أكرم القصاص - علا الشافعي

محمد حبوشه

"الشهداء".. قناديل تضىء سماء المجد والحرية

الجمعة، 10 مارس 2023 01:49 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

لا تبكه فاليوم بدء حياته، إن الشهيد يعيش يوم مماته، لذا فإن الشهداء وحدهم الذين عرفوا طريق الجهاد، وما رضوا بغيره طريقا، وهم الذين نظروا بعينهم أن لا عيش فى هذه الدنيا إلا عيش الأحرار، ومن ثم فإنهم أدركوا قبل غيرهم حقيقة أن ليس المهم أن يموت أحدنا، بل المهم أن تستمروا، فقد خلقت أكتاف الرجال لحمل البنادق، فإما عظماء فوق الأرض أوعظاما في جوفها، لأجل ذلك فضلوا الموت وسلاحهم بأيديهم، لا أن يحيوا وسلاحهم بيد عدوهم، انظلاقا من قاعدة "إن الغزلان تحب أن تموت عند أهلها، أما الصقور فلا يهمها بأي أرض تموت"، وكأن لسان حال كل واحد منهم يقول: "لست آسفا إلا لأننى لا أملك إلا حياة واحدة أضحى بها فى سبيل الوطن".

لأجل ذلك تبقى صفحات الشهادة في تاريخ الشعوب من أصدق الصفحات، إن لم تكن أطهرها على وجه الإطلاق، خاصة أن مسيرة الشهادة في التاريخ العربي لم تنته بعد، ففي كل مرحلة تعرضت فيها الأمة العربية للغزو الخارجي، كانت تدرأ خطر هذا الغزو بالشهادة، جاعلة منها عنوانا للتضحية والفداء، وطريقا للحرية والاستقلال، وصونا للكرامة والعزة الوطنية، وبقى الشهداء كما يقول "القروي" أنجما زهرا، أنارت الطريق لمن تلا، ومهدت النهج العربي الأصيل لمن أتى.

وفي كل معركة من معارك التاريخ العربي، كان الشهداء هم صناع التحرير وبناة المستقبل، يضحون بأرواحهم لتحيا الأجيال من بعدهم حياة كريمة، حرة أبية، ولعل حركة المقاومة العربية للاستعمار الأجنبي أفرزت تيارا شعريا جديدا، أطلق عليه "الشعر الوطني" الذي اتصف بالوطنية والإحساس بقضايا الأمة التحررية، فقد انبرى الشعراء مدافعين عن حق أوطانهم ضد قوى الاحتلال الغاشمة، وقد غدا هذا النوع من الشعر بمثابة "ثورة" ولدت من رحم آلام الأمة ونزوعها للحرية والاستقلال، بل إنه اعتبر مرتكزا شعريا حرك الملايين بعد أن تاهت في غياهب الاحتلال. ‏

ولايكفي الحديث في يوم الشهيد - 9 مارس الذي كنا بصدده أمس - عن الشهادة وحدها ومجابهة الموت في حد ذاته، بل لابد لنا من وصف كيف يقضي الجندي حياته مقاتلا بالبندقية في ساحات المعارك والكلمة في ساحات المجد والفخار، كما وصفهم عبد الرحيم محمود قائلا: ‏

سأحمل روحي على راحتي

وألقي بها في مهاوي الردى ‏

فإما حياة تسر الصديق

وإما ممات يغيظ العدى

وشيئا من هذا القبيل عبر عنه "عمر أبو ريشة" قائلا: ‏

يادماء النسور تجري سخاء بغرام البطولة الفضاح ‏

ياشهيد الجهاد ياصرخة الهول ‏

إذا الخيل حمحمت في الساح ‏

كلما لاح لكفاح صريخ ‏

صحت لبيك ياصريخ الكفاح ‏

ويضيف سميح القاسم من البيت شعرا: ‏

خلوا الشهيد مكفناً بثيابه خلوه في السفح الخبير بما به ‏

لاتدفنوه وفي شفاه جراحه تدوي وصية حبه وعذابه ‏

لكن يبقى الأجمل ما كتبه الشاعر العراقي الكبير "محمد مهدي الجواهري" في جعل الشهادة جزءاً من التجربة السياسية الشعرية: ‏

أتعلم أن جراح الشهيد تظل عن الثأر تستفهم ‏

أتعلم أن جراح الشهيد من الجوع تهضم ماتلهم ‏

تقحم لعنت أزيز الرصاص وجرب من الحظ مايقسم ‏

كما أن ليوم الشهيد - في رؤية الجواهري - تاريخاً يؤرخ حكاية الأرقام ويزهر علم الحساب وتتفاخر به الأقلام: ‏

يوم الشهيد تحية وسلام بك النضال تؤرخ الأعلام ‏

بك والضحايا الغر يزهو شامخاً علم الحساب وتفخر الأقلام ‏

أما "بدوي الجبل" فيرى أن الشهادة والكرم صنوان لاينفصلان وقيمتان عظيمتان: ‏

يعطي الشهيد فلا والله ماشهدت عيني كإحسانه في القوم إحساناً ‏

وغاية الجود أن يسقي الثرى دمه عند الكفاح ويلقى الله ظمآنا ‏

فهؤلاء الشهداء الأبرار جعلوا للشهادة معنى جديدا، تميز بالموقف الذي اختاروه طواعية، ليمهدوا طريق الوطن، ويوما بعد يوم تنضم إلى قافلة الشهداء أسماء جديدة، من شأنها أن تعبد طريق المجد والفخار لقوافل الشهداء التي لحقت بهم إلى دنيا الخلود، لتكتب تاريخ الوطن وتاريخ الأمة بأحرف من نور ونار، نور يضيء طريق الأجيال، ونار تحرق أعداء الحرية والشعوب.

ومن بين ثنايا السماء الواسعة أشرقت أشعة الشمس، ذلك اليوم، باهتة منكسرة، على وجوه سمراء لفحتها حرارة حارقة، وعيون ساهرة باتت تحرس في سبيل الله، ابتسامات بريئة لشباب في عمر الزهور يحملون الخير والوطن في خريطة منقوشة على جدران قلوبهم، نفوس تحمل طيبة وادي النيل تؤدي واجبها الوطني، في حياة لم ترسم ملامحها بعد.. تنطلق رصاصات الغدر في سيناء وتسلب منهم أحلامهم وآمالهم، ليعودوا بعدها لأهلهم في أكفان بيضاء كبياض قلوبهم وأحلامهم، وتتساقط الدموع عليهم حارقة، كشمس أغسطس، مالحة كالبحر الميت، مختلطة بدماء طاهرة تصبغ الأرض بلون كئيب يبدو أنه لن يزول سريعًا، لتكتب به نشيدًا لا يموت.

وإضافة لما سبق، كتب عدد كبير من الشعراء قصائد يخلدون فيها ذكرى شهداء سلبهم الغدر الحياة وتحمل بين طياتها أصوات المناضلين وصرخات الوطن وبكاء الأمهات.

محمود درويش قصيدة "عاد في كفن":

يحكون في بلادنا يحكون في شجن، عن صاحبي الذي مضى وعاد في كفن، كان اسمه.. لا تذكروا اسمه!، خلوه في قلوبنا لا تدعوا الكلمة تضيع في الهواء، كالرماد، خلوه جرحًا راعفًا.. لا يعرف الضماد طريقه إليه، أخاف أن ننساه بين زحمة الأسماء".

ياسين خضر "الرصاصة الغادرة":

"يا رصاصة غادرة.. دخلت في قلب قلبي.. وقلبي من نارها اتحرق، يا نور عنيا اللي راح.. يا حلم عمري اللي فجأة مني اتسرق، آه يا ضنايا.. هقول لمين بعد منك.. مين يا واد هيحجج أمك".

هشام الجخ "انسحبوا):

"ارجع يا جندي بيادة دخل العدو العريش، ارجع خلاص بزيادة.. العسكري سامع لكنه واد مجدع شال آر - بي - جيه، وضحك إشمعنى أنا اللي أرجع؟، الدبابات كترت والكترة غلابة، والقلب لو مؤمن ولا ألف دبابة حتقولوا مات الولد أنا أقولكم لا.. عاش .. ما الجنة ولا فيها موت ولا تتدّخل ببلاش".

عبدالرحمن الأبنودي:

"ويا اللي قتلت المساكين، لا قلت دول مين ولا كم؟ يا زارع الدمّ في الطين بكرة حيصبح شجر دم".

فؤاد حداد قصيدة "بالعبري الفصيح":

"ما بكيتش ولا بكيت ما نسيتش ولا نسيت بابص فجأة لقيت موتي بقوا أحياء، بحر البقر أطفال، وأبوزعبل العمال وسينا حاضنة رجال، مظاهرة الشهداء، بيصرخوا في دمنا ما تهربوش مننا إحنا اتقتلنا هنا يا أيها الجبناء".

أمل دنقل "مقتل القمر":

"وتناقلوا النبأ الأليم على بريد الشمس، في كل مدينة (قتل القمر) شهدوه مصلوبا تتدلى رأسه فوق الشجر، نهب اللصوص قلادة الماس الثمينة من صدره، تركوه في الأعواد، وتدلت الدمعات من كل العيون كأنها الأيتام أطفال القمر، وترحموا وتفرقوا، فكما يموت الناس مات، وجلست أسأله عن الأيدي التي غدرت به لكنه لم يستمع لي، كان مات".

صلاح جاهين "الرباعيات":

"على رجلي دم.. نظرت له ما احتملت، على إيدي دم.. سألت ليه؟ لم وصلت على كتفي دم، وحتى على راسي دم، أنا كلي دم، قتلت؟ ولا اتقتلت؟ وعجبي".

سميح القاسم:

"خلو الشهيد مكفنا بثيابه، خلوه في السفح الخبير بمابه، لا تدفنوه، وفي شفاه جراحه تدوي وصية حبه وعذابه، هل تسمعون؟ دعوه نسرا داميا بين الصخور يغيب عن أحبابه، خلوه تحت الشمس تحضن وجهه ريح مطيبـة بأرض شبابه، لا تغمضوا عينيه إن أشعة حمراء ما زالت على أهدابه، وعلى الصخور الصفر رجع ندائه يا آبها بالموت لست بأبه، خذني إلى بيتي، أرح خدي على عتباته، وأبوس مقبض بابه، خذني إلى كرم أموت ملوعا مالم أكحل ناظـري بترابه".

وفي استعراض بعض من صفحات مجد الشهداء لابد أن نتوقف عند الشهيد عبد المنعم رياض "أيقونة الشهداء"، و"حكيم العسكرية" في ذكرى اليوم الذي عادت روحه الطاهرة إلى بارئها فيه، فعامة الناس تعيش وتموت، لكن الصفوة وحدهم هم من يختصهم القدر بالخلود، فيصبح الفرد إنسانا ويعيش مناضلا، ويموت بطلا أو شهيدا، وفي "يوم الشهيد" لايمكننا أن نتجاهل البطل والرمز، الذى يوافق يوم 9 مارس، ذكرى استشهاده من عام 1969، على بعد 250 مترا من العدو المتربص بالقائد الملهم، وهو وسط جنوده، حيث نعرج على سيرته العطرة، وأهم أقواله وأعماله، حتى لحظة استشهاده على الجبهة بين جنوده وهو رئيس لأركان القوات المسلحة المصرية.

وتقرر في مثل هذا اليوم 9 مارس من كل عام أن يقف جميع رجال القوات المسلحة بمختلف المناطق والمواقع دقيقتين حدادا علي أرواح الشهداء صباحا‏،‏ وتقام في اليوم نفسه عقب صلاة العصر صلاة الغائب علي أرواح الشهداء في جميع مساجد القوات المسلحة‏،‏ ولا عجب أن يتقرر أيضا بعد انتصار اكتوبر‏1973، إقامة أكبر وأحدث نصب تذكاري للجندي المجهول في عالمنا المعاصر‏، والجندي المجهول هنا هو رمز لكل شهيد معروف أو غير معروف ضابطا أو جنديا‏،‏ عسكريا أو مدنيا‏، والنصب التذكاري المقام بمدينة نصر هو تتويج للنصب التذكارية التي حرصنا علي إقامتها تخليدا لشهدائنا.

ونذكر على سبيل المثال نصب شهداء طلاب الجامعة المقام أمام جامعة القاهرة وهم الأبطال الذين تطوعوا في صفوف المقاومة الشعبية ضد الاستعمار البريطاني في قاعدة السويس في أوائل الخمسينات‏، ونذكر ايضا نصب الجندي المجهول لشهداء البحرية المقام بالأسكندرية عام‏1966‏ تكريما لأبطال البحرية المصرية الذين سقطوا في معركة البرلس عام ‏1956‏ ضد العدوان الثلاثي "الإنجليزي الفرنسي الإسرائيلي" علي مصر آنذاك‏.

وإذا كان جيلنا يتذكر جيدا الفريق أول عبدالمنعم رياض و اللواء مهندس أحمد حمدي، أحد عمالقة وحدات الكباري بسلاح المهندسين في حرب أكتوبر‏1973، وقد أطلق اسمه على النفق الذي أقيم في موقع استشهاده‏.‏. إذا كان جيلنا يتذكر جيدا مثل هؤلاء الشهداء‏، فالخوف كل الخوف أن تتواري ذكري شهداء أجيال سبقتنا علي امتداد تاريخ مصر الحافل بالشهداء‏، إن أسماء شهدائنا تشكل مفردات قاموس ضخم‏، لو أعددناه لأصبح موسوعة تاريخية لكل جيل‏، ماذا لو أعددنا لوحة شرف بشكل وحجم مناسب تثبت في بداية ونهاية كل شارع يحمل اسم شهيد من شهدائنا‏، ويسجل عليها في نقاط محددة ومركزة سيرة هذا الشهيد‏.‏. إن سيرة هؤلاء الشهداء في قاموس مكتوب‏..‏ أو على جدران شوارعنا‏، صفحات مفتوحة من تاريخنا القومي‏، تنبض بالحياة وإن فارق أصحابها الحياة‏..‏ ولعل هذا سر ديمومة هذا الشعب المصري العريق‏.‏

وأخيرا ألا تستحق تلك الأسماء أن تجسد في أعمال درامية تلفزيونية على غرار مسلسل "الاختيار"، فإن دراما مسلسل "الاختيار" التى صنعت بحرفية عالية فى مجمل تفاصيلها لخير توثيق لحياة شهداءنا، كما أن الدراما التليفزيونية تساهم في عملية البناء القيمى للإنسان بشرط أن تشتمل على مضمون جيد وهادف يعكس واقع القضايا والمشكلات في المجتمع الذى تقدم فيه، وبث القيم و السلوكيات الإيجابية الداعمة للمسئولية الاجتماعية للقائمين على العمل الدرامى، لذا يبدو حريا بنا تناول سير هؤلاء الشهداء الذين سالت دمائهم الذكية على تراب هذا الوطن دفاعا عن أمنه وأمانه.










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة