حازم حسين

محنة غزّة وفرصة فلسطين.. اكتملت صورة الصراع ويتبقى إنجاز «أجندة وطنية»

الأربعاء، 15 نوفمبر 2023 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا نتيجةَ فى غزَّة. فالأزمةُ أن فريقين يتصارعان على صيغةٍ خلافية: القوىُّ يخوضها بمنطق الضربة القاضية، والضعيف يُريدها بالأشواط والنقاط.. تعجَّلت إسرائيل هدفَها الاستراتيجى وافترضت نهاية الخصم، وتأخَّرت «حماس» فى إبداء المُرونة التى تُجنِّبها الانكسار.
 
والمشهدُ الآن لا يحتمل نصرًا ساحقًا أو هزيمةً كاملة؛ إذ الاحتمالات أشدُّ وُعورةً من التعادل أو اقتسام الفوز، وربما الحلّ أن يتقاسما الهزيمة بما لا يُمكِّن الأُصوليّة التوراتيّة من عقل الدولة العبرية ورُوح القطاع، ولا يضع الأُصوليّة الإسلامية فوق خطاب السياسة والتعقُل، وتاريخ النضال الوطنى بمُدوّنته الطويلة وآبائه المُؤسِّسين. هناك فى تل أبيب محنةٌ يمينيّة عنوانها الفشل وانشطار صورة الردع، وفى فلسطين يتسلَّط الخصام على القضية وأبنائها، أمَّا الواقفون بعيدًا فيتخطَّفهم الخوف على السلام، والهلع من اتّساع رقعة الحرب.
 
لا تنشغل حكومةُ نتنياهو بسؤال اليوم التالى؛ إنما اضطرَّت إلى الإجابة تحت ضغط الولايات المُتّحدة وإلحاحها. قال الرجل الذى يستشرفُ نهايةَ مسيرته السياسية إنه سيحتفظُ بسيطرةٍ أمنيّة دائمة على غزّة، لكنّ إدارة بايدن ترفض ذلك بقدر ما تُبدى اعتراضها على احتلال القطاع أو تهجير سكّانه. وقد اقتُرِحت بدائلُ تبدأ بالسلطة الفلسطينية، وتتّسع إلى أدوارٍ مصرية، أو إقليمية ودوليّة تحت المظلَّة الأُمميَّة، على شرط ألّا تكون القوات الأمريكية طرفًا.. أبدت تركيا جاهزيّةً لأن تلعب دور الضامن الأمنى، واعترضت مصر على باقة الخيارات كاملةً، بحسب تقارير صحفيّة غربية، والمُؤكَّد أن الفصائل لا ترتضى أيّة مُقاربة تنزعها من بيئتها الحيويّة؛ لأنّ معناها تصفية حضورها الفاعل فى الصراع، وحرمانها من كعكة الحُكم التى خبزتها بالدم لسبع عشرة سنة. لكنّ المُعضلة فى زاويةٍ أخرى؛ إذ لا منطق لدراسة المستقبل قبل استيعاب الحاضر، ولا معنى لبحث ما بعد العدوان، قبل أن تسكت البنادق وتنطفئ كُرة النار.
 
لم تقترب القمَّة العربية الإسلامية من مسألة الترتيبات اللاحقة؛ ربما لعُمق الخلاف بين دُول الاعتدال ومحور الممانعة الذى يرعى «حماس»، وبينهما فريقٌ ثالث يتطلَّع للعب دورٍ فى التسوية أو حراسة خطّ التهدئة. وبعيدًا من الورقة الجماعية؛ فإن الصلابة التى تُبديها القاهرة أعمق وأكثر استشرافًا للمآلات المُضمَرة. صار القطاع كومةَ خراب؛ وعلى العالم وقوَّة الاحتلال عبء تهيئته ليكون صالحًا للحياة مُجدّدًا. إقحامُ العرب معناه أن يلتزموا المسؤولية بمفردهم، فضلاً على أن يصيروا شرطيًّا يحرس جبهة إسرائيل، أو أن يتلقّوا رصاص المقاومة فى صدورهم إن ترصَّصت مثل جدارٍ عازل عن المحتل. والأخطر أن ذلك لا يختلف عن التهجير؛ إذ لا فارق بين نقل الغزِّيين فى الجغرافيا أو نقلهم بالجغرافيا. يُمكن أن تتخلَّى إسرائيل عن الطمع فى الأرض، لقاء التخلُّص منها بما عليها، واستحضار الوجود العربى قد يُحقِّق غايتها الخبيثة.
 
أمَّا صيغة القوَّات الدولية، من الناتو أو بغطاءٍ أُممىّ، فما وراءها عزل «غزّة» عن مجالها الحيوى، بفصل خريطة فلسطين المأمولة عن بعضها، أو عزل الفلسطينيين فى الضفّة والقطاع، مع منح الأخير وضعيّة «دُويلة تحت الوصاية». تملك القاهرة تعطيل خيار البديل العربى بكل ما فيه من مخاطر ورهانات مُزعجة، وإن أصرَّ الغرب على صيغة «اليونيفيل» كما فى لبنان، فإن الرفض المبدئى من جانب مصر كفيلٌ بتقليص مفاعيله، أو إحباط ما قد يستتبعه من ترتيباتٍ أمنية وإدارية بغرض تحوير الوضعية الجيوسياسية للشريط الساحلى الضيق. على هذا الشرط؛ لا بديل إلّا عودة السلطة بما تعنيه من تشبيك الأرض والبشر، وتنشيط مُنظّمة التحرير، وإطلاق مسار سياسى يعصم القضية من التصفية؛ وإن لم يُنتج حلاًّ نهائيًّا فى المدى القريب.
 
توسَّعت الحربُ بما يتجاوز قدرات طرفيها، ولم يعد فى مقدور أحدهما أن يتحصَّل على العلامة الكاملة، أو يمضى إلى إنفاذ أجندته من دون تعديل. كان غرض «حماس» من عمليتها فى غلاف غزّة أن تعود إلى الواجهة، وتُؤكِّد احتكارَها للقضية وسُلطتَها الكاملة على ترتيب مساراتها، ومن وراء ذلك تسخين بقيّة الجبهات طمعًا فى المواجهة الشاملة. وتُريد إسرائيل من ردِّها الغاشم أن تُعيدَ بناء صورة الردع، وتُرمِّم التصدُّعات التى ضربت جبهتها الداخلية، وربما تطمع فى توظيف فوائض التهييج والشعبوية الغربية لوضع مُخطَّطاتها التصفويّة على الطاولة. ما حدث يبدو مُغايرًا لإرادة الفريقين: تُواجه «القسّام» خطرًا وجوديًّا قد يقضى عليها، ومعها جانبٌ من جناح الحركة السياسى، وتل أبيب تعيش هزيمةً مُركّبة؛ كلّما سعت إلى تصحيحها تتورَّط فيها بدرجة أكبر.
 
لم يستفد المُحتل والمُقاوم من خبرتهما الصراعيّة الطويلة. يقضى المنطق بألّا تجرح عدوًّا مغرورًا أو يائسًا؛ فإمَّا أن تُصادقه أو تقتله. فى «طوفان الأقصى» ثمّ فى «السيوف الحديدية» سقطت الصداقة، وأُسقِطت فرصُ الإلغاء الكامل، وما تزال الصهيونية مُؤمنةً بآلتها الوحشيّة، والفصائل مُطمئنّةً إلى الأيديولوجيا التى تُرحِّب بالموت إن عزَّ الانتصار. أمَّا التدخُّلات الخارجية فقد تكفَّلت بتعميق الحُفرة عِوضًا عن ردمها: جنونُ الدعم الغربى يُثبت ضعفَ الاحتلال ويُعزِّز معنويّات المُقاومة، وحناجر المُمانعة بما فيها من ابتذالٍ وعاطفية وتنميط للغزِّيين تحت عنوان البطولة والفداء، تُغذِّى لوثة القتل وتجعل من أهل القطاع نعوشًا مُتحرّكة. فاعليّة النضال التحرُّرى فى أن يكون الدم مُبتدأً لحصادٍ سياسى، ومع الغِلظة لدَفع «حماس» خارج المشهد يبدو أن الدماء أُهدِرت فى صفقةٍ خاسرة. كما تتناسب حالة الردع عكسيًّا مع استخدام القوّة، وتنطفئ هالتُها إذا اضطرّت لإطلاق الرصاص بدلاً من التلويح بالسلاح؛ لهذا سقطت أمام الطوفان، ثم سقطت مُجدّدًا فى مقتلة غزّة.. لا الحركة تستوعب ذلك، ولا إسرائيل التى تتخبَّط مثل ثورٍ أعمى.
 
استهلك حسن نصر الله نحو ثلاث ساعات فى خطابين، لا سار إلى السياسة ولا امتشق عدَّة الحرب. تأخَّر ظهوره الأول شهرًا عن العدوان، وزايد على الجميع إلّا الميليشيات التى تُقاسمه الانتماء والتمويل، وفى الثانى قدَّم درسًا ممجوجًا فى التاريخ، وطلب الدعاء والصلاة للغزِّيين، وتحدَّث عن خسائر إسرائيل المليارية، كما بدا يستنزف الوقت ويُراهن على تغيُّر مزاج الشعوب الغربية. هكذا تُبتذَل القضيّة تحت غطاءٍ مذهبىّ مرَّة، وتحت البطولات الوهمية مرَّات. ويُحارب الصهاينة بأموالٍ أمريكية، لم تمنح أهلَ غزَّة طعامًا أو وقودًا، لكنها مرَّرت نحو 15 كيلوجرامًا من المُتفجِّرات لكل فرد. أُعلِن الثأرُ المجنون قصاصًا لنحو 1400 قتيلٍ إسرائيلى، ثم خفَّضوا العدد بعد شهرٍ إلى 1200 فقط؛ بادِّعاء أن الفارق من مُقاتلى حماس وكشفته فحوص الحمض النووى.. أصبح الشكُّ مشروعًا فى كلِّ البيانات والأرقام، وفى النوايا المُعلنة والمُضمرة، وما تقول كل الأطراف إنها تُريده، مُقابل ما تسعى إليه بالفعل.
 
لا ترغب واشنطن فى توسعة المُواجهة، والعرب أيضًا. ويعلم الجميع أن أيّة انفلاتات غير محسوبة قد تصبُّ فى صالح المحور الشيعى، لا فلسطين ولا إسرائيل. لكنّ الأخيرة تمضى إلى الصدام؛ ولعلَّها تحضّرت لضربةٍ وشيكة ضد حزب الله. ما يغيب عن النافخين فى النار أن التصعيد سيكون على شرط الحرب، وليس المناكفة وقواعد الاشتباك المُتَّفق عليها. الخطر الوحيد الذى تخشاه تل أبيب أن تنفجر أوضاع الضفّة، لا لعجزٍ عن سحقها كما تفعل فى غزَّة؛ إنّما لأنها تطمع فى الأولى وتزهد الثانية. إن تقدَّمت السلطة لخلافة حماس فقد يمتدّ الطمع إلى القطاع، ولن ينسحب الزهد على الضفّة، لكنّ القاهرة وعمّان لا تقبلان ابتلاع الجغرافيا ولا طردَها؛ لذا فقد يكون ذهاب إسرائيل إلى التهدئة، إن ذهبت، انصياعًا لرؤية الاعتدال العربية، لا لخطابيّة الجنون الشيعى.
 
إنّنا إزاء تجربةٍ نادرة. كان المُعتاد أن تشنَّ إسرائيل الحروبَ باختيارها، وفق استراتيجيةٍ ثابتة لتقليم أظافر الخصوم كل عدّة سنوات. حرب 2006 فى جنوب لبنان أُديرت بالمنطق نفسه، وحروب غزَّة من 2008 إلى مايو الماضى. اليوم فقدت المُبادأةَ وصارت فى موضع ردِّ الفعل؛ لكنّ المشكلة أن «حماس» عندما أرادت كسر الوضع القائم، لم يكن لديها برنامج سياسى لما بعد الرصاصة الأولى؛ فعادت إلى حاضنتها وتفرَّغت لتلقِّى الضربات. ويبدو الآن أنه ليس لديها ما تطلبه بشكلٍ واضح، ولا ما يُمكنها قبوله من المعروض، بينما لدى العدوّ والصديق حسابات مُعقَّدة: محنة نتنياهو، وعام الانتخابات الأمريكية، ومُخطّط التطبيع الإقليمى المُوسَّع، ثم طموح محور الميليشيات فى تثمير الجولة وصَرفها لحساب التهدئة بين واشنطن وطهران، أو لتخليق توازناتٍ جديدة فى سوريا واليمن، وربما إكمال حلقة الهيمنة الكاملة لحزب الله على السياسة اللبنانية، بعيدًا من اتفاق الطائف وميثاقيّة الوطن الجامع، بقاعدته العروبيّة ومُحاصصاته المُتوازنة.
 
إذا تجاوزنا جنونَ اليمين فى تل أبيب، وتطلُّعات نتنياهو الشخصية للإفلات من مقصلة الحساب. يتبقَّى أنّ إسرائيل تلتزم بصيغة الدولة، تجاه مُواطنيها على الأقل، بينما «حماس» ليست دولةً، ولا تنظر للغزِّيين على صفة الشعب ولا حاكمية الناخب الذى يملك إبقاءها أو إطاحتها. هزيمة الاحتلال تتحقَّق بإغضاب الشارع هناك؛ لكنّ الحركة لا يُمكن هزيمتها إلّا بالإفناء، بشرط أن تقبل المُعادلة وتقرّ بالخسارة.. لن يتحصَّل للنازية الصهيونية ما تطمح إليه من تصفية المُقاومة واستتباع غزّة، ولن يعود القطاع جنَّة الفصائل الإسلامية وملعبَهم المفتوح، وعليهم أن يتواضعوا أمام امتحانهم الوطنى، ولا يضعوا رايةً بديلة فوق علم فلسطين. القضيةُ أحوج ما يكون إلى فلسفةٍ جديدة، وإعادة إطلاق على مُرتكزات مُنظَّمة التحرير وميثاقها ومُدوَّنة نضالها، على أن تنخرط تيَّارات الشقاق والانقسام تحت المظلَّة الجامعة.. باختصار؛ توحيدُ الجبهة الفلسطينية أولويّة قبل أيّة مُغامرة فى الداخل، أو ترتيبات «فوق وطنية» مع الخارج، وطالما أن العرب لن يدخلوا على دبّابة إسرائيل؛ فقد توطَّد ظهيرٌ ثابت بنوايا بيضاء، ويتبقَّى أن تنكسر لعبة المحاور، وألّا يرتدى أحد عمامة تيَّار بعينه، أو يستعير سلاحه ورصاصاته المُلوَّنة بالأيديولوجيا.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة