قصة "سره الباتع" لـ يوسف إدريس.. الجزء السادس

السبت، 01 أبريل 2023 04:30 م
قصة "سره الباتع" لـ يوسف إدريس.. الجزء السادس سره الباتع
كتب بلال رمضان

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

سره الباتع.. قصة للكاتب الكبير يوسف إدريس، تحولت إلى مسلسل للمخرج خالد يوسف بعد مرور 65 عامًا على صدورها ضمن مسلسلات رمضان 2023، وتزامنًا مع عرض مسلسل سره الباتع، ينشر "اليوم السابع" قصة "سره الباتع" التى نشرت لأول مرة عام 1958 ضمن مجموعة قصصية بعنوان "حادثة شرف".

سره الباتع لـ يوسف إدريس.. الجزء السادس

وبعد سنين كثيرة وسنين، كنتُ في إجازة في البلدة ذات صيف، وعدتُ إلى البيت بعد المغرب فوجدتُ رجلًا غريبًا جالسًا في وسط الدار يلْتَهِم لُقَم العَشاء بسرعة وتوحُّش.

ولم أستغرب لوجود الرجل، فقد قلتُ إنَّه لا بد واحدٌ من ضيوف جدي الغريبين، وكان جدي رغم مُضِيِّ كل تلك المدة لا يزال عجوزًا كما هو، ولا يزال يُزاوِل هوايتَيْه المحبَّبتين، شرب القهوة الحلوة خلسة، واستضافة الغرباء، وكانتْ هوايته الأخيرة هذه مبعثها حبُّه الشديد للحديث، كانتْ لذَّتُه الكبرى أن يجِدَ مستمِعًا ليحكي له، أو يجِدَ حاكيًا ليسمع له، وكان ساخطًا على بلدتنا التي لم يَعُدْ فيها أحدٌ يُحْسِن الكلام، وفي النهاية أنَّ مَن يُحسِنون فن الحديث قد ماتوا خسارة وتاواهم التراب، وتركوا جيلًا كالبهائم المكمَّمة لا يُجِيدون الكلام وكأنه بفلوس، ولهذا كان جدي شغوفًا بكل غريب يهبط إلى بلدنا، وكان نادرًا ما يهبط إليها غريب.

وما كان أسعدَه حين يتلَفَّتُ للسلام بعد صلاة العِشاء في الجامع فيَلْمَح بين صفوف المصلِّين غريبًا، فعادة الغرباء إذا هبطوا القرى أن يذهبوا إلى الجامع حيث فُرَص الاستضافة أكثر، وحيث يُمْكِن المبيتُ إذا لم يَجِدوا المضيافَ الكريم، وكان جدي ما يكاد يلمح أحدهم حتى يسحبه من يده إلى بيتنا، وكم من المشاكل كانتْ تنشب، ولكن كان لا بد أن تُوقَد النار في النهاية ويتعشَّى الضيف، وتوشوش كنكة القهوة على مهلها في النار ويتكئ جدي على مسندين ويُخرِج صندوق «المضغة»، ويروح يلوك أوراق الدخان التي قضى ساعات كثيرة من اليوم يدقُّها في الهون ويُضِيف إليها التوابل، ولا بد أن يحضر جدي للضَّيْف كيفَه، سجائر إذا كان يدخِّن، وجوزة إذا كان من كيْفِه المعسِّل ويبدأ بهذا الكلام.

وغريبٌ أمر هؤلاء الناس الذين كانوا يَفِدون على بلدنا؛ إذ هم في العادة لم يكونوا يزورونها لقضاء عمل معيَّن، هم فئة عجيبة من الناس تلفُّ القرى وتقضي في كل قرية ليلة، ومعظمهم لا يُجِيدون حرفةً ما، أناس هائمون على وجوههم هكذا، أو كما يقولون سائرون بلاد الله لخلق الله، بعضهم لصوص تابوا، وبعضهم عُمَّال من المدينة عاطِلون، وبعضهم عندهم لَوْثة، وكثيرون فلاحون أفلسوا من كار الفلاحة الشاقِّ ولم يُوَفَّقوا إلى عمل آخَر، ولكنَّهم يتَّفِقون جميعًا أنَّ لكلٍّ منهم قصةً، وقصة في أغلب الأحيان رهيبة دامية؛ أزواج عشِقَتْ زوجاتُهُم عليهم وطردَتْهم بعدَما جرَّدَتْهم مِن كل ما يمتلكون، أناس يقولون إنَّهم محكوم عليهم بأن يظَلُّوا تائهين في بلاد الله هكذا إلى أن يَحِين أجلُهم، وتسأل عمَّن حكم فيقولون: هو، فتقول: مَن هو؟ فيقولون: هو والسلام! أناس تلمح في عيونهم نظرة حائرة تائِهة غير مستقرة، نظرة كلب ضال، نظرة مَن لا يعرف له بيتًا ولا أهلًا ولا أحد وراءه يهمُّه أمرُه، نظرة مَن لا يعرف إلى أين المصير ولا يهمُّه أبدًا إنْ كانتِ الشمس ستشرق مرة أخرى.

ولعلَّنِي ورثتُ تلك الهوايةَ عن جدي، ولكنَّ متعتي الكبرى أنا الآخَر كانتْ أن أربض بجواره إذا جاء الغريب، ولا تستطيع قوة في الأرض أن تنتزعني من مكاني أو تمنعني من سماع حديث الغريب أو تأمُّل هيْئَته أو قراءة ما يَدُور في وجهه.

تلك الليلة أيضًا جلستُ أحدِّق في الغريب الجديد، كان يرتدي جلبابًا قديمًا من العبك، وعمامة حمراء فيها قطعة سوداء من الخلف، ولم يكن مظهرُه يدلُّ على حيرة أو جنون، عيناه فقط كانتا مطبقتين على الدوام، لا يفتحهما إلَّا حين يتكلَّم حتى إذا ما سكت أطبق أجفانَه في الحال.

وكانتْ لجدي طريقةٌ ساحِرةٌ في بدء الكلام وفك عُقَد اللسان.

فهو يظلُّ ساكتًا حتى يتعشَّى الغريب ويشرب شايَه أو قهوته ويأخذ أنفاسًا من الدخان، وغالبًا ما كان الرجل يتكلَّم بعد هذا من تلقاء نفسه، ودون حاجة إلى سؤال، ومعظم هؤلاء الغرباء إذا تحدَّثوا كانوا لا يُبالِغون، ولا يَكْذِبون، وكأنهم يدركون أنها ليلة، مجرد ليلة، وأنَّ المستمع رفيق طريق، مجرد رفيق طريق، ومهما كان في المبالغة والكذب من روعة، فلا شك أنَّ أرْوَع شيء عند الإنسان أن يُتَاح له ذات مرة أن يقول الحقيقة دون أن يجرَّ عليه قولُها مسئولية أو متاعب.

قال الرجل إنه من الفيوم، وإنه ذاهب إلى الشام في حب الله، وإنه سار على قدميه خمسين يومًا وأمامَه مسيرة مائة يوم بإذن الله، ولم يكن حديثه مُسلِّيًا، كان يتكلَّم ثم يصمت ويغلق عينيه دون أن ينتهي الكلام.

وبدأ جدِّي يتثاءب، وكنتُ لا أستطيع الكلام، فجدِّي كان قد نبَّه عليَّ ألف مرة ألَّا أفتح فمي إذا كان أحدُهم يتكلَّم وأنَّ عليَّ أن أجلس فقط وأستمع.

وكثيرًا ما كان يؤدِّي الحديث إلى سكوت، ويطول السكوت والنار قد تحوَّلتْ إلى جمرات، والجمرات غُطِّيَتْ بطبقة رقيقة من الرماد، والليل ساكن ونقيق الضفادع يملأ الليل بنغمة منظَّمة عميقة كأنه شخير الأرض التي نامت وراحت في النوم.

وفي نوبة سكوت طويلة أطلقْتُ السؤال الذي أرَّقَني طويلًا فسألته: لماذا العمامة الحمراء ذات القطعة السوداء من الخلف؟

فقال: «لبسنا كده.»

ورأيتُ جدي يعتَدِل وينفض عن نفسِه النُّعاس ويسأله باهتمام: «أنت من أنهي طريقة؟ وده لبس مين؟»

وفتح الرجل عينيه وقال: «احنا مش طريقة، احنا ولاد السلطان حامد، مالناش طريقة.»

وبدَتْ لي إجابتُه عادية جدًّا لا تستدعي حتى مجرد التعليق.

ولكني في اللحظة التالية كنت أنتفض.

وجلستُ على قرافيصي وأمسكتُ الرجل من يديه وأنا أستحلفه أن يروي لي كل شيء عن السلطان.

واستمع لي الرجل وهو يحدِّق ناحيتي بعينيه المغلقتين حتى خُيِّل إليَّ من طول ما جلس أنه بلا حراك، ولكن بعد أن انتهيتُ رفع رأسَه وواجَهَني، كانتْ عيناه محمرَّتين، ولكنه لم يكن يبكي وصرخ فيَّ فجأة: «وتتهجم على السلطان بالشكل ده ليه؟!»

وأفهمتُه بخفوت أني لا أتهجَّم، أنا فقط أسأل.

وعاد يقول بغلظة وغضب: «وأنت مالك وماله؟! ما تخليك في حالك وتسيب الناس في حالها!»

وأجفلتُ.

وقال جدي: «مافيهاش حاجة يا سيدنا، دا بيسأل، هو السؤال حرام؟! قول له.»

وفجأة أيضًا سكت الرجل، وسقط رأسُه على صدره وهو يقول بصوت باكٍ وكأنه يؤنِّب نفسَه: «أيوه، أقول له، أقول له، أقول له على حبيبي السلطان، دا كان يا بني راجل مبروك.»

فقلتُ بانفعال: «مبروك ازاي؟ له معجزات؟»

فقال: «مبروك! ما تعرفشي يعني إيه مبروك؟! أمال أفندي إيه؟! بقى اللي شتِّت العدوِّين ما يبقاش مبروك؟! بقى اللي هزم الكُفَّار ما يبقاش مبروك؟! أمال أنت اللي مبروك؟!»

فقلت وأنا ألهث: «مين العدوِّين دول؟»

فصرخ فيَّ: «ما نتش عارف مِين العدوِّين؟! حد ما يعرفش العدوِّين؟! دا أبو باع طويل ومدد واسع هو اللي هزمهم، يا بو مدد واسع، شالله يا اهل الله، شالله يا سلطان حامد، يا هازم الكَفَرة، مدد يا حبيبي يا سلطان، مدد على طول الماداد ماداد!»

وكان صوتُه قد ارتفع حتى قارَبَ الأذان، ومضى يقول وحنجرته الكبيرة تتلاعب هابطة صاعدة بارزة كالورم من رقبته الطويلة: «ماداد يا سلطان يا بو مدد واسع، ماداد على طول المدد، ماداد يا بو مقامات عالية في مصر وسوهاج وأشمون وكل البر، الناس لها مقام واحد وأنت ليك ألف، يا حبيبي مداد.»

ولم نجرؤ على قطع الرُّوحانية التي انتابتْه وكان واضحًا أنه لا يهلوس كما يفعل المجاذيب في الموائد، كان يبدو صادقًا ويبكي بكاءً حقيقيًّا.

وحين هدَأَ واطمأْنَنْتُ إلى أنَّ هدوءه دائم عدتُ أسأله، وأدهشني أنه راح يُجِيبني كالمغلوب على أمره وبصوت يحفِل بالندم والتوبة، ولكن إجاباته لم تشفِ غليلي، وقال شيئًا كهذا: «لما الغُزاة العدوِّين هجموا على مصر، قام لهم السلطان حامد، وأصحابه، وقال لهم والله ما تدخلوا إلا على جثتي.

بصوا العدوِّين لقوه بجلابية استهتروا بيه، طلع له واحد منهم ورفع عليه سيفه شد منه السيف وتناه، جه العدو يزقُّه فحس أن الجبل يتحرك وهو لم يتحرك عن مطرحه قيراط، طلع له عشرة يزقُّوا فيه ما ينزق، بص قائدهم لقي رجليه غارزة في تراب البر ورأسه محصله عند عنان السماء وبيقول: «والله لو جبتوا قد جيشكم ده آلافات ما تقدر جيوش الدنيا كليتها تلحلحني عن تراب البر»، فضلم يفكروا يعملوا إيه في غريمهم ده، نط عجوز منهم وقال لهم: أنا لفيت الطريق يا رفاقه، وعرفت أجيب داغه، قالوا: ازاي؟ قال دا جسمه طاهر ما يأثر فيه السيف طول ما هو طاهر ما ياخد السلاح فيه إلَّا لما يتنجِّس، قالوا: ازاي؟ قال أنا الكفيل، أنا ح بول لكم على رجله أنجسها، والشاطر اللي ورا بولي يضرب بالسيف، وقف العجوز النجس يبول على رجله ومن وراءه سيف غدار ضرب ضربة طير الرِّجْل، قال لهم سلطاننا حامد: «وإيه يعني؟! دي رجل راحتْ ولسه ليه رِجْل.» ورجع خطوة، وبالطريقة هياها قطعوا له إيد، ضحك وقال لهم: «ما لسه لي إيد! والله يا كفار يا عدوِّين، لأورِّيكم، ولم أخلي فيكم إيد ماسكة إيد!» وفضل العجوز النجس يتبول والسيوف وراه تندب، وجسمه الطاهر في كل بلد ان دارت فيها الحرب يتقطع واللي غفل عنه العدوِّين ان كل حتة انقطعتْ كانت بتكبر وتبقى راجل يحارب الكفرة ويهجم على العدوين ويقول أنا ابن أبونا حامد، أنا السلطان، أنا اللي ح وريكم نجوم حمرا في عز الضهر! وقطَّعوه قطع ملايين، وكل قطعة بقتْ راجل، ولما حصَّلوا رأسه كانوا حصَّلوا الشام، وكانوا ولاده بقم آلافات، قاموا على العدوِّين وكل واحد يتلم على واحد ويشيله من فوق راسه ويرميه في قاع البحر.

ولما خلص العدوِّين واتنضف البر قال: «نحمدك يا رب!» وطلع منه سر الإله على طول.»

ونام الرجل فجأة.

وجدتُ رأسَه يسقط على صدره وشخيره يتصاعَد بلا سابق إنذار.

ولم أَكَدْ أستعيد حكايته لأفكِّر فيها وأستعيد التاريخ لأخمِّن مَن يكون «العدوِّين» حتى وجدتُ رأس الرجل ذا العمامة الحمراء يرتفع مرة واحدة وصاحبه يقول وكأنَّه يتكلَّم وهو نائم: «وحِّد الله، سيبك! قول: يا باسط، اللي يزرع الجميل عمره ما يحصد غدر، والناس ما بتنساش، قدِّم لهم السبت تلاقي ألف حد قدامك، وكله فدا السلطان، ماداد يا سلطان يا حبيبي على طول المدد ماداد!»










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة