حازم حسين

تجديد شرعيّة 30 يونيو.. ازدهار اللجان الانتخابية وسقوط اللجان الإلكترونية

الثلاثاء، 12 ديسمبر 2023 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كل ما لا يُمكن قياسُه؛ لا تُمكن إدارته ولا تحسينه، على ما يقول بيتر دراكر وأدبيّات علم الإدارة. وإن كانت الأرقامُ مادّةَ القياس الأُولى لميول الرأى العام وتفضيلاته، ومنها الانتخابات وفعاليّات الديمقراطية التمثيلية؛ فإنّ الظلال والدلالات المُحيطة بالصور والحَصر العددى والنسب الكَمّية، تكتسب بُعدًا بيانيًّا ورمزيًّا مُعزِّزًا للقيمة ومُضاعِفًا للأثر. وبهذا لا يكفى النظر للاستحقاق الرئاسى من زاوية الحشد وكثافته، وتواتر الصور والإشارات عن انتظام الطوابير وبلاغة الحضور الفردى، وما يتفرَّع عليها من تعدادٍ ونتائج نهائية؛ إنما يتحدَّد التقييم بمقدار الحركة التى يُحدثها تدفُّق الناخبين فى البيئة الصديقة، ومَنسوب الغيظ ورُدود الفعل من المُعادين. إذ عندها يخلع المشهد عباءتَه البسيطة؛ لجِهة أنه مُمارسةٌ روتينيّة فى ميقاتٍ معلوم، ويتلبَّس رداءً أوسع وأغنى فى المعانى؛ يقول ضمنيًّا ما لا تقوله الصناديق وبطاقاتُ الاقتراع علنًا، وهو أنَّ الصوت الهادئ الذى يختار رئيسًا هنا، اشتدَّ وتسارع وصار سهمًا مُشتعلاً يُصيب العدو الكامن فى ناحيةٍ أخرى.
 
منذ اللحظة الأولى نُصِبَت خَيمةُ العداء. كان بابُ الترشَّح مفتوحًا، والإخوان ولجانُهم يطعنون فى تجربةٍ رَهن التشكُّل، وظلّوا على حالهم حتى بعدما صارت المُعارضة مُنافسًا شرعيًّا فى السباق. ربما خفتت حِدّة الاستهداف أحيانًا؛ لكنها عاودت التشدُّد والجنون فى مرحلة الدعاية، وانتفخت لآخرها مع افتتاح جولة التصويت بالخارج، ثم مع انخراط مجموعاتٍ كثيفة فى الداخل ضمن أجواء لا تخلو من الكرنفاليّة والابتهاج. سار اليومان الأوَّلان بوتيرةٍ جيدة فى الإقبال، والأمن، وتنوُّع الناخبين واستحسانهم؛ وأفرط الواقفون خارج الحالة فى تلوين المواد البصرية، أو اصطناع سياقاتٍ غير موجودة أصلاً؛ بغرض الانتقاص من الحالة فى بُعديها الشعبى والسياسى، وتمرير رسائل لم يملُّوا من سَوقِها طوال سنواتٍ، تحت لافتات الإرهاب أو الإعلام الدعائى أو التخفِّى وراء أجندةٍ تُديرُها أجهزةٌ أمنيّة حينًا، وتسترُها كياناتٌ بعناوين مدنيّة أحيانًا.
 
تفرَّغ كوادر الجماعة الإرهابية جميعًا لتحريف الصور والتعليقات، واستنطاقها بما ليس فيها. وعاونهم فريقُ الخَدَم المُتستّرين بالليبرالية والقومية، ممَّن ظلُّوا كامنين هنا أو التحقوا بالحظيرة الإخوانية فى بيئاتها البديلة. ومن وراء قادة القطيع نشطت مجموعات اللجان الإلكترونية، وبقليلٍ من الجهد يُمكن اكتشافهم عبر الحسابات الوهمية، الطازجة أو مُجهَّلة الأسماء والصور. وكالعادة لم تخرج الآليَّة عن وسائلهم القديمة: رسالةٌ شعبويّة مشحونة بالعاطفة، واستعارةٌ لمُشهِّيات الخطاب الاجتماعى والأخلاقى سّعيًا إلى سَتر عوارها، وكثافةٌ فى النشر والتداول رِهانًا على «سيكولوجية القطيع» وتأثير كُرة الثلج؛ التى كُلّما دارت تزداد كُتلتها وتصطاد مخابيل جددًا. وفى سبيل ذلك أُديرت عملية الإنتاج المُوجَّهة بتعسُّفٍ غشوم؛ عبر التدليس والاجتزاء والتحريف، وباستدعاء مواد أرشيفية قديمة وطَرحها ضمن معروضهم. وعلى كثافة ما ضخّته أبواقُ التنظيم ومن يدورون فى فلكهم؛ كانت الدلالة الأهمّ أنهم يائسون تمامًا، ويُعاينون فشلاً جديدًا فى رُزمة الأهداف؛ إنْ بالطعن فى النظام السياسى أو بالسعى لاختراق المشهد. أى أنّ اللوثة التى يعملون بها اليوم تُعبِّر عن محنةٍ داخلية تتسلَّط عليهم؛ بأكثر ممّا تُشير لقوّةٍ أو فاعليّة فى تلويث المزاج العام، كما كان يتحقق لهم سابقًا.
 
بدأ التنظيمُ فى 2013 من نقطة الصدام الدامى، وخاض صراعَه مع الدولة، بمبناها المُؤسَّسى ومعناها الشعبى، على خيار المعركة الوجودية؛ أى «كُلّ شىء أو لا شىء» وإمَّا الإخضاع أو الإرهاب. جَرَت انتخابات الرئاسة 2014 فى هذا المناخ، وأُنجِزَت وسط حربٍ شعواء. ثم انكسرت الميليشيات وحلَّت الدعاية السوداء ودعوات الفوضى وتأليب الشارع بديلاً؛ وتحقَّق العبور باستحقاق 2018 رغم كل المُعوِّقات. أمَّا السنوات الأخيرة فقد أكَّدت تشقُّق البيت الإخوانى؛ بعدما انقسموا بين تيَّاراتٍ مُتضادة، وتبادلوا اتهامات العمالة والفساد، وتخلَّى عنهم الرُّعاةُ والمموّلون جزئيًّا أو كُليًّا. وقتها زعم فريقٌ أنهم طلَّقوا السياسة، وسعى آخرون للعودة من وراء ستارٍ تعشَّموا أن يُرخيه لهم أحدُ حُلفائهم القدامى من الناصريِّين. وآل الأمر إلى خروج حصانهم الخشبى من السباق، وتجديد ميثاق القطيعة معهم من السُّلطة ومُرشَّحى الرئاسة جميعًا. وهنا يبدو أنهم كانوا يُخطِّطون للعب فى مشهد انتخابات 2024 من داخله، وعندما فشلت الخطّة استحضروا أدوات لعبتهم فى 2018. فكأنهم يُحاولون تسجيل هدفٍ من خارج الملعب، وفى عَكس اتّجاه المرمى!
 
ما يفوتُهم أن ساحةَ اللعب تبدَّلت عمَّا كانت عليه، واختلف الجمهور وصار اللاعبون غير اللاعبين.. الناس الذين اختبروا الإخوان سابقًا لا قبولَ لديهم لتكرار التجربة؛ بل إنهم باتوا يرسمون طريقهم فى أيّة وُجهةٍ تُعاكس طريق الجماعة. والحُلفاء الذين تعوَّدت عليهم وأتقنت التحكُّم بمفاتيحهم، إمَّا أنضجتهم الخبراتُ القاسية، أو ظلّوا على مُراهقتهم فتجاوزهم السياقُ تمامًا. والمُؤكَّد أنّ فى العوام والسياسيين مَن تحملُ صدورُهم مُلاحظاتٍ على المرحلة، ولهم كلُّ الحقِّ فى اعتناق ما يشاؤون؛ إنّما المُتّفق عليه أن خلافات البيت لا تُطرَح فى العراء المسموم، وجدل الأشقاء مهما اشتدَّ لا يقبلُ أن تتلقّفه أيادى الأعداء. وعصابةُ حسن البنا صارت عدوًّا منذ احتقرت إرادة الشعب، ووضعت الوطنَ فى امتحاناتٍ قاسية، وانتزعت مُعادلةَ الحُكم من عُهدة الدستور لميدان السلاح على صيغة «نحكمكم أو نقتلكم». لذا ما عاد مُمكنًا الاستثمار فى التباينات الداخلية؛ لأنّ مُجرَّد دخولهم على الخطِّ يُرمِّم الصفوفَ ويُعيد بناء الإجماع. كانت «المدنيّة وكَبح الأُصوليَّة» تاج 30 يونيو؛ وما زالت المُشترك الذى لا نزول عنه ولا فِصال فيه، والاقتراب من تلك النقطة يكفى لوَصْم المُحاولين وتصفية مُستقبل المُتواطئين.
 
لا يُمكن فَصل الانتخابات الرئاسية عن أزمة غزّة، ولا فارق بين مواقف الإخوان فى الحالين.. لقد أشبعوا مصرَ مُزايدةً وابتزازًا منذ السابع من أكتوبر؛ لكنهم ما أحدثوا خرقًا فى جدارها ولا قطعوا الحبل الغليظ بين الشعب والدولة. يعود أغلبُ ذلك لكفاءة التعاطى الرسمى مع الملف؛ لكنّ بعضه يرتبط بابتذال الجماعة وسقوطها من نظرِ المصريين. إنْ استوعبت اللجان الساذجةُ ما آلت إليه أحوالها؛ ستعرف بالضرورة أنّ كلَّ اشتباكٍ بالاختلاق والوَصْم والتلوين قد يُنتِج أثرًا عكسيًّا، وحتى الهفوات الطبيعية فى كل محفلٍ جماهيرى حاشد ستُغفَر سريعًا؛ إذ يصيرُ الجمهور أكثر تسامحًا كلَّما استشعر أن ذلك ممَّا يغيظ الإخوان، أو أنّ لهم منفعةً وهوى فى الوقوف على التفاصيل. بل إنّ المسألةَ الغزّية نفسها تختزنُ دلالات أعمق ممَّا أحدثته فى السباق الرئاسى، وما تركته من أثرٍ فى وعى الناس والسياق العام، ونظرتهم إلى الحُكم وأولويات المرحلة.
 
تفجَّر «طوفان الأقصى» فى فلسطين بعد انطلاق قطار الاستحقاق الدستورى فى مصر؛ فغطَّى على كلِّ شىءٍ ودفع الانتخابات الرئاسية إلى الخلفيّة. والمصريون بطبعهم مَوصُولون بالقضيّة كاتّصال الفلسطينيين أنفسهم. وقد استثمر اليمينُ الدينى فى المأساة لصَرف النظر عن الشأن المحلِّى واستحقاقه؛ ولم يكن الأمر مُلفتًا وقد جُنِّدت الدولة بكل مُكوّناتها للعمل على المحور الشرقى. الأولويّةُ الوطنية رفعت منسوبَ الاهتمام، والثقةُ فى صلابة الجبهة الداخلية أزاحت مخاوف التأثير على الاقتراع. ومُجدّدًا تكسب مصرُ ويخسر التنظيم؛ إذ تبدَّلت الحال فى ليلةٍ واحدة من اهتمامٍ بالخارج لا يُنازعه شىءٌ آخر، إلى تركيزٍ وانكبابٍ على الداخل؛ كأن لا شىء فى العالم إلَّا مصر. فى الحالين لم يغفل المصريّون عن التزاماتهم؛ إنما كانوا يُديرونها بنفسيَّة الواثق المُطمئن، فذهبوا إلى «غزّة» وهم يتحضَّرون للانتخابات، ثمّ عادوا إلى الصناديق ولم تُغادر فلسطين قلوبهم وأرواحهم؛ ومعهم المُرشَّحون والأحزاب والقيادة ومُؤسَّسات الدولة وقواها، الصلبُ منها والناعم.
 
بروز غزّة أوّلاً، ثم تصدُّر سباق الرئاسة تاليًا؛ يُشيران بين جُملة معانيهما إلى نُضجٍ يتشاركه عموم المصريين، دون تأثيرٍ لفوارق الاجتماع وتباينات السياسة أو الموقع من السلطة والمُعارضة. النضجُ نفسه كان الدافع لثلاثة رُؤساء أحزابٍ أن يخوضوا المُعترَك الرئاسى؛ رغم علمهم بصعوبة المُنافسة مع مُرشَّحٍ قوىّ يقف على رأس المسؤولية. ولعلَّهم بحِسبةِ المنطق يُوقنون تمامًا من انعدام الحُظوظ؛ لا سيّما أن الكيانات الحزبية تضرَّرت فى سنوات الفوضى قبل الإخوان وبعدهم، ولم تُنجِز فُروضَها الواجبة مُنذ استتباب الأوضاع قبل أعوام. المُراهقون يقولون: ما دام الفوزُ بعيدًا فما علينا حَرَج فى اجتناب المحاولة؛ أمَّا العاقلون فلا يُفوّتون الفُرصةَ تحت أىّ ظرف، ويعرفون أنهم مُلتزمون تجاه الفكرة السياسية التى تقضى بألّا يتوقَّف العَمل. إنّ ما لا يتحقَّق بالجَهد الكبير، يُرَدّ عليه بجهدٍ أكبر؛ لا بالخمول ولا الانصراف. والذين شاركوا اليوم يقبضون بصدقٍ على «ميثاقية 30 يونيو»، وهُم أخلصُ ممَّن يُلوّحون بخصومة الإخوان عَلَنًا؛ ثمّ يُلاقونهم فى الغُرف المُظلِمة.
 
إن كانت غايةُ الأُصوليّة المقيتة أن تتخلخل شرعيّةُ الثورة التى أطاحتها؛ فيجب ألَّا يتحقَّق لها ذلك. وإن كان الإصلاحُ مَطلبًا حقيقيًّا لذاته؛ لا لغرضٍ شخصى ولا منفعةٍ ظرفيّة؛ فالواجب أن يُسَار إليه بكلِّ الوسائل ومن السُّبل كافةً. أرجحيّةُ مُرشَّحٍ لا تنفى أهمية التنافس؛ إذ المعنى ألَّا يظلّ الملعبُ فارغًا أو يُغيَّب الجمهور عن المُباراة. بعضُ السباقات تُخاضُ للتأهيل والإعداد لما بعدها، وامتلاءُ المُدرَّجات قد لا يُبدِّل موازين القُوى أو يُخلِف النتائج المُتوقَّعة؛ إنّما بالإمكان أن يُحسِّن الأداء أو يُغيِّر طريقةَ اللعب ويُرقِّى حالة الكفاءة والإمتاع. والمشاركةُ مُفيدةٌ فى كلِّ الأحوال: الناس يُمارسون ولايتَهم على البيئة السياسية انطلاقًا من كونهم أصحاب الشرعيّة ومصدر السلطات، والحُكْم يستكشفُ خريطةَ المُنافسين وخطاباتهم على إيقاع القبول الشعبى، والأحزاب تعودُ بنتيجة الامتحان لتُقيِّم الأجوبةَ وتستذكر ما فاتها.
 
الذين يُحاربون دولة 30 يونيو؛ إنما يختصمون السُّلطة والمُعارضة على السواء. النظام السياسى لا يُختزَل فى هيكلِ الحُكْم القائم؛ بل هو العَقد الاجتماعى وفلسفةُ الدولة ومجموع إراداتها الفاعلة، ويشمل بين مُكوِّناته: الأغلبيةَ والأقليّةَ، والحاكمَ والمحكومَ، والأبنيةَ المدنيّة الواصلة بينهما؛ وفى قلبها الأحزاب. وكل طعنة تُوجَّه لمُؤسَّسةٍ أو مسؤول، تُصيب الذين يسعون إلى وراثتهم بالدرجة نفسها؛ والمقصود حالة النقض لا النقد، والاستهداف بغرض التقويض لا التطوير. ومثلما كان الزخمُ الشعبى عَونًا للقيادة فى مسألة غزّة؛ واستثمر الإسلاميِّون فيها لأغراضٍ مُضمَرة؛ فإنّ إزاحة تلك الحيويَّة إلى صناديق الانتخابات مِمّا يصلبُ عُودَ الحياة السياسية ويسوء كارهيها. الإقبال يخلق حافزًا لدى المُتنافسين، ورقيبًا عليهم؛ إذ يضعُ بدائل وخياراتٍ أكثر ثراءً على طاولة الفائز، ويحرمُ الخاسرين من المظلومية المجانيّة وحجّة أن البضاعة مُتقَنة والزبون غائب؛ فيصيرُ لِزامًا عليهم وقد توافر المُشترون أن يُطوِّروا ما يطرحونه عليهم. أى أن الحشودَ التى قد يتعالى عليها البعض أو يطعنوا فى وعيها، هى البوابةُ الذهبيّة للتدرُّج الصاعد وتطوير أداء الدولة والأحزاب.
 
أهمُّ انتصارات «غزّة» أن يُحبَط مُخطَّط التهجير والتصفية؛ وقد تولّت القاهرة المهمَّة بالتزامٍ وثبات. وكانت إسرائيل مرَّرت أجندتَها للعَلَن منذ السبعينيات وتلقَّت رُدودًا حازمة؛ آخرها تحذيرٌ صارم من مبارك لنتنياهو قبل 2011، وعندما تسرَّب الإخوان من شقوق يناير إلى الرئاسة فى 2012 تلقّوا العرض وقَبِلوه، 
 









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة