا لروسيا فموضوع وجودٍ ومصير. يتلاقى هذا الفهم مع إفراغ شرايينه كلها فى ساحة الحرب، مُقابل الارتباك الأطلسى الذى بدأ هادرًا فى الدعم والعاطفة، وانتهى لنغمةٍ رتيبة تخدش الصمت لا أكثر، وتُبشِّر باقتراب حلقته المُطبقة. صحيح أن روسيا لم تُحقِّق مُرادها، وتبدو "العملية الخاصة" بطيئةً ومُتعثّرة؛ لكنها زحفت بثباتٍ نحو خيرسون ونهر دنيبر وبحر آزوف، وابتلعت باخموت بالصيف الماضى وآفدييفكا قبل أيام، بينما فشل هجوم الربيع الأوكرانى المضاد، واضطر زيلينسكى لتغيير قيادة الجيش، ولم يعُد بطلاً قوميًّا يُلازمه المجد أو الإجماع أينما سار.. لكلٍّ من موسكو وكييف نُسخة خاصة باسم فلاديمير: الأوّل تربَّى فى عنفوان الامبراطورية، واختبر أوروبا من داخلها عندما كان ضابطًا مُتخفّيًا، والثانى من مواليد المنحنى الهابط، وكان مُمثَّلاً هزليًّا فقير الموهبة، ويعرفُ عن حُلفائه الغربيِّين أقل ممَّا يجهله عن غريمه الشرقى. وفارق النزاع اليوم بقدر الفارق بين ذئب KGB مُحترف المغامرات، وحَمَل الدراما المُعلَّبة وبلاتوهات التصوير.
 
استنزف فلاديمير المُدافِع محصولَه اللغوى فى الخُطب النارية؛ بينما عاش فلاديمير المُهاجم مُعتصمًا بحالةٍ أقرب للصمت. وعندما قرَّر مُخاطبة الغرب فى بيئته انقلبت الدنيا. كان المُذيع الأمريكى تاكر كارلسون أعلن أنه بصدد محاورته، ووضع مقطعًا ترويجيًّا حقق ملايين المشاهدات بالمنصَّات، وسيلاً لا ينقطع من إدانة السياسيين والإعلام التقليدى. إنها حربُ السرديَّات قبل القذائف، ولأنَّ فريقًا فيها اكتفى بالنصر المعنوى، وأن يتقدَّم فى الرأى العام المشحون بدلاً من ميادين القتال والحوار؛ كان مُزعجًا أن تُساق الروايةُ المضادة بأيّة صورةٍ، سواء أقنعت الناس أو زادت عداوتهم. ما يعنى أن الصراع يُدار فى حيِّز نظرى أكثر من العملانية، ولا تعنيه حركيّة الجبهة بقدر ما ينشغل بتنميطها؛ فيصير وكيلُه ملاكًا ساميًا، وغريمه شيطانًا لا يُقبَل دفاعه ولا تُرجى توبته. هكذا يتحقَّق الغرضُ من مُنازلة بوتين فى بيئته؛ ولِتَذهب أوكرانيا بآلامها وجراحها لجحيم الذاكرة الغربية الصدئة.
 
ساعتان تحدَّث فيهما الداهيةُ لشارع العدوِّ مُباشرة. عاد فى الزمن ليُؤصِّل مسألة أوكرانيا، وما يراه أُصولاً وطنية مُنحِت للفرع بالوحدة، أو سُلِبت من الجذع بأثر التداعى والانحلال. ولا سبيلَ لقياس مردود ما قاله على جمهور الغرب؛ إنما المُقابلة راجت وأحدثت دويًّا. وبعض حكاياته لا يخلو من منطقٍ، وكثيرها يُصادر حركةَ التاريخ ويستعيدُ طَللاً يستعصى على إعادة الإنتاج؛ إنما أخطر ما فيه الإشارة لأنَّ التمادى فى دفع الخرائط قُدمًا بجنون، قد يُوازيه تشدُّد فى سَحبها للوراء، وما يُثار بشأن أوكرانيا اليوم قد يتطوَّر مُستقبلاً فى البلطيق وشرق أوروبا والقوقاز، وربما ألاسكا نفسها. وإن كانت الليبراليةُ الغربية أسقطت يسار السوفيت؛ فإنها غذّت نزعةً قوميّةً شديدة المُحافظة فى روسيا، تُعيد بدورها تغذية يمين أوروبا، وما بدأ صراعَ جغرافيا وسياسة وأحلاف، قد يؤول لصراع قوميّات وأعراق، ووقتها ربما يُعاد تعريف القضية وترصيص الاصطفافات بنظام مُغاير، يتخاصم أصدقاؤه الحاليّون ويتصالح الأعداء.
 
أرادت الإدارة الأمريكية استنزاف الروس بالدم الأوكرانى، ويبدو أن بوتين اختار مُلاعبتهم بالورقة نفسها. وتبدو توازنات الميدان لصالحه أكثر ممَّا قبل سنتين. تضرَّر اقتصاد موسكو لناحيةٍ وانتعش فى أُخرى، وما زالت الأضرار قيد الاحتمال، والعقوبات غير مُثمرة حتى مع حزمة أخيرة شديدة التطرُّف. اضطرته الحرب لرفع الفائدة إلى 20%؛ ثم خفَّضها بأكثر من الثلث فى 2023، قبل أن يعود لتشديدٍ جزئى عند 16%. ومُقابل تأثُّر الإنتاج والاستثمار نشطَ التصنيع العسكرى، ووُجِّه نصفُ أصول صندوق الثروة للإنعاش، ولديهم ملاءة تسمح بمواجهة الضغوط بأسعار نفطٍ عند 60 دولارًا، بينما الآن تتجاوز الثمانين مع توقعاتٍ بوصول المائة. ولم يُؤثّر تجميد 300 مليار دولار من أموالها بالخارج، ولا التلويح بمُصادرتها. ولقاء ذلك يُعانى الأوروبيون من انقطاع الغاز الروسى، وارتباك سلاسل الإمداد، وطفرات التضخُّم والفائدة، ويئنّون من أعباء الدعم، ويتمرَّد عليه الأمريكيون وسط صراعٍ ديمقراطى جمهورى وداخل كلِّ تيَّار. كانوا ينتظرون أن يُغادر بوتين الحلبةَ بأنفٍ نازف؛ فإذا به يُحاور شعوبهم بينما تنزف الحكومات، ويجلس مُنتظرًا انسحاب الغرب أو عودة ترامب.
 
تلقَّى الرجلُ هديّةً ما كانت بالحسبان؛ فباندلاع حرب غزَّة وانكشاف النفاق الأورو-أمريكى، تضرَّرت جبهة أوكرانيا بأضعاف ما أحدثه الروس: أوَّلاً حُرِفَت الأنظارُ عنها، وتقلَّص ضخّ المال والعتاد، وسقط الرُّعاةُ فى التناقض بأبشع ما يكون. ما يقولونه ضدّ موسكو يفعلون عكسه لتل أبيب، ولأوَّل مرَّة يجدون أنفسَهم فى معركةٍ تنتهك ترتيبهم الزمنى للعداوة؛ لقد نصَّبوا السوفيت غريمًا وحيدًا إلى أن أسقطوهم، فأعلنوا السيادة على مذهب فوكوياما عن نهاية التاريخ، ثمّ استدعوا الإسلام، أو العرب باختزالٍ غير مُخلّ، وقرَّروا أن يكونوا عدوَّهم الجديد على "صدام الحضارات" ببصمة هنتنجتون، ولأنَّ نسختهم من الديمقراطية لم تنتصر فعلاً؛ فما انتهى الفصلُ القديم ولا حُسِم تاليه، وكان يبدو محسومًا بانعدام التكافؤ. ابتكرت روسيا نُسخةً تُشبه الغرب ولا تُطابقه، وقدَّمت الصين هجينًا لشيوعيَّة أكثر انفتاحًا وتنافسيّة، والمسلمون صاروا ضحيّةً تُحشَد المُظاهرات لدعمهم فى قلب أوروبا. الروايةُ تتداعى والروائى عاجزٌ عن تجميع خيوطها، والزمنُ أشبه ببندول ساعةٍ لا يُوقِف الرقصَ، بينما عقاربها ساكنة، وتلدغ اليد البيضاء التى تُحاول تسييرها فى اتجاهين مُتعاكسين.
 
ثمَّة تعديل للمواقف بشأن روسيا على إيقاع غزّة. غربيّون يرون انحراف منظومة القيم خارج الشرعية والقانون وميراثهم الأخلاقى، وشرقيّون يُعيدون النظر لتجربة بوتين بعين العاجز عندما يتحقَّق فى الآخرين. وبينما يتصاعد النقدُ الأوروبى لفشل أوكرانيا وفساد بعض مسؤوليها، وتبدو جبهتها مُتشقِّقةً وفى عزِّ رخاوتها، يقف عجوز موسكو الخبير عند النهر مُنتظرًا جُثّة العدو، وقد سار الفيضان كما أراد. وراء المحيط راهنوا على تمرُّد فاجنر؛ فسقط تابوت بريجوجين من السماء وأُعيد تنظيم الميليشيا دون فقدان حضورها الخارجى. وبينما يتحضَّر لانتخاباتٍ تُبقيه ست سنوات، يتسيّد القوقاز ولديه علاقات عميقة مع شريكيه القوِّيين فيها، تركيا وإيران، ويُطِلّ على المتوسط من سوريا، ويُسيطر على خُمس أوكرانيا، وإزعاجه للغرب فى أفريقيا أصخب من إزعاجهم له فى أوراسيا. ربّما خسر بانضمام فنلندا والسويد للناتو، وتعزيز نشاط الحلف على التَّماس شمالاً قُرب بطرسبرج؛ لكنها خسارة غير مُؤذيةٍ ما دامت "كييف" خارج الدائرة الأطلسية، وقد كان مُتصالحًا مع مسألة التوسُّع المحسوب منذ شُرود ثلاثى البلطيق قبل عقدين.. ربما تعرف واشنطن خطورة أن يكسب بوتين أو يخسر، فتسعى لإبقائه فى الموج لا يطفو ولا يغرق، وهى لا تُريد إنهاءَ الحرب؛ كما لا تحتمل إدامتَها. ربما كان "كسينجر" منطقيًّا عندما كتب عن وجوب مراجعة الجغرافيا، ورسم الخرائط مُجدَّدًا، ولعلَّ هذا ما سيحدث؛ فيضع الناتو قدمًا فى جزءٍ ويُؤمِّن الروسَ سياجًا عازلاً فى آخر.
 
تكاليفُ الحرب مُوجعةٌ للجميع. نزفت روسيا وإن كابرت، وبعد التهدئة ستُواجه أزمة تركيب الاقتصاد على ما كان؛ بعدما توسَّعت الصناعة العسكرية لتُناوش التضخم والركود وتُلبّى حاجة الجبهة. والغرب ليس أقلَّ خسارة، بفواتير الدعم واهتزاز الأسواق، وتحلُّل السردية الأخلاقية وانكشاف استراتيجيته الهشَّة حال أقدمت الصين على تجربة شبيهة بتايوان. أمَّا أوكرانيا فلن تعود كما كانت، وخسرت حاضنتها القريبة وخذلها الحليفُ البعيد. والعالم تلقَّى ضربةً مالية قاسية، وتجميد الأُصول يُلقى مزيدًا من الشكوك على النظام القائم، لا سيِّما مع تسليح الدولار وإدخاله طرفًا فى النزاعات. لم تقترب الحربُ من خطِّ النهاية، ولا مُنتصرَ بعلامةٍ كاملة مهما طالت، وإن كان الجميعُ خاسرين فسيُسدِّدون الكُلفةَ معًا. أوَّلها نزيف المال والأخلاق، وآخرها بصمة ثقيلة على المنظومة الأُممية، الفاعلة باختلالٍ منذ ثمانية عقود. كأنَّ تراب أوكرانيا يختلط بدماء غزَّة، ومن العجينة الحمراء القاتمة يتشكَّل عصر جديد، ليس شرطًا أن يكون وشيكًا، وقد لا يقل جنونًا ولا يزيد عدالة؛ لكنه لن يعود محكومًا بإرادة الرجل الأبيض وطُهرانيته الزائفة، ولا مُخدَّرًا بالسُّبات على كلامه المعسول، أو الخوف من يَده الباطشة.
 









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة