حازم حسين

جرس البناء فى رقبة مُقاول الهدم.. فلسطين والبحث عن فلسفة جديدة لإعمار القضية

الثلاثاء، 26 ديسمبر 2023 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ستتوقَّفُ الحربُ يومًا، بعيدًا كان أو قريبًا؛ لكن لحظة أن تسكتَ البنادق، ستندلع معركةٌ أحمى وطيسًا فى غزّة؛ أو بالأحرى ستتواصل بأشرس ممَّا ظلَّت لسنوات. إنها الحياة التى كانت قاصرةً، ومن أثر العدوان الأخير صارت أشدَّ قُصورًا.. وبينما يتعلَّق المُتحاربون بتلابيب النصر؛ يُهزَم القطاعُ وحده تحت أحذية الطرفين، ولا فارقَ بين أن يُحرقه العدو أو تكون نارًا صديقة؛ إذ النتيجة واحدة: تتخرَّب البيوت قصفًا أو فقرًا، ويموت الناس قتلاً أو تجويعًا. والمُقاربة الأخلاقية تبدو كما لو كانت مُتواطئةً؛ وإن بحُسْن نِيّة. كأنّنا فى عرضٍ مسرحى ستُسدَل ستائرُه وينفضُّ الجمهور، فيبكى على القبور من يُحبّون البكاء، ويقف على الأطلال من يتعجّلون ترتيب المسرح لمَقْتلةٍ جديدة. لعلَّها مُعضلةٌ عصيَّة على التوفيق: أن نكتُم نافورةَ الدم فورًا، وأن نبحث عن منابعها المستقبلية كأولويةٍ عاجلة. والجواب الوحيد عنوانه «فلسفة الإعمار».
 
فى كلِّ جَولةٍ سابقة؛ كانت إسرائيل تهدمُ البيوتَ على ساكنيها، ويتولَّى العالم عنها نجارةَ التوابيت وإزالةَ الركام. ولم تخلُ الصفقاتُ من منافع للسلطة أو الفصائل. أنشأت تلك الصيغةُ وضعًا طفوليًّا لا يتحمَّل فيه المُخطئون فواتير أخطائهم. والصورةُ أقرب لأُسرةٍ عوَّدت أولادها على الاتّكال واستحسنت شقاوتَهم؛ فكانت كُلَّما يُفسدون شيئًا تبتسمُ فى وجوههم؛ ثمّ تتكفَّل بالترميم وتعويض المُضارين. استمرأ الأشقياءُ اللعبة، وزادت الخسائر، ولم يشعر الضحايا بالقصاص العادل. والدرسُ الأوَّل فى الفلسفة الجديدة ألَّا يكون الحبلُ على الغارب، ولا النزوات مَوضعَ ترحيبٍ لَيِّن. حصانةُ الإعمار أن يتوافر فيه المَغْرمُ المُباشر والردعُ الاستباقى، فلا يعود سهلاً الانقضاض عليه بعدما دفع المُغامرون كُلفته، وعرفوا أنهم سيخسرون من مُغامرات المستقبل، ووقتها سيشعرُ الضحيّةُ الأَعزل بأنه آمنٌ نسبيًّا. وليس معنى ذلك أن ينفضّ الآباءُ ويغسلوا أياديهم تمامًا؛ إنما أن يكونوا مُشاركين وضامنين وحائطَ صدٍّ بالتساوى، وليسوا مُتفرّجين ولا دفاتر شيكات فقط.
 
الناظرون فى المحرقةِ من خارجها، يتخبّطون بين خللٍ فى الرؤية وسيولةٍ فى المفاهيم. كثيرون يختزلون الأزمةَ فى «طوفان الأقصى» وينسون أنها حصيلةُ احتلالٍ جاثمٍ على الصدور لعقود. وفريقٌ يتألَّم للنازفين فيطلب التهدئة دون معرفة ما بعدها، وآخرون يُثيرون سؤال «اليوم التالى» معطوفًا على الترتيبات الأمنية وعلاقة القاتل بالقتيل فحسب. ومُستقبل القطاع يجب أن يبدأ من تصويب مواقف الجميع: النزاع الراهن نتيجةٌ لا عارض، وتسويته النهائية مُستحيلةٌ دون تصفية أصل المُشكلة. كما أنّ وَقف الحرب ليس غايةً فى ذاته، ولا تعويل عليه إلّا بقدر ما يفتح الباب للسياسة، ويكشف عن مسارٍ صالح للتحسين والاستدامة. أمَّا مُستقبل «غزّة» فلا تحكمه سيطرةُ إسرائيل عليها، ولا بقاء «حماس» من عدمه؛ بل أن يبقى الغزِّيون أنفسهم مُتصالحين مع الحياة عند حدٍّ معقولٍ ومقبول؛ وإلَّا فسيصيرون بندقيّةً طوّافةً على كلِّ الجهات، ولا أحدَ يعرف متى يُضغَط الزنادُ ولا فى أى صدرٍ تستقرُّ الرصاصة.
 
أخطرُ ما يُهدِّد المُتنازعين على غزّة؛ أن يترسَّخ شعورُ العجز عن الحياة، ويصير الغزِّيون أكثرَ أُلفةً للموت وتسامحًا معه. إن أُغلِقت أبوابُ الأمل؛ فقد لا تعود الأُمور إلى حدود الاستثناء التى كانت مُحتمَلة، ناهيك عن العادى أو الطبيعى وقد صارا خيالاً بعيدًا. والكُلفة كانت باهظة: أكثر من 1700 مجزرة، وقرابة 80 ألف قتيل وجريح فى 11 أسبوعًا، و7 آلاف مفقود، وأضعافهم مُصابون بأمراض مُعدية أو فى مرمى الوباء، و1.8 مليون نازح فى عراءٍ لا يرحم، و300 ألف مَسكنٍ دُمِّرت كُلِّيًّا أو جزئيًّا، والقطاع الصحىّ بكامله بين مُتوقِّف ومُعطَّل. وبحسب المرصد الأورومتوسطى لحقوق الإنسان؛ فإن 71 % يُعانون جوعًا حادًّا، و98 % لا يحصلون على غذاءٍ كافٍ، و64 % يقتاتون بالحشائش والطعام النيّئ ومُنتهى الصلاحية، ولا تزيد حصَّة المياه للفرد على 1.5 لتر يوميًّا، ويسدُّون فجوتَهم العريضة من البحر. إنها صورةٌ شديدة القتامة، يجتمع فيها الجوع بالتشرُّد والأمراض وانسداد الأُفق. وبقدر ما يُهدِّد ذلك بترفيع عدَّاد الضحايا؛ يُنذر بقنابل موقوتة، وجولات انفجارٍ مُؤجَّلة.
 
لم تعش «غزّة» أحوالاً طبيعية منذ تفجَّرت القضية. كانت النكبةُ فكان النزوح الأول؛ لتتلقَّى حصَّتها من اللاجئين الذين أرهقوا مواردَها المحدودة. قضت نحو عقدين تحت الإدارة المصرية؛ ثم سِيْقت للأَسْر من 1967 ولنحو أربعة عقود. وعندما غادرها المُحتلُّ ظاهريًّا بخطّة «فكّ الارتباط» فى زمن شارون، ضرب حولَها حصارًا خانقًا؛ ثم تكفَّل الانقسام وتسلُّط «حماس» بالبقيّة. والخُلاصة أن ما يُرَاد لها من الصهيونية الوقحة اليوم غامضٌ ومُزعج، وما يطلبه الطيّبون بإعادتها لِمَا قبل 7 أكتوبر، أو حتى ما قبل الحُكم الإخوانى، أكثر سوادًا وإزعاجًا. فالمساحة التى يستبدُّ بها الموتُ الآن ما جرَّبت الحياةَ فى ماضيها المنظور؛ لتقيس على التجربة أو تختار ما يُلائمها. وإن كانت الصورةُ الطَّلَليّة التى صارت عليها مُؤذيةً للواقعية؛ فالدوران مع ساقية الإعمار والدمار مُؤذٍ للخيال. ينجو القطاع حالما يكسر الدائرةَ المُغلقة، فلا يتبدَّل بين توتُّرٍ طائش أو هدوءٍ زائف؛ وما لم يتأسَّس عمرانه على حصانةٍ من التخريب، وضماناتٍ رادعة للذين يُغامرون به أو يطلبون رأسَه؛ فقد لا يُغادر سجنًا لم يعرف سواه لثمانية عُقود.
 
خسرَ القطاعُ سنةً تقريبًا من ناتجه عن كلِّ حَربٍ شنّتها إسرائيلُ سابقًا، بين 2008 و2014. وكبَّده الحصارُ 2.5 % سنويًّا لنحو عقدين. وقبل «الطوفان» كان بالإمكان القول إن غزّة توقَّفت عند العام 2000 على الأكثر؛ لكنها بعد الهجمة الأخيرة تراكمت عليها خسائرُ إضافية بنحو 50 مليار دولار. ولعلَّها اليوم فى مرحلةِ ما قبل أوسلو؛ أى أنها تعيش فى ماضيها بفارق ثلاثة عقود عن حاضرنا. كثافتها السكانية نحو 7 آلاف لكل كيلو مُربع، مُقابل 500 للضفّة وأقل من 400 لإسرائيل، و60 % من مبانيها صارت خرابًا، والبطالة تُقارب 50 % وتقفز لأكثر من 70 % بين الشباب، ونصف أهلها فقراء، وأضافت لهم الحرب 500 ألفٍ. وقد توقَّفت 90 % من مرافق الاقتصاد، وسُحِقَت 40 % منه تُمثّلها الزراعة والسياحة، وتعطّلت موانى الصيد والأنشطة الحِرَفية وإمدادات المياه والطاقة، وتوقَّفت رواتب 100 ألفٍ من مُوظّفى حماس والسلطة يُعوّلون أكثر من نصف المليون. ونحو 100 ألف تلميذ ترعاهم «أونروا» صاروا يسكنون مدارسَ الوكالة بدل أن يتعلَّموا فيها، والصحّة على كفِّ المِنَحُ الدولية وقد سُدَّت أبوابُها. إنه حشدٌ من البشر المطحونين، يعيشون بيننا زمنًا بدائيًّا لا يُمكن أن يستمر، كما لا يُمكن أن تنضبط ساعاته بالوسائل القديمة؛ بعدما حقَّقت فشلاً ذريعًا فى مواعيدها السابقة.
 
عدوان 2023 كلُّ أرقامه قياسية: فى حصار الحياة بالدمار، أو إزهاقها بالموت. الانتفاضةُ الأولى شيَّعت 1300 شهيد فى ستّ سنوات، والثانية 4412 فى 53 شهرًا، وحربا 2008 و2014 حصيلتهما 1285 و2147 على الترتيب فى 72 يومًا إجماليّة. أرقامُ العشرين سنة التالية لانتفاضة الأقصى أقل من 11 ألفًا، والصراع كلّه منذ النكبة دون 30 ألفًا تقريبًا. أى فى أقل من 80 يومًا تجاوزنا أشدَّ أوقات القتل جنونًا، ونقترب من تجاوز مرثيّة سَبعة عقودٍ بالكامل. وحتى فى الأسرى الذين تطلبهم الفصائل، كانوا خمسةَ آلافٍ وصاروا ثمانية. وإذا وجد العالمُ قبورًا لكلِّ هؤلاء؛ وغضّ الطرفَ عن دمائهم الساخنة؛ فإن عليه أن يجد بيوتًا لأيتامهم وأراملهم؛ حتى لا يفتح الجحيمُ فَكَّيه فى موعدٍ أقرب ممّا يتصوّر الجميع.
 
جاء اليهودُ لفلسطين عرايا، جائعين، ومُتخمين بالأوبئةِ والحشرات؛ وصاروا فى رغدٍ من خيرها وعلى جُثث أبنائها. دَخلُ الإسرائيلى 15 ضعف الفلسطينى أو يزيد، وحياته أهنأ وفُرصه أكبر. وإلى ذلك، تُسيطر حكومته على موارد الأرض، وتُعطِّل الضرائب التى تجبيها نيابةً عن السلطة، وتُحاصر المساعدات الدولية من خلال آليّةٍ رقابية تحت زعم التصدِّى للإرهاب. والتفاوت الصارخ بين مُجتمعين على جغرافيا واحدة؛ يرفع حرارةَ النار التى أوقدتها سرقةُ البيوت وطَردُ سُكَّانها. وإن كانت عدالةُ القضية تقطعُ بأنّ أصحابَها لن يتخلّوا عنها؛ فإن المسار الذى ساروا فيه قد فُرِض عليهم؛ بعدما أُغلِقت منافذُ التفكير العاقل وفُرِض عليهم الإلغاء بالخَنق أو التهجير. لقد وُضِع الغزِّيون بين خيارى الموت صمتًا أو صراخًا؛ فاختاروا أن يرفعوا أصواتهم ليُوقظوا العالم؛ وربما أوّل طريق الحلِّ أن تُستبدَل خياراتُ الموتِ العديدةُ، بخيارٍ وحيد يحترم حقَّهم فى الحياة.
 
وأمَّا إجلالُ الحياة؛ فأنْ تكونَ مُحصَّنةً بقدر الإمكان من الجنون. وإن كان العالم عاجزًا أن يكُفّ يدَ إسرائيل عن البيوت؛ فليس أقل من أن يُلزمها بعِمارتها. عندما تتوقَّف الحرب ستبدأ ورشةُ الإعمار، وستمضى تل أبيب على عادتها دون شعورٍ بالذنب أو شراكةٍ فى التوبة. والمُفارقة أن حلفاءها جميعًا، وأوّلهم واشنطن المُستبدَّة بالبيئة الدولية، لا يعتبرون أنفسهم جزءًا من الحلّ مثلما كانوا طرفًا فى التعقيد. إنهم يخلطون الكُلفة المدنيّة بالعسكرية، ويعتبرون أنّ الاحتلال سدَّد حصَّته بأطنان القذائف التى ألقاها، ثم يبنون برنامجهم العلاجى على أكتاف العرب. هذا النهج يُعمِّق جراحَ الفلسطينيين، ويزيد عُكارةَ الماء مع المنطقة، كما يُشجِّع الصهاينة على مُعاودة الكَرَّة؛ إذ النجاةُ بالدمار آخر المُكافآت المطلوبة للقاتل، وأسوأُ الحوافز المُمكنة لتكرار الجريمة. وأبسطُ أُمور المنطق أن يتحمَّل النازيِّون التوراتيّون مسؤولية أفعالهم، وأن يُوضَع مبدأ «التعويض عن الضرر» على الطاولة، ثم تُستَدعى أمريكا وأوروبا إلى الالتزامات الإنسانية والأخلاقية، مثلما حضروا فى مجلس الحرب.
 
لعبت الولاياتُ المُتّحدة دورًا أصيلاً فى دمار أوروبا بالحرب العالمية الثانية، وأطلقت بعدها «مشروع مارشال»، باسم رئيس أركانها الذى قاد الدمار. صحيح أنها فعلت ذلك لاعتباراتٍ أمنية، وليس ندمًا أو إنسانية؛ لكن المُهم أنها أصلحت ما أفسدته. وقد ضخَّت 17 مليار دولار بعد توقُّف القتال، ومثلها ضمن المشروع، ثم 7.5 مليار سنويًّا لعَشر سنوات عبر برنامج التعافى الأوروبى. وكان من ثمار ذلك أن انتعشت القارة العجوز، ودارت عجلةُ الاقتصاد والإنتاج، ودُفِن ما تبقَّى من ميراث الفاشيّة والضغائن تحت تُربة الازدهار الجديد. والمطلوب أن تُستلهَمَ التجربةُ فى غزّة؛ تعويضًا عمّا أحدثوه فيها من تشوُّهٍ، وتحصينًا لمُستقبلها من نَزَق الصهيونية السهل. وإن كانت أوروبا لا تُحبّ ذلك، وقد لوَّحت بوقف المُساعدات بعد الطوفان، والكونجرس يتقشَّف كما فى رفضه لخطّة بايدن فى أوكرانيا، وبالتأكيد ستتهرَّب إسرائيل؛ فربما يتعيَّن أن يُثار الأمرُ دوليًّا، وأن يُطرَح على مجلس الأمن والجمعية العامة، وتتشدَّد عواصمُ الإقليم الكبرى فى طرحه مشمولاً بمستقبل العلاقات مع الأمريكيين، ومع خصومهم الحاضرين فى المنطقة أيضًا.
 
الإعمارُ مُكلِّف، ووتيرتُه بطيئةٌ لا سيّما بعد الانفجارات الكبرى. مُؤشِّر التنمية البشرية فى غزّة مُحطَّمٌ تمامًا، وقد يستغرقُ إصلاحُه عقدين على الأقل. الشراكةُ الدولية تُسرِّع الخُطى، وتُطمئن المُموِّلين الآخرين إلى أنهم لا يُلقون أموالَهم فى النار مثل كلّ مرّة. أمَّا المُقدّمات الضرورية قبل فَتح الملفّ فقد حُسِم بعضُها، ويجب أن تُستكمَل بقيّتها. صار واضحًا أن هدف إسرائيل لتصفية «حماس» أبعد من الواقع؛ لكن الحركة نفسها عليها واجبات تجاه جمهورها وشُركاء القضية، وأمام المُحيط العربى الذى قدَّم لها الخير دائمًا وتلقَّى الشرور أحيانًا. المصالحةُ الوطنية ليست الضرورة الوحيدة؛ إنما التوقُّف عن التعامل مع القطاع باعتباره «طائرة مخطوفة»، تُهدِّد به الجيران وتُساوم الاحتلال، ثم يحترق وحده، ويصير على من تختصمهم أن يُصلحوا الأعطال، بعدما يهرب أصدقاؤها المُقرّبون أو يعقدوا صفقاتٍ أخرى. إنّ الانضواء تحت راية مُنظّمة التحرير خطوة واجبة لإلزام العدو بمسؤولياته، واختصامه بالقانون والدبلوماسية؛ انطلاقًا من شرعيّتها الدولية واعتراف الاحتلال بها. ويُصبح الالتئام أكثر إلحاحًا، بالنظر للفخّ محلّ التجهيز بشأن استدعاء قوات أُمميّة أو عربية أو من الناتو، وصدام تل أبيب مع الأُمم المُتّحدة. وإزاء بيئة دوليّة هشّة، ومرافق مُعطّلة بالابتزاز الصهيونى أو الفيتو الأمريكى؛ لا يُمكن أن نُراهن على بناء جبهة داعمة بينما أبناء القضية منقسمون!
 
الغربُ يتهرَّب من أىّ استحقاقٍ عادل، والروافعُ العربية القادرة على تمويل الإعمار تعرّضت لمُزايداتٍ فجَّة وجارحة من الفصائل، ورأت بعضها ترتمى فى أحضان قوى إقليمية مُعادية، تختصمُ المنطقة فى أمنها ومصالحها الحيوية. وإذا تجاوزنا تلك المُعوّقات، فليس منطقيًّا أن يشرع الآخرون فى البناء، ويتحفّز أهلُ البيت لإعادة الهدم. إنَّ القضية فى أشدّ حالاتها ضعفًا، على خلاف ما يرى المُتفائلون وأغبياء الرجعيّة الدينية، وثمّة احتياجٌ عاجل لبرنامجٍ سياسى أنضج، يستندُ لركائز مُنظّمة التحرير، ويُوازن بين السياسة والسلاح بعقلٍ واحد، يُفكِّر بالعربية فقط ولا يرى إلّا فلسطين. فلسفةُ إسرائيل أن تفُكّ ارتباطَها بالقطاع، وقد فعلتها مرّةً مع شارون وتسعى لتكرارها، وفلسفة الإعمار الفعَّالة يجب أن تُقاوم ذلك، فتربط غزَّة بالضفّة، وبإسرائيل نفسها؛ لتصير مسؤولةً عن إعمارها ومعيشة أهلها، فلا يكون سهلاً أن تتهرَّب من عِبء الحياة، ولا أن تستسهل صناعة الموت. 
 
لقد تضرَّرت مصر والأردن ولبنان من الحرب، ويحقُّ أن تطلب تعويضًا من المجتمع الدولى. وأن تنشطَ جبهةٌ فلسطينية مُوحَّدة لمُطالبة الاحتلال والعالم بسداد فواتير الدمار؛ فينتقل المشهدُ من طلب إيقاف المذابح المُتتالية فقط، إلى مهمَّة البناء الصاعد نحو غايةٍ واضحة. وليست الفكرةُ سهلةً بالتأكيد، ولا فى يدنا من عوامل الضغط ما يُيسِّرها؛ إنما فى أسوأ الظروف ستكون دفاعًا من باب المُبادرة بالهجوم؛ بدلَ إدمان «ردّ الفعل» الذى يطبع سلوكنا مع القضية من منشأها. وقتها قد تتحقَّق بعض المكاسب، أو على الأقل تصبح الخسائر أقلّ جنونًا. نُجرِّب الوصفات التى لم تُفضِ لشىءٍ منذ قرن، وفلسطين أحوج ما يكون لفلسفةٍ جديدة؛ أوّلها إعمارُ البيت بالمُصالحة، ثم إعماره بتطوير لُغة الإدانة ومنطقها، وتعليق الجرس الصحيح فى رقبة مُقاول الهدم.
 









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة