ناهد صلاح

بغداد أول مرة

الإثنين، 19 فبراير 2024 07:56 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

وصلت مطار القاهرة متأخرة، وهذا جديد تمامًا، فالتأخير ليس من عاداتي، لم أكن السبب ولم يكن كذلك ترددي في الخروج، هذا التردد الذي يأكل نصف الوقت أو أغلبه، لكنه كان الطريق المزدحم ثم طابور الدخول الطويل الذي استغرق نحو ساعة كاملة، كما استغرق حلمي لزيارة بغداد سنوات توازي أغلب عمري.

ظللت أُردد منذ صباي المثل الشهير:" القاهرة تكتب وبيروت تنشر وبغداد والخرطوم تقرأ"، وظللت أيضًا أحلم أن أعيش في مدينتين: بيروت وبغداد، تحقق جزء من الحلم حين نمت علاقتي بالعاصمة اللبنانية وترسخت بعلاقة متأنية وطويلة المدى.

لم أعرف سببًا واحدًا لتأخر زيارتي لبغداد، فقد تعددت الأسباب والنتيجة واحدة.. وأخيرًا ذهبت إلى بغداد بعد انتظار طويل ورحلة شاءت الظروف أن تكون طويلة ليتوهج خيالي أكثر بصورة بغداد التي تسكنني، وليصبح مشوار " القاهرة- بغداد" كما عنوان الفيلم المشترك بين مصر والعراق، أخرجه أحمد بدرخان في العام 1947، فرصة لتجميع شتات نفسي قبل لقاء العاصمة العراقية التي سكنت وجداني وعشت أوجاعها الكثيرة عن بُعد.

 زرت بغداد عبر بوابة السينما، ضيفة الدورة الأولى لمهرجان بغداد السينمائي.. الدورة التي جمعت الشامي والمغربي واليمني والسوداني والخليجي و.. المصري على أرضية واحدة هي السينما.

محظوظة لأنني كنت جزءً من حضور مصري كبير ومشاركة فيلمية متعددة من بينها الفيلم القصير (شارع شامبيليون) عن نص من تأليفي ضمن مجموعتي القصصية "دومينو"، ليكتمل حضوري إلى بغداد بقبس من نورها.

شاءت الصدفة أن ترتبط زيارتي الأولى للعراق بيوم ممطر جميل يليق بأمنياتي صوب بغداد، على حسب المثل المصري الشعبي :" الخير على قدوم الواردين"، على قدر حماسي لبغداد ومهرجانها الذي تمنيته فرصة للتأمل والنقاش الجدي حول السينما، فإنني كنت معتزة بطريقة العراقيين في التغلب على ما عاشوه من حصار وحرب وقتل، بفعاليات أدبية وفنية تعيدهم إلى الحياة الثقافية بحماسة وهِمَّة، كذلك كنت ممتنة للتحايا والمفردات العراقية الخاصة، هذه الخصوصية التي عبر عنها الشاعر الفلسطيني محمود درويش حين قال: "الشِّعْرَ يُولد في العراق فكُنْ عراقيًا لتصبح شاعرًا يا صاحبي!"، وهذا ليس بكثير على بلد أبو نواس، المتنبي، نازك الملائكة، بدر شاكر السياب، محمد مهدي الجواهري، سعدي يوسف و.. غيرهم.

حاضرنا ماضينا..

أمضيت سنوات كثيرة أستمع وأقرأ حكايات بغداد وأقرأ أشعارها بين الشجن والمباهاة، انفعلت بها كمدينة تتسع جغرافيتها لكل الأساطير وغضبت بحصارها واحتلالها وضحاياها، بهذه الأحاسيس تجولت في شوارعها تغمرني هذه الأحاسيس المُلْتَبِسة من الشجن والأمل والتطلع صوب حياة جديدة، بينما الشعر لا يفارقني، إذ يتردد صوت محمود درويش مجددًا في أذني:

لا بد من شاعر يتساءل :

بغداد : كم مرة تخذلين الأساطير؟ كم

مرة تصنعين الثماثيل للغد؟ كم مرة

تطلبين الزواج من المستحيل؟

 يخبرني صديقي المخرج العراقي المقيم في فرنسا، ليث عبد الأمير، أن بغداد كانت أجمل وأن ثمة تغيير وحشي قد حدث فيها، أطوف معه ميادينها وشوارعها: أبو نواس، المتنبي، الرشيد، السعدون، إلى حيفا وفلسطين، أشاهد تماثيلًا من عصور مختلفة في مدينة التماثيل والنُصب والجداريات، أتوقف عند ساعة القشلة البغدادية التراثية وبيت الحكمة وبيت هارون الرشيد ثم مكتبات المتنبي ومنها إلى مبان معاصرة و"مولات" تجارية، ليحملني هذا التوازي بين القديم والحديث إلى أرض الواقع الذي يبرهنه سائق التاكسي بجملة مكثفة:"حاضرنا ماضينا"، كان يقصد أنهم يعيشون على إرث الجمال الذي تركه الماضي، لكنني شعرت بالجروح الممتدة من الماضي إلى الحاضر، ومع ذلك فإن هذه الجروح مهما كانت درجة عمقها لم تتسبب في موت المدينة، فالبطل لا يموت، وبغداد بطل الحكايات والوقائع، أبناؤها مثل فرسان الساموراي، يمضون دائمًا مع الريح في ترحال لا يعرف الراحة والاستقرار، بينما تبقى أرضهم ثابتة، مؤكدة البعد الأسطوري فيها الذي ينطلق من تلك النقطة الغامضة التي تستهل بها روايات عن أولئك الأبطال الذين يملأون الحياة بحضورهم المتميز، ثم تأتي اللحظة العجيبة التي يُصارع فيها البطل وحشًا لا يُقهر، إنه الموت الذي أراد جلجامش أن يقهره عبر تسلط غير إنساني، وعندما رأى جثة صديقه انكيدو أصابته الدهشة التي منحته الخلود عبر ممارسته لسلوك التحضر الذي يشبه الفن الآن، فعندما خاف انكيدو من الهبوط إلى الغابة قال له جلجامش: لا تتحدث يا صديقي كإنسان ضعيف، إنس الموت، من يمض في المقدمة يحفظ صاحبه، يحم صديقه، فإذا سقطا حفرا لنفسيهما اسمًا خالدًا.. وبغداد على هذا الأساس تهيأت لتكون خالدة، فيها الدم كثير والفن أكثر.

ألف ليلة وليلة...

  قد تكون جدارية "نصب الحرية" في ساحة التحرير للنحات جواد سليم، الأب الروحي للنحت العراقي المعاصر، والذي رحل شابًا ولم يشهد افتتاحها، هي الأشهر في بغداد وربما الأكثر شعبية لأنها تحكي عن سردية نضالية عراقية، تصوّر ثورة الرابع عشر من يوليو والشعب العراقي بكل فئاته في حالة النزوع إلى الحرية والانعتاق، وبالمناسبة ثمة فيلم عنه بعنوان "نصب الحرية.. أحلام وثورات" للمخرج حيدر موسي دفار، فاز بالجائزة الثالثة في مسابقة فضاءات جديدة بمهرجان بغداد السينمائي، لكن شهرة "نصب الحرية" يُحاذيها هذا الولوج المبهر في عالم ألف ليلة وليلة.. للحظة بدا الأمر كما لو كنت دخلت كتاب "ألف ليلة وليلة" ذاته بمخزونه الإبداعي والسردي المذهل، إنفصلت تمامًا عن ضوضاء الشارع ومشاكله الراهنة، وجدتني مشدودة لـ"كهرمانة" كما صممها الفنان محمد غني حكمت وهي تستقبلنا وسط نافورة في شارع السعدون وهي تصب الزيت على اللصوص كما في قصة "علي بابا والأربعين حرامي"، فتذكرت المعمارية العراقية الشهيرة زُها حديد حين اختارت "كهرمانة" عندما سُئلت عن أي نصب تذكاري بغدادي تفضّل أن يكون رمزًا إعلاميًا لبغداد، كتمثيل رمزي لعصر الرشيد الذهبي لبغداد، كما أنني لم أستطع تفادي الجمال في تمثالي شهر زاد وشهريار وهما أيضًا من تصميم محمد غني حكمت، تقف شهر زاد كأميرة في مواجهة أنثوية، استحواذية نحو شهريار المستلقي على أريكة منجذبًا إليها ولحواديتها.. التمثالان في حدائق أبي نواس نسبة للشاعر العباسي المعروف بحكاياته وأخباره مع الخليفة هارون الرشيد والسيدة زبيدة في الكتب التراثية، والذي شُيد له تمثالًا في نفس الحدائق على امتداد الضفة الشرقية لنهر دجلة في منطقة الكرادة الشرقية.

 الكرادة تعيش راهنها بأسلوب التي تعافت بعد كارثة التفجير الإرهابي الداعشي الذي تعرضت له في العام 2016، تزدهر تجاريًا وثقافيًا.. فضاء للحداثة والتنوير، مقاه ثقافية: "كهوة وكتاب، رضا علوان"، ملتقى للأدباء والفنانين وذيوع أعمال أدبية وموسيقية، الكرادة تقريبًا لا تنام كأنها تعوض ما فات من سنوات الألم والبؤس العراقي، وهي جزء من بغداد المدينة التي كُتبت حكاياها إما بالدم أو عنه، تاريخ الحرب جزء من روحها مطبوع بشكل أو بأخر في مخيّلتنا نحن محبيها ومتابعي أخبارها على شاشات الأخبار.

 خطرت لي رواية "فرانكشتاين في بغداد" للكاتب العراقي أحمد سعداوي، حين مررت ببعض الدروب الضيقة، المظلمة، المتفرعة من شارع الرشيد، كما لو كنت أستدعي لحظة موجعة في تاريخ البلد أو أحاول أن أستجيب لمحاولة الثقة بالذات في هذه المدينة الرافضة للموت، الموزعة بين النوستالچيا وحفلات البكاء الجماعي وبين النزوع الانعتاق إلى براح يخلو من أية متاريس أو أثقال قديمة.. إنها بغداد تدفع ثمن عراقتها وتميزها بفسيفساء عرقية ودينية، وثقافة راسخة، وهي الآن تحاول أنن ترفع صوتها الإبداعي بمهرجانات فنية وأنشطة ثقافية لأنها تريد الحياة.

 

 










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة