حازم حسين

ريادة التاريخ وسيادة الحاضر.. الدراما كثروة حضارية ورأسمال وطنى

الإثنين، 26 فبراير 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
الحكايةُ خبز الخيال، وطقسٌ يُلازم البشر من ولادتهم إلى أن يصيروا جنودًا فى معركة الحياة، تُعينهم الدراما على الحرب اليومية، وتُجفِّف عرقهم بعدما يُغادرونها منتصرين أو جرحى. ولا يخلو صدرُ إنسانٍ من قصة تستحق أن تُروَى، ربما يسكبها بعضُهم على الورق، ويُسِرّ بها آخرون لدوائرهم الضيّقة، وقد يكتمها فريقٌ فى نفوسهم. وفارقُ المبدع عن المُتلقِّى أنَّ واحدًا يُخلِص لحكايته ويُبشِّر بها، والثانى يكتفى بحظِّه من حكايات الآخرين، وفيما بين الصمت والهمس تبرزُ جماعةٌ من الناس، بأرواحٍ مُتحرِّرة وخيالات تُحسِن السرد وصناعة الدهشة، يُحقِّقون ما يتردَّد فى عقولهم بصريًّا؛ فيكون الفن، وتكون مواسم البهجة المُمتعة والأسئلة الموجعة.
 
يُوشِك موسمُ الدراما الأوَّل أن يقصّ شريطه. صحيحٌ أن لاعبًا كبيرًا مثل الشركة المتحدة كان يعمل بفلسفةٍ مُغايرة، ونجح فى تخليق مواسم على طول السنة، تكون بطولتها للعمل لا أوان العرض، وللحكاية لا ظروف تلقِّيها؛ إنما يظلّ رمضان مُحافظًا على أسبقيته بأثر الحنين، والخبرة، وما يُغلّفه من طقوسٍ وعادات؛ صار الفن واحدًا من تفاصيلها. ولعلَّها لم تُغفل تلك الحقيقة؛ فاشتغلت على إرساء مُعادلتها الجديدة بنجاحاتٍ خارج الموسم، كما فى تجارب: بالطو، وبينّا ميعاد، وحالة خاصة، واهتمّت فى الوقت نفسه بمواكبة الأجواء الرمضانية كما اعتادها الجمهور، ما يتجلَّى فى قائمةٍ من تسعة عشر عملاً، شديدة التنوُّع فى منطقها الفنى ورهاناتها الجمالية، وفى التصنيف والبناء ومجال الحكاية ووسائط البث.
 
ثمَّة حقيقة راسخة؛ أن الفن سلعة تجارية مهما كانت طوبايته ورسائله السامية. ويفرض ذلك أن يحتكم لمنطق السوق، وأن يُغازل المُستهلكين طمعًا فى الجدوى، وما يتولَّد عنها من ربحٍ واستدامة. لا عيبَ فى الأمر إن اتّزنت كفَّتا الميزان؛ لكنَّ الخلل قديمًا نبع من أنَّ حِسبة الاقتصاد تقدَّمت على منطق الإبداع؛ فصار لدينا ما يُشبه القانون، بأن تُنتَج أعمالُ رمضان بمقياس الشهر لا معيار الإحكام. هكذا مُسِخت حكاياتٌ بالمطِّ والتطويل لتملأ ثلاثين يومًا، وتغطِّى خريطة إعلاناتٍ تقتفى أثر نجومٍ بعينهم. وفى الموسم الماضى أُعِيدت الأوضاع لنِصابها جزئيًّا، فكانت الأعمال بين ثلاثين وعشرين و15 وعشر حلقات. وتبدو الحالة أوضح اليوم، بعشرة أعمال لا تتجاوز أسبوعين، مُقابل تسعة فقط تُصاحب الشهر بكامله.
 
وفى جوهر الدراما؛ فإنها تتوزَّع بين تيمات شعبية بسيطة، ومروحةٍ اجتماعية من الجدية للمُعالجات الخفيفة، وتجارب عن نصوص أدبية، وعودة نوعيّة واعية ومقصودة إلى التاريخ. وقائمة الأبطال تنفتح من جيل الآباء مع الفخرانى وميرفت أمين، إلى الأحفاد بأحمد داش وعصام عمر، وبينهم نجوم الوسط اللامعون: النبوى وكريم وأمير ومكى. وتجربة الإنتاج نفسها مُختلفةٌ وثريّة؛ إذ تنفرد «المتحدة» بعملٍ واحد، وتتشارك البقيّة مع 13 شركة. ويحلّ العرب مُكوّنًا أصيلاً فى البنية والموضوع، بمشاركةٍ واسعة لفنَّانين وفنِّيين، ومُقاربةٍ خاصة للقضية الفلسطينية فى تجربة «مليحة».
 
يصعُب الحديث عن المحتوى وقيمته؛ إذ لا نعرف ما تُراهِن عليه كلُّ تجربةٍ فى نطاقها الحكائى؛ إنما يُمكن القول إن المُقدّمات تشى بالنتائج، والجواب يتّضح من عنوانه. خلطةُ الموسم فيها وجوهٌ كرَّرت النجاح بتكرار الحضور، وفيها عائدون بعد غياب، وشباب تمرَّسوا فى مشاريع سابقة ويتقدَّمون للبطولة بمواهب طازجة. ولوحةُ الكتابة عليها تواقيع اختبرناها وبيننا رصيد: محمد سليمان عبد المالك فى معالجة لقصة إحسان عبدالقدوس «امبراطورية ميم»، ومدحت العدل عن رواية إبراهيم عبدالمجيد «عتبات البهجة»، وأنور عبدالمغيث بثقافته الشعبية العريضة يقترب من كنوز ألف ليلة وليلة فى «جودر»، بجانب باهر دويدار ومحمد سيد بشير، ومن الشباب يسر طاهر ورنا أبوالريش، ومهاب طارق بعد تجربته الأُولى مُنفردًا فى «حالة خاصة». وفى الإخراج يعود مجدى أبوعميرة، وأحمد نادر جلال وعمرو عرفة وهانى خليفة وإسماعيل فاروق، ومن الراسخين شيرين عادل وخالد مرعى، وأصحاب البصمة المختلفة مثل نادين خان، ومن صاروا من مُفردات الموسم كأحمد الجندى وإسلام خيرى وبيتر ميمى ومحمد سلامة.
 
للمتحدة مواقف صلبة وواضحة فى حقل الإعلام، وخطابها الدائم أنها معنيّة بقضايا الوعى والقِيَم وترقية الذائقة. والملمحُ الإيجابى أنها تُطوِّر أداءها بالتجارب العملية، وبما لا يتجاوز أُطرَ الفن وقواعده، وأهمها أنه لا قاعدة أو سقف؛ إنما المنطق وما يُمليه العمل. والنظر للخريطة يُشير إلى أنها لم تشطُب تصوُّرًا فنيًّا لصالح آخر، وما استبعدت موضوعًا مهما كانت سخونته أو شعبويته، ولا تورَّطت فى التعالى على ذائقة الجمهور وتفضيلاته. تحضُر الحارة بطابعها الخشن فى تجربتى العوضى ومصطفى شعبان، وتتمثَّل الطبقة الوسطى بحصَّةٍ حاكمة، ولا تغيب الدراما المخمليّة بما فيها من صراعٍ وتسلية. وتتجاور الكوميديا باعتدالٍ مع الاشتباكات الساخنة، والتاريخ والفانتازيا مع الهموم الاجتماعية اليومية. يحضُر المُنتِج بوصفه مُعاونًا للفنان ونائبًا عن المُشاهِد، لا مُرشدًا لهذا أو وَصيًّا على ذاك، مع نُضجٍ فى مُقاربة المُنتَج الإبداعى، وتَركه ليُقوِّم نفسَه بالمُمارسة وإقبال الناس أو انصرافهم. وقد أحدثت الشركةُ فى تجاربها السابقة أثرًا يجعلُ الرهان صائبًا، ويصلح للبناء عليه؛ لناحية تنشيط السوق وتطوير الصناعة، وصولاً لضَبط الخطاب كما انضبطت مُعادلات الإنتاج.
 
عُمرُ «المتحدة» فى الدراما عدَّة سنوات، ولعلَّها فترةٌ أقصر من استخلاص تقييم نهائى. لكنها حقَّقت نتائج إيجابية فى نشاطها؛ لجهة تنظيم الصناعة، وتحفيز الشباب، وفتح مواسم جديدة، والتصدِّى لأعمال وموضوعات ما كان يسيرًا أن تضطلع بها شركات أُخرى. النموذج الأوضح فى إنتاجات بنكهةٍ وطنية: ثلاثية الاختيار، والعائدون، وهجمة مُرتدّة، والكتيبة 101، أو موضوعات نوعيّة وتاريخية: يحيى وكنوز، ورسالة الإمام، والحشاشين، وفانتازيا عالية التكلفة: جت سليمة وجودر. المسؤولية تُرتِّب أعباء قد لا تُقابلها عوائد مُكافئة، والالتزام بالتنوير والتثقيف يفرضُ ألَّا يلتفت الفن عن معاركه الجادة، والنضجُ يستدعى ألَّا يُنكِر مهمَّة الإمتاع أو يتعالى على أن التسلية والترفيه لا يقلان قيمة عن الرسائل السامية.
 
قطعت الدراما شوطًا بعيدًا. فى المضمون أثارت قضايا مُلحّة مثل التطرُّف والتلاعب بالدين، والوصاية وحقوق المرأة، والتنمُّر والتحرُّش وهموم الشباب، وفى الشكل قدَّمت مُعالجات رشيقة وشديدة الجذب، ومنحت فُرصًا للمواهب، وأعادت الكبار والغائبين، وحقَّقت طفرةً فى الصورة ومُكوِّنات الشريط. كان مديرو التصوير أبطالاً بارزين لرمضان الماضى، وبرزت اللمسات المُتقنة لطابورٍ من مبدعى الديكور والملابس والإكسسوار، وفى الموسيقى وأعمال ما بعد الإنتاج. كانت الصورة ثريّةً وعميقة فى الجمال والتعبير، والنور مُمثِّلاً مُحترفًا لا ضيفًا مُزعجًا. الفخامة التى لا تُبالغ فى الترف؛ فتُؤذى العين أو تجور على المنطق؛ صارت رهانًا ثابتًا للتجارب كلّها، وبطبيعة تكامل المكونات؛ فإن كلَّ طفرة فى عنصر تنعكس على غيره، أو تجبره على التحرُّك والمُواكبة. بمعنى أن الدراما البليغة قد تُنتج صورتَها المثالية، والصورة قد تطبعُ أثرَها على الحكاية، وبتوالى المحاولات تنضبط مقادير الكيمياء.
 
ثمَّة علامات أقرب للماركة المُسجَّلة، وثنائيّات ترسَّخت، أو مُتواليات تُطوِّر حساسيتها المشتركة بالتكرار. أبو عميرة بتاريخه مع الفخرانى، مكّى والجندى لثامن موسمٍ معًا، ومحمد سلامة مع عبد المالك والنبوى، ومدير تصويره الدائم محمد مختار، وبيتر ميمى مُخرجًا لكريم ومؤلفًا لأمير، وروجينا مع رؤوف عبدالعزيز، وريهام حجاج وأيمن سلامة، وشركات الإنتاج جزء من اللغة الجامعة. صحيحٌ أن رهاناتٍ منها قد تقلّ عن غيرها؛ لكنَّ بعضها تتوافر له أرضية الفهم المُتبادَل، والتكامل الخلَّاق، والسير لمشاريع بطابعٍ مُميّز فى رؤيتها وجماليّاتها. وفاعليةُ الورشة يحكُمها شَرط الاستدامة والصبر، وتضمنها وحدةُ العقل التى تُهندِس المنظومة، واتّساع حيِّز الإنتاج والتشغيل بما يسمح بتجريب الثنائيات وتعديلها، بعيدًا من النُّدرة ومحدودية الفرص.
 
مصر تتسيّد دراما العرب، ولا يغيب ذلك عن فلسفة الإنتاج. إن كان التركيز على اجتماعيَّات المصريين، فإن فلسطين حاضرة فى «مليحة»، وتاريخ الإرهاب والدم فى «الحشاشين» لعبدالرحيم كمال، بإسقاطٍ على الأُصولية الجارحة وميليشياتها المُلوَّنة بالمذهبية وتحريف الاعتقاد.. شىءٌ من الترفيه الثقيل، أو التثقيف المُسلّى. وإجمالاً فالموسم مُبشِّر بما فيه من تنوّعٍ وثراء، واشتغالٍ بمنطق السوق وفلسفة الرسالة والالتزام، وانشغالٍ بترقيّة الصناعة فى الكمّ والكيف، وفى مردودها الرمزى والقِيَمى والتنموى؛ انتصارًا لريادة ترسَّخت بالتاريخ، وتعزيزًا لصدارة يُعاد إنتاجها يومًا بعد يوم فى البلاتوهات وشتّى أبواب الإبداع.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة