حازم حسين

هدنة الحرب وحروب الهُدَن.. عدوان غزّة وتجديد الخلاف القديم على سعر البشر

الأحد، 03 ديسمبر 2023 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
عادت الحرب فى غزّة، وعمَّا قريب ستتجدَّد الهُدنة، تختلف الرؤى بين الاحتلال والفصائل والرُّعاة والوسطاء الضامنين، وصراعُ الإرادات سيُبقى الجبهة بين شدٍّ وجذب؛ فلا شروط العدوان استُوفِيت ولا انطفأت بواعثُ الهدوء، والذين يُقرّرون فى تل أبيب إنما يهربون من أزماتٍ داخلية؛ بأكثر ممّا يحسمون تحدِّيات خارجية، وبالمثل فإن عقل «حماس» القابع على عُمق عشرات الأمتار فى تراب القطاع، يُدير معركةً يعرف أن معيارها النفس الطويل، وأنها لن تُحسَم إلّا بالنقاط، بعدما تأكَّد أنه لا أحد من طرفيها قادرٌ على تسديد الضربة القاضية. ولم يعد السؤال اليوم عن موعد النصر وصورته؛ لكنه عن الحدود المقبولة فى اقتسام الهزيمة، والإشارات التى يُمكن أن تنتهى عندها كلُّ جولةٍ، لتبدأ تاليتها، رغم اليقين النهائى بأنه لا فائز فى ختام الجولات.
 
مثلما أنهت إسرائيل ضربتها الأولى عند الذروة، افتتحت الثانية من أعلى نقطةٍ مُمكنة، قتلت زهاء مائةٍ ونفَّذت 200 غارة جوّية فى أول سبع ساعات، وتضاعفت الأرقام فى بقيَّة اليوم. ويبدو أنها اعتبرت الشمال مفروغًا منه، على عكس الواقع، وستُركِّز هجمتها على الجنوب رغم كثافة المدنيِّين فيه، وربما يعود ذلك لرغبتها فى تجنُّب الاستنزاف المُحتمَل شمالاً، ومحاولة امتلاك المُبادأة من خلال مفاجأة «حماس» فى خان يونس ورفح بعدما استعدَّت فى غزّة، والأخطر أنها تستهدف إيقاع أكبر عددٍ من الضحايا، استمرارًا لمُخطط الضغط على الحاضنة الشعبية، وتأليب الجمهور على فصائل المقاومة، ثم تمهيد الطاولة لجولةٍ جديدة من التفاوض تضمن لها مكاسب أكبر، سواء فى مسألة تبادل الأسرى أو فى نطاق الترتيبات الأمنيَّة وفاعلية الاتصال بين أجنحة القسَّام.
 
كان واضحًا منذ البداية أن التهدئة وقفةٌ موقوتة، وضعت حكومة اليمين سقفًا لا يتجاوز عشرة أيام، أمَّا حِسبة الفصائل فكانت تحدِّدها قوائمُ الأسرى، بالأعداد والفئات، والمتاح منهم لشراء الوقت، مُقابل الممنوع صرفهم انتظارًا لإنضاج ظروف التسوية الأخيرة، على هذا الشرط، كان محتومًا أن تعود إسرائيل للحرب بنهاية المُهلة، أو أن تُعجِّل المقاومةُ ميقاتها بالخلاف على قواعد المُبادَلة.. ومن خارج الإطار تقدَّم الوسيطان العربيان بوافرٍ من الأمل وحُسْن النوايا، ومحدوديةٍ فى التأثير على دوائر القرار من الناحيتين، أمَّا الضامن الأمريكى فظلَّ مُنحازًا لإبقاء الجَمر مُشتعلاً، ولو ادّعى الرغبة فى ألَّا تحترق كفوف المدنيِّين. وعمومًا فلم يطرأ فى أيّة لحظة ما ينفى العودة إلى الميدان، كما لا شىء إلى الآن يقطع بأنها مُواجهةٌ أبدية. ما أطفأ النار هو نفسه سبب تأجيجها، وسيعود إلى إخمادها ثم النفخ فيها مُجدَّدًا.
 
وقع الخلافُ الذى كان مُتوقَّعًا بشأن الأسرى، لم يُوفّر القسَّاميون عشرة نساء وأطفال لإضافة يومٍ جديد، ولم يقبل الصهاينة استكمال العدد بالمُسنِّين أو جثامين القتلى المدنيِّين، المُشكلة أن الطرفين لم يتعاملا مع الاتفاق كفاصلٍ بين حربين؛ بل أسرفا فى تسويقه تحت لافتة الانتصار الكامل، والطبيعى أن المُنتصِر لا يتقهقر أو ينزل على إرادة المهزوم. وإذا تعذَّر ترتيب الطاولة بالنقاش؛ فلا مفرّ من العودة إلى السلاح. ويُمكن أن نستقرئ مُقبلَ الأيام: سيُمهِّد الرصاص بيئةً جديدة للتفاوض، ثم تُبرَم الصفقةُ من مواقع مُغايرة، ويذهب كلُّ طرفٍ إلى المقايضة برأسٍ مُنكَّسٍ ولسانٍ مرفوع، وبعدها يأتى الانسداد وتكون الحرب حلًّا.. صحيح أنه قد يحدث فجأة ما يُغيِّر التتابع الزمنى، أو يُطيل حلقةً على حساب أخرى إلى أن تصيرَ وضعًا دائمًا؛ لكنه الاستثناء الذى لا يلغى التكييف الجديد، لناحية أنها مُنازلةٌ مُتعدِّدة الجولات، ستتخلَّلها هُدنات قصيرة أو طويلة، وربما تمضى فى الأخير إلى نهايةٍ مفتوحة؛ أى بدون إعلان واضح أو اتفاق مكتوب.
 
لا تخلو رُؤية الفاعلين فى تل أبيب وغزَّة من قصورٍ واختلالات. إذ يربطون الميدان بالأيديولوجيا والدعاية، ويعزلونه عن البراجماتية والسياسة. يدَّعى نتنياهو وحكومته أن استخلاص الأسرى إنجازٌ يُعوِّض انتكاسةَ الغلاف، ويتجاهل أن بقاء رهينةٍ واحدة ينسف سرديَّة الأمن والحماية واليد الطُّولى. وترى «حماس» تحريرَ بعض المسجونين انتصارًا للمقاومة وإذلالاً للاحتلال، وتتغاضى عن أنه عبَّأ الزنازين بأضعاف من أطلقهم. فى حِسبة الحرب لن تختلف القياسات: كلَّما تضخَّمت أكوامُ الجُثث وأطلال البيوت؛ سترقصُ إسرائيل فرحًا، ولن تتوقَّف أمام العار الأخلاقى وأعباء الإنسانية والقانون، وكلَّما صمدت الأنفاق تحت الرُّكام الثقيل؛ سيرفع الحمساويّون فى الخارج أصواتهم، حتى أن أنين الغزِّيين قد يضيع خلف جدار القوَّة المُصطنَعة. ومن نافلة القول أنه لا مُقارنة بين المُحتلّ والمُقاوم، لكنّ مقام البحث والاستفسار وتقييم المواقف، يقبل ما لا تقبله الاستقامة المبدئية، ولا طهرانيَّة الفرز بالعدالة والاستحقاق.
 
أكبرُ جرائم إسرائيل أنها تسترخصُ دماءَ الفلسطينيين؛ والحرب الدائرة اليوم خلافٌ على البشر أكثر ممَّا على الأرض، عندما بدأت المحنةُ بالعام 1948 طُرِد 700 ألف فلسطينى لصالح 650 ألف يهودى، ومن يومها بدأ السعر فى الانحدار؛ والمأساةُ أنهم فرضوا ذلك على الفصائل أيضًا، فاليوم يتعامل الصهاينة بأكثر من مُعادلةٍ: فى تبادل الأسرى وافقوا على «فردٍ لثلاثة»؛ لكنهم فى الحرب قتلوا 15 ألفًا حتى الآن مُقابل أكثر من الألف بقليل، وما يُدمِى القلب والوعى أن «حماس» تُجاريهم؛ فيصير الإفراجُ عن مائتين أكبرَ من اعتقال ألفين، وضربةُ «طوفان الأقصى» أهمَّ من كلِّ ما بعدها ولو أُبِيدَت غزّة، ربما لديهم من العقيدة والخطابة ما يُبرِّر اختلال الميزان؛ لكن الافتتان المُبالَغ فيه بعناوين الشهادة والفداء والذود عن حياض الإسلام؛ يُرسِّخ قاعدة الحساب التى أقرَّها الاحتلال، ويُزيِّف توازنًا معنويًّا لا يتحقَّق على الأرض؛ فكأنهم يأخذون ثأرهم خُطَبًا وشعارات، ويستوفى الصهاينةُ عدوانَهم نساءً وأطفالاً وبيوتًا تتهدَّم على رُؤوس ساكنيها.
 
حضر بلينكن إلى إسرائيل لثالث مرة، فى الأولى أعلن أنه يقف بصفته اليهودية قبل السياسية، وانخرط فى مجلس الحرب بعد ساعاتٍ من طوفان الأقصى، وفى الثانية أشرف على الهجمة البرّية فى أيامها الأولى، وتفاوض فى هُدنةٍ مُؤقَّتة شمالاً لتأمين نزوح المدنيين؛ لكن الثالثة بدت كما لو أنها تختم التهدئة وتُرتِّب لجولةٍ جديدة من الحرب، ما تقوله إدارة بايدن فى واشنطن تنقلب عليه فى تل أبيب، وادّعاؤها الدائم أنها تُقدِّم اقتراحاتٍ ولا تفرض شيئًا على حليفها؛ بينما الواقع أن اللوثة الصهيونية نتاجُ الإسناد الأمريكى، ولا يستطيع نتنياهو وجنرالاته أن يستكملوا مسارًا لا يقبله البيت الأبيض، وكما صِيْغَت التهدئة السابقة بالإنجليزية، كانت رسالة التسخين الجديدة باللغة نفسها، والذين يرعون إشعال النار بإمكانهم أن يُقرِّروا موعدَ الإطفاء.
 
إنَّ دور الولايات المُتّحدة يتجاوز حالة الوسيط النزيه؛ على ما تُحاول الإيحاء به، البوارج الواقفة فى المُتوسِّط والخليج، والقواعد النشطة فى العراق وسوريا، ثمّ إمدادات السلاح وخطط المساندة المالية، وأهم منها الغطاء السياسى اليوم فى أروقة الدبلوماسية، أو بحق النقض فى مجلس الأمن، والحصانة المستقبلية المطلوبة من قوانين الولاية الخارجية لبعض الدول وأمام المحكمة الجنائية الدولية، تُؤكِّد كلُّها أن العدوان الكاسح على غزّة يرتدى قبَّعةً أمريكية، وإن اتَّخذ وجهًا عِبريًّا.. وعلى القوَّة الأكبر فى العالم أن تكون أكثر جرأةً فى المُجاهرة واتساقًا فى إعلان المواقف، وأن تُناضل بجدّية لاستخلاص صورتها الأخلاقية من مخالب الصهيونية المُغرمة بالافتراس والدم، إن كانت الرواية الرسمية ترفض التهجير والاحتلال، وتنحاز إلى حلِّ الدولتين؛ فإن أيًّا من تلك الثلاثية لا ينسجم مع عودة العدوان، ولا مع أهداف نتنياهو المُعلَنة فى القضاء على «حماس» واستعادة الأسرى خارج التفاوض، وتكسيح القطاع إلى حدِّ أن يصير مُنسجمًا مع الاستراتيجية الأمنية لإسرائيل.
 
ما أفرزته سبعةُ أسابيع من القصف المسعور؛ أن الفصائل أكثر استعدادًا لمُخطَّط التصفية السريعة، ولن يكون «شريط غزّة» بيئةً صالحة للإقامة الطويلة؛ إن كان للجيش أو المُستوطنين. هكذا يسقط منطق الإخضاع بالإبادة، أو ضمان الأمن بإعادة الاحتلال؛ مع ما يكمن وراء ذلك من مخاطر الانفجار الكامل هنا، أو التفجير المُتدرِّج فى لبنان وسوريا وغيرهما، إذ تسمح التوازنات العسكرية القائمة بإطلاق مُواجهةٍ لا يُمكن التنبّؤ بمداها وما ستصير إليه، ويظلّ افتقاد المُبادرة السياسية الجريئة عاملَ خطرٍ دائمًا، ولا نيَّة لدى الطرفين لإغلاق برميل البارود؛ تحسُّبًا من أثر الشرارة الطائشة، برعونةٍ أو بخطأ فى الحسابات.. ويتغذَّى مناخ الفوضى والقلق على الراديكالية وجمود الخطابات العقائدية. لقد رفع الطرفان سقوفهما إلى المدى الأعلى، وينطلق حاخامات الاحتلال من مبدأ «كلّ شىء أو لا شىء»، وشيوخ الفصائل من تبييض السجون بعنوان «الكل مقابل الكل»، ولا يحضر الانكسار بين خيارات المقاومة، كما لا يُفكِّر التلموديّون فى منحها انتصارًا معنويًّا كبيرًا.
 
سارت الأمور فى مسارها المعهود؛ وستظلّ إلى أن تستنفد الحرب أوراقها وتكون السياسة خيارَ الضرورة. المهمُّ أن تُوضَع الدروس فى مصفوفةٍ قابلة للفهم وإنتاج الدلالات والمواقف: إسرائيل تتغوَّل على المنظومة الدولية لا الفلسطينيين وحدهم، والخطاب الذى يُقدِّمه رُعاتها والمُؤسَّسات الأُمميَّة هو فى جوهره دعمٌ لا حياد، وإن كان المُنحازون قد اتفقوا على وَصم المقاومة، بالمُخالفة للذخيرة الميثاقية والأخلاقية المُعادية للاستعمار والمُسانِدَة للتحرُّر؛ فلا مُبرِّر لأن يكون المدنيّون العُزَّل وقودًا لآلة القتل المُتوحِّشة. السؤال المُثار ما زال خاطئًا؛ إذ المُعضلة فى الاحتلال لا فى الفصائل ولا الأسرى، ويجب أن تُصاغ الإجابةُ من لُغةٍ لا تُجرِّد الأرض من هُويَّتها ولا تتعالى على مواجع أصحابها. لن تصمد أيّة صفقة مُبادلةٍ مُقبلة، ولن تُحَلّ الأزمةُ بشراء الوقت، بينما تُضمِر الصهيونيةُ نيَّةَ تكسير الساعات أصلاً.. ثمّة خللٌ يصعُب إنكارُه فى خطاب الفصائل، وقد تأسَّس على ضربةٍ جارحة يعقبها حصادٌ بالحوار، وكان فى وعى المحتلّ أن ينتقل من الجمود للابتلاع؛ فأتته الفرصة فى غلاف غزّة، بقدر ما تعرَّت التناقضات خلال الشهرين الماضيين؛ تكشَّفت الحاجة إلى مُقارباتٍ أعمق من تاريخ العدو، وأوسع من جغرافيا الضحية. توقَّفت الحرب لمُقايضة البشر، وتجدَّدت بسببها، ولن تنتهى لو أُغلِق الملفُ وابيضَّت السجون والأنفاق؛ إذ مع شعبين على خطِّ التماس يُمكن أن يتجدَّد مُسلسل الاعتقال والخطف، كما تتجدَّد المقاومة والعدوان منذ سبعة عقود، سنمضى على الأرجح إلى هُدنةٍ جديدة، يعرفُ الطرفان حدودها وما يُريدانه منها؛ وكانا طوال الوقت يستوعبان حدود صراعهما؛ لكن المطلوب أن يعرف العالم ويستوعب، وأن ينزع الغلالة السوداء عن عينيه، حتى لا يعتاد الظلام ولا تخاصمه نعمةُ البصر.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة