حازم حسين

الغناء الساكت.. بحثًا عن إنقاذ الوجدان الشعبى واكتشاف مواهب الشعر والتلحين

الثلاثاء، 08 أغسطس 2023 02:17 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
الذاكرة الغنائية المُعاصرة باتت مثقوبة. أغلب إنتاجات المطربين من كل الأجيال لا تصمد أكثر من أسابيع، ثم يُواريها النسيان. لم يكن ذلك مُعتادًا فى السابق؛ إذ كان طبيعيًّا أن تختلف حظوظ الأغنيات من الذيوع، فتتقدَّم واحدة وتتراجع أخرى؛ لكنها تظل جميعًا قيد التداول بين وقتٍ وآخر، وقد تُثير جملة أو كلمة حنينًا لأغنية بعينها، فتجد نفسك مُتلبّسًا بالدندنة، كأنها ما تزال طازجة ولو مرَّ عليها عقدٌ أو يزيد. اليوم يصعب أن تتذكّر شيئًا من المواسم الماضية، حتى لو على سبيل استعادة اسم أو لحنٍ ولازمة مُميَّزة. بات الغناء فى معروضه الأوسع استهلاكيًّا عابرًا؛ كأن لا غاية له إلا توقيع المطرب بالحضور ليحجز مكانه فى حفلات الموسم؛ ثم يُلملم كلامه ولحنه و«كليباته» مُعتصمًا بالصمت والانطفاء إلى أن تدور الأيام على موسم جديد.
 
ما أثار الأمر فى نفسى، أننى كنت أُرتّب قائمة أغنيات لتكون رفيقًا على الطرق وفى الأسفار. انتبهت بعد فترة من التعديل والإضافة والسماع المُتكرِّر إلى أنها لا تتضمّن أية أغنية من السنوات العشر الأخيرة. المفارقة أننى أتابع وأُواكب وأسمع أوّلاً بأوّل؛ لكن عندما استبقيت ما يُشبع الذائقة ويصلح للرفقة الدائمة، لم يكن فيه شىء من أى جديد سمعته. وسألت شبابًا كثيرين من فئاتٍ عدّة عن تفضيلاتهم؛ فلم يكن جديد الصف الأول بينها، فإمَّا اختاروا من القديم، أو انحازوا لتجارب من خارج المتن الموسيقى و«نجوم الملايين».. ليس الأمر موقفًا من مُطربٍ أو مُلحّن، فبعضهم حضروا بين الاختيارات القديمة. بعد تدبُّرٍ طويل، توصَّلت إلى أنه ربما تكون العلّة فى الكلام. ما يقولون عنه شعر غنائى؛ وبات فى أغلبه أقرب لخواطر المُبتدئين، بما فيها من سطحيّة وسذاجة طرحٍ، وعجز عن الإحكام ضمن بناء فنى ناضج، يتحقّق فيه الإبداع والإمتاع والأصالة، ويكشف عن تفرُّد الرؤية وعن بصمةٍ تخصّ صاحبه. وكلُّها شروطٌ شِبه غائبة عن كثير من كتّاب الأغانى الحاليين.
 
لدى الأشقاء السودانيين تعبير مُوجز، وبليغ وقاس؛ إذ يقولون عن أى حديث لا قيمة فيه ولا فائدة منه «كلام ساكت». يُمكن قراءتها على وجهين: صفة وموصوف «كلامٌ ساكتٌ»، أو بالإضافة «كلامُ ساكتٍ».. فى الأولى يقع التقريع على الكلام كأنه عارٍ من الدلالة، وإن تحقّق بالبناء والنُّطق، وفى الثانية يقع على الشخص كأنّما يُشير لصخبٍ يُشبه الصمت ويفتقد المعنى. على الوجهين يصلح التعبير لتقييم حالة الكتابة الغنائية لأغلب المُتصدّرين فى الساحة العربية؛ إذ يصخب الساكتون بكلامٍ كأنه كلام، فتكون المُحصّلة مشاعر مُعلّبة، وتعبيرات مُستهلكة، وجُملاً بلاستيكية لا روح فيها. ولأنها افتقدت شرط الأصالة وحساسية الابتكار والإدهاش؛ تخصم من التجربة الغنائية، مهما اجتهد الملحن وأبدع المُطرب؛ لتسقط بالضرورة من مصفاة الذائقة سريعًا، ولا تستبقيها الذاكرة أكثر من صلاحية الموسم وصخبه. هكذا يدخل الغناء سباقًا سنويًّا مع جمهور الحاضر؛ ويخرج فى كل مرّة مهزومًا لصالح الماضى.
 
لا تزال أم كلثوم وعبدالحليم وشادية وصباح ومحمد قنديل ووردة ونجاة، وطابور من القدامى، يتصدّرون ذاكرة السماع، ومعهم الحجار ومنير وعمرو دياب ومدحت صالح حتى العقد قبل الأخير. قطعت الموسيقى شوطًا فى التطوّر، وأنتجت مُعالجات جذّابة فى مُزاوجتها بين الأساليب الشرقية والإيقاعات الغربية، واستفادت من طفرة التقنية وابتكارات التوزيع والتنفيذ؛ كما لا تنقصنا الأصوات والمواهب القادرة على إنتاج البهجة والطرب. عنصرٌ واحد لا يبدو على قدم المساواة، وهو الفارق الأبرز بين ما كان عليه الغناء قديمًا وما صار إليه؛ إنه الكلام.. ربما يجتهد كثيرون من كتبة الأغانى، ولا يخلو السوق من أسماء ومحاولات مُلفتة؛ لكنها تظلّ استثناءً يُؤكّد القاعدة. تتقدَّم الصناعة فى كل تفاصيلها، ولا يتقدَّم المُؤلّفون وتجاربهم. تلك مُعضلة تستدعى النظر؛ حتى لا يظل غناؤنا مُرتبكًا فى السير من دون ساقه الثالثة.
 
بدأ الغناء العربى قبل الإسلام، وامتدّ وتحسّن بعده. كان فى ملامحه الأولى تقطيعًا وترديدًا لأبيات الشعر، بتنغيمٍ يُواكب الأوزان ومعانى الكلام وأجواءه النفسية. لاحقًا انتظم بإيقاعات بسيطة، ثم دخلت عليه الوتريات وبعض آلات النفخ البدائية، وتطوّر فى الأبنية وطرق الأداء، كما فى «الغناء المُتقن» مع طويس وغيره؛ لكن ظلت السيادة للغة، ولم تكن الموسيقى أكثر من حليةٍ وخلفيات جمالية، تنامت وصارت لها أدوار تعبيرية وتأثيرية. فى الإطلاق الحديث الذى تأسَّست عليه طفرة الموسيقى الشرقية، وتحديدًا من عبدالرحيم المسلوب وغناء المشايخ أواخر القرن التاسع عشر، كانت البطانة موسيقى المُطرب أو المُنشد، وحالة التطريب تنبع من تناغم أداء الشيخ وأفراد بطانته؛ ثم استعانوا بالتخت بديلاً لجوقة الحناجر، ثمّ صارت الألحان مُحكمةُ البناء حاملاً يستند إليه إيقاع الأداء وروحه. الشاهد من النظرة المُوجزة، أن المنطوق كان دائمًا بطل الحالة، وكل العناصر المُحيطة تتضافر لخدمته وتعميق أثره. الآن تنطفئ الكلمة لصالح الجملة المُوسيقية وتنويعات الإيقاع؛ ولا نعرف هل التراجع لسطوة المُلحنين، بإبراز أنفسهم وإزاحة شركاء الصناعة؛ أم لضعف الشعراء وعجزهم عن فرض حضورهم عمليًّا بالتمكُّن والإجادة؟!
 
حكايات أهل الغناء لا تخلو من مواقف ومحاولات لفرض السطوة. مشاريع كثيرة فى الماضى تعطّلت لأن المُطرب أو الملحن أراد إجبار الشاعر على تغيير كلمة أو معنى. ليس المطلوب الاستبداد بالرأى؛ إنما الندّية وأن تكون الحالةُ وليدةَ التفاهم والكيمياء المشتركة. ما يحدث الآن أن كُتّاب الأغانى باتوا أضعف الحلقات، ولا يُجبَرون على التغيير فقط؛ إنما على التفصيل وتعبئة ألحان جاهزة، وأحيانًا يسبق التوزيع مرحلتى التلحين والكتابة أصلاً. ولأن الكلمة تراجعت للهامش؛ فقد تجرّأ عليها الجميع، وبات مُطربون ومُلحّنون يستسهلون الكتابة بدلاً من الاستعانة بشُعراء مُحترفين. هذا التحوُّل وليد الاستخفاف وازدراء الشعر؛ فقديما جرّبت أم كلثوم وعبدالحليم وغيرهما التلحين ثم توقفوا؛ لكنهم لم يتجرأوا على الشعر قطّ كما يحدث الآن.
 
يزيد فداحة الأزمة، أن الصناعة باتت مُغلقةً على دوائر الأصدقاء، ولا ثغرة مُتاحة لينفذ منها جديد فى الأفراد أو الأفكار. ما يتردّد عن أسعار مُؤلّفى الأغانى والمُلحّنين فيه ما يُبرّر الحصار والاحتكار؛ لا سيما مع أثر الشركات والمُطربين العرب على رفع الأجور لحدودٍ فلكيّة مُبالغ فيها. بعض الكُتّاب يتقاضون بين 7 و10 آلاف دولار عن الأغنية، وفى الداخل بين 50 و100 ألف جنيه، ويصعب توثيق ذلك أو مُحاسبتهم ضريبيًّا عنه بسبب ألاعيب صياغة العقود؛ لكن بعضهم يخوضون نزاعات مُتجدّدة مع مصلحة الضرائب. والتبرير لتضخُّم الأجور أن المُطربين يتربّحون باستمرار من الحفلات، على عكس الشعراء والمُلحّنين، رغم أن بعضهم يتقاضون بالفعل أرقامًا ضخمة عن حقوق الأداء. ما يعنينا فى مسألة الأجور ليست أرباحهم؛ إنما تأثير ذلك على السوق بفعل ما يُمارسونه من إغلاقٍ مقصود، وما يتبعه من سدّ المنافذ على الهُواة والموهوبين؛ بينما لا يستثمرون انفرادهم بالمجال ومكاسبه الضخمة فى التعلُّم وتطوير مهاراتهم وإجادة عملهم؛ بعيدًا من الركاكة والتكرار والسطحية المتسيّدة.
 
ليس معقولاً أن يُغنّى كل المطربين أغنيةً واحدة. حياة الناس لا تدور فى حيِّز الغَزَل والهجر والخصام فقط، ولا بالطريقة المُعلّبة التى يُقدّمها كُتّاب الخواطر الغنائية الآن. على كثرة ما أحبَّ وخاصم مُطربونا القدامى، لن تجد أغنيةً تُشبه أخرى، ولا فراقًا يتكرّر كأن مشاعرنا لم تغادر روضة الأطفال.. لعلّ الإقبال الكاسح على المهرجانات و«الراب» يعود لاختلاف الموضوعات وطزاجة الكلمات؛ لا سيّما أن الملحنين اقتبسوا أجواءها الموسيقية ولم ينجحوا أيضًا. والأعمال الباقية من أرشيف نجوم الحاضر لا تختلف عن أعمالهم الباهتة الآن إلا فى الأفكار والكتابة. قد يكون الحكم قاسيًا لكنه ضرورى؛ محنة الغناء الحالية سببها من يتصدّون للكتابة دون طاقة أو مهارة، ودون مقدرة على التجويد والإضافة.
 
المُحزن أن مصر لا تنقصها المواهب. صحيح أن شعر العامية الآن ليس فى أفضل حالاته؛ لكن يظل ما يطرحه من موضوعات وتقنيات وجماليات، أفضل وأقيم من كل ما يُعيد كُتّاب الأغانى إنتاجه من رسائل وتعبيرات بالية. أمر مُؤلم أن يحتكر سوق الغناء عشرة أو عشرون كاتبًا أغلبهم مُتواضعون، بينما فى كل محافظة مصرية عشرات الشعراء الشباب ممّن يفوقونهم وعيًا وإبداعًا وقدرة على التجديد. ثمّ فى كل موسم يُبارك صُنّاع الأغانى الباهتة لبعضهم، ويتبادلون التهانى على النجاح. بينما «الانفراد بالمنافسة» يخصم من أى نجاح، وسرعة الذهاب إلى النسيان تخنق أى حديث عن الجدارة والاستحقاق.
 
لن يكون كافيًا للردِّ القول إن الأغنيات تُحقّق انتشارًا على المنصَّات، أو أن حفلات النجوم خارج مصر وداخلها كاملة العدد. سوق المحتوى تنتفخ بطلبٍ غير محدود، حتى أن قنوات وحسابات بعض المُؤثّرين، الذين لا يُقدّمون شيئًا ذا قيمة، تُحقّق مئات ملايين المُشاهدات، وقد تفوق بعضها حصيلةَ أغنيات موسم بكامله، كما أن الجمهور مُتعطّشون للبهجة، ويُحبّون مُطربيهم، وفى سبيل ذلك قد يتغاضون عن أى شىء ويُبادرون لحفلاتهم. المعيار الوحيد أن تبقى الأغنية فى الذاكرة، وأن يُردّدها الناس طويلاً، وأن تُحافظ على مكانها بين تفضيلاتهم مهما تتابعت المواسم وتراكمت الأعمال، وفى ذلك قد تكون المهرجانات وأغنيات «ويجز» ورفاقه أنجح وأبقى.
 
لا يُمكن إنكار أنّ تغيُّر اقتصاديات الصناعة ترك أثرًا على عملية الإنتاج؛ لا سيما مع تراجع سوق الكاسيت والأسطوانات، وتسيُّد البثّ الرقمى، وزيادة القرصنة وضعف ثقافة الدفع مقابل المحتوى. لكن ذلك قد يُبرّر تراجع النشاط، أو التحوُّل من «الألبومات» إلى الأغانى الفردية و«كليبات الجرافيك» الفقيرة؛ إنما لا يُبرّر ضعف المستوى، وفقر الإبداع فيما تبقّى من أغنيات قليلة تُطرح على فترات مُتباعدة. كما لا يُفسّر صيغة «الشلّة المُغلقة» لكل مُلحّن، ولا خضوع المُطربين لتلك الدوائر وتقصيرهم فى استكشاف الجديد والمُبتكَر. كان المُعتاد أن يختار المُغنّى كلماته ثم يُشرف على تلحينها وتوزيعها؛ اليوم قد يسمعها لأول مرة داخل الاستوديو قبل أن يضع صوته عليها. تحوّلت العلاقة من دوران المنظومة فى فلك النجم صاحب الرؤية والمشروع، إلى أن يكون هو نفسه فى خدمة المُلحّن وشِلَّته.
 
كيف نُعالج ذلك؟ لا حلّ إلا فى المنافسة؛ ولا منافسة من دون فتح الأبواب لآخرها. كل برامج اكتشاف المواهب طوال ثلاثة عقود أو يزيد كانت تهتم بالأصوات، وتنتقيها على ألحان وكلمات قديمة، ولم يلفت ذلك نظرنا إلى ضرورة أن ننتقى المُلحّنين والشعراء كما ننتقى المُطربين والمطربات. نحتاج برامج نوعية لاكتشاف وتأهيل وصقل مهارات كل أضلاع صناعة الغناء؛ ليكن ذلك من خلال مسابقات نوعية خاصة، أو بتطعيم المسابقات القائمة بمجالات تنافس تهتمّ بالموهوبين فى الكلام والأنغام. ثم يأتى دور التقنية التى يسَّرت الإنتاج، ودور الشركات، ووزارة الثقافة ومسرح الدولة، وحفلات الهواة وبرامج التليفزيون، فى تسويق تلك المواهب ورعايتها، وتمكينها من الوصول للناس بمعروض أكثر تنوُّعًا، قد يتضمّن المُدهش الفارق، وقد يبدأ عاديًّا ويتحسّن مع التجربة، المهم أنه سيخلق منافسةً أوسع تُعيد ترتيب السوق وهيكلتها، وتُجبر المُتحقّقين وأغنياء الاحتكار الطويل على مُغادرة الركن الآمن، وخلع العباءات المُستهلَكة، والبحث عمّا يصلح للتنافس ويبقى فى الوجدان.
 
الفن ليس رفاهية، والغناء بوجهٍ خاص. أثار الحوار الوطنى موضوعات الهويّة والصناعات الثقافية، وإذا كُنّا نتحدث عن أبعاد شخصيّتنا الحضارية والثقافية؛ فإن الإدهاش والأصالة، وامتلاك ناصية الإبداع والريادة عربيًّا، تُشكّل أهم عناصر الحالة المصرية. حتى الآن لا تزال «أم كلثوم» وجيلها فى واجهة الإقليم؛ لكن بعض غنائنا الحديث لم يعد كذلك. تجاربنا السابقة تأسَّست على أكتاف شُعراء مُثقّفين وذوى رؤى جادة، والواقع الآن أن أغلب من يرسمون خريطتنا الوجدانية يكتبون ما لا يتجاوز خواطر طلبة الجامعة، ويفتقرون لأبسط الأدوات فى عناصر الشعر واللغة والأوزان، ناهيك عن ضحالة الأفكار والتعبيرات والصور. مصر التى قادت غناء العرب عقودًا، قادرةٌ على تجديد دم المنطقة بكاملها، المهم أن نبحث عن بدائل أكثر جودة من كُتّاب «الكلام الساكت»؛ حتى لا نظل أسرى لاستهلاكيّة وضحالة وشبكات المُنتفعين من «الغناء الساكت».









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة