ناهد صلاح

سباي ليست.. مناوشة تونسية من أجل فلسطين

الأربعاء، 01 نوفمبر 2023 12:05 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
 لم يكن في بالي أن أكتب، فما الذي يمكن أن أكتبه في هذا الإعصار الدموي المجنون الذي يعيشه الفلسطينيون؟ الكلام يخجل في حضرة كل هذا الدم المُراق، أية كتابة يمكن أن تنفع في هذه اللحظة القاسية ونحن لا نستطيع حتى إلتقاط أنفاسنا، من خبر إلى خبر نحدق في الشاشات بعيون خاملة، متخاذلة وقلوب حانقة، ساخطة على المذابح والجرائم الصهيونية؟.. كنت للتو قد تابعت تقارير المراسلين من غزة في عزلتها، حيث الظلم والعنف والموت، محرومة وممنوعة غزة من اللهفة والدهشة ومن الخوف. هل أقسى على مدينة أن تُحرم من خوفها؟.. كنت كذلك قد انتهيت من مشاهدة الفيلم التونسي "سباي ليست" سيناريو وحوار فرج الطرابلسي، أتكون الكتابة مُجْدية عن أفلام معنية بملمح يخص الصراع العربي/ الصهيوني؟.. ربما تكون كذلك وتحقق بعض التواصل مع الآني المثقل بالإهلاك والإبادة والدمار والكذب والعجز.
 
عُرض فيلم "سباي ليست"، الحاصل على تنويه خاص من لجنة التحكيم في الدورة الثانية عشرة المنتهية منذ أيام لمهرجان وجدة الدولي المغاربي للفيلم، في صالة تبتعد آلاف الكيلو مترات عن غزة وفلسطين التي تتعرض لأعنف ضربات التوحش الاسرائيلي منذ نكبة 1948، لكن ثمة تواصل إنساني يتوحد على دعم الأشقاء في هذه البقعة الفلسطينية التي تتعرض لإبادة وحشية وتطهير عرقي، في غزة التي يصمد الفلسطيني على أرضها ويناضل حتى لا يكون مجرد رقمًا، غزة التي "تُعادل تاريخ أمة/ أشدنا قدرة على تعكير مزاج العدو وراحته، لأنها كابوسه"، كما قال محمود درويش في نصه "صمت من أجل غزة".
 
تونس من أكثر الدول الداعمة للقضية الفلسطينية، بل أنها احتضنت الفلسطينيين في مرحلة تاريخية مفصلية، ومع ذلك لم تقدم السينما أفلامًا بارزة تتناول القضية الفلسطينية (وثائقية وروائية) كما فعلت مثلًا السينما المصرية والسورية، تباينت درجات الاهتمام بين السياسي والفني، في الواقع وعلى الشاشة، ولعل هذه الدرجات بلغت أوجها مؤخرًا حين أعلنت وزارة الثقافة التونسية، إلغاء مهرجان “أيام قرطاج السينمائية” تضامنًا مع الشعب الفلسطيني واعتبارًا للأوضاع الإنسانية الحرجة التي يشهدها قطاع غزة، على أن تقام بدلًا منه فعاليات أسبوع السينما الفلسطينية تتضمن أفلامًا فلسطينية وحلقات نقاشية بحضور مخرجين فلسطينيين.
 
على هذه الخلفية يأتي "سباي ليست" وهو فيلم بمبادرة فردية خاصة وليس مؤسسية عامة، لكنه ينبع من الاهتمام التونسي بالقضية الفلسطينية، والتعامل معها كموضوع مصيري لا يقل أهمية عن قضاياهم الداخلية والمحلية، ومن زاوية أخرى يعد خطوة إنعطافية في التاريخ السينمائي الفني التونسي، حيث يمكننا الاستدلال ليس على تحوّل في شكل التعبير السردي والبصري فقط، بل وعلى محتواه أيضًا بما يصنع مساحة لأسئلة تتعلق بالذي يمكن أن تتركه هذه النوعية من الأفلام في الذاكرة البصرية، وما ستتركه من أثر في الثقافة وتشكيل الوجدان الذي يستمد ذبذباته من السينما.
 
 نحن أمام فيلم لا يعكس جوانبًا من يوميات العيش في الصراع الفلسطيني مع الصهاينة، ولا يستعرض تفاصيلًا من أحوال ناس يسعون لخلاص من جحيم العنف والقتل والإلغاء، وغيرها من فصول العنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، إنما الهم الفلسطيني هنا يظهر من خلال صور محملة بجراح ذاتية، فخلال 73  دقيقة تتلاحق الأحداث التي يقوم ببطولتها مراد الغرسلي، هيفاء مريزق، قمر بن سلطان، حافظ الجديدي، مأمون إبراهيم، علي حسين، عبد الرزاق قداس، في إيقاع سريع تصاحبه موسيقى صاخبة في أغلب الأحيان، معبرة عن دينامية الحركة والملاحقة في قصة تنسجها الأجواء البوليسية والأكشن.
 
 تصادف انتهاء تصوير هذا الفيلم مع الواقعة التي عرفت بقضية الهاكر التونسي  "B13"، حيث تردد في العام 2020 خبر اختراق هاكر تونسي يُدعى "B13" لمواقع تابعة للاحتلال الإسرائيلي ونجاحه في تعطيل القبة الحديدية، بينما يخوض الفيلم في استعراض الحرب الجديدة المعتمدة على التطور التكنولوجي، إذ تناول عملية قرصنة أتت بأسماء جواسيس يتبعون الموساد الاسرائيلي تم إرسالهم إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا قصد نشر الفوضى الخلاقة والإطاحة بالأنظمة، حسب ما كُتب في العبارات الترويجية للفيلم، كما تردد أيضًا أنه أول شريط سينمائي تونسي يكون موضوعه عن الجاسوسية، فيخترق مهندس تونسي البيانات التابعة لجهاز الموساد الإسرائيلي، ويتم التعرف على قائمة بأسماء جواسيس مهمتهم بث الفوضى في بعض الدول الداعمة للقضية الفلسطينية بقصد الإطاحة بأنظمتها.
 
فرج الطرابلسي الدارس للتصوير، السيناريست والمخرج، لديه تجربة سابقة بفيلم طويل هو "الغرنوق" عام 2021، كشف من خلاله الهجرة السرية والبؤس الإنساني الذي يدفع إليها، والعصابات التي تجذب الشباب إلى المجهول بوعود زائفة عن حياة أفضل.. إذًا نحن إزاء مخرج إختار قضايا كبرى ليخوض فيها، لكن كيف يقدمها؟ ما هو أسلوبه الفني؟ نراه هنا في "سباي ليست" إندمج بمباشرة معلنة دون أية مواراة أو رمزية، وانطلق من المصطلح التي أطلقته وزيرة الخارجية الأمريكية كوندليزا رايس في العام 2005، وأبرز في حوار فيلمه أن الفوضى التي تبعت الربيع العربي أثرت على القضية الفلسطينية، حتى أنها فقدت حضورها في الواقع، نقل حوار الفيلم هذه الحقيقة في حواره: "بعد الربيع العربي فرضت اسرائيل سيطرتها على الدول العربية.. فرق تسد.. تطبيع مع اسرائيل وتراجعت الأولويات.. لم تعد القضية الفلسطينية لها الأولوية عند العرب تغيرت الاهتمامات..".
 
التطرق للقضية الفلسطينية في الفيلم غير تقليدي، إنه يستعرضها كما لو كانت لعبة الشطرنج، التناول في حد ذاته لعبة استراتيجية تعتمد على لاعبين اثنين: "أبو حازم المناضل الفلسطيني الذي يحرك القطع ومعه المهندس التونسي، والموساد بجواسيسه، التحركات على لوحة مربعة تتفجر فيها الأحداث وأركانها: تونس، فلسطين، تركيا.. الجميع في تحركاتهم يهدفون للإمساك بالقطعة الرئيسية في اللعبة وهي الملك:"كش مات تعني النهاية.. نخاف كلمة كش مات".
 
مشغول الفيلم بفكرة الهوية: "الهوية لا باللغة ولا بالدين.. الهوية بالأرض"، يطالعنا التيتر بجملة الشاعر الفلسطيني الشهير محمود درويش:" ومن الحجر سنبني دولة العشاق"، ثم يعلو صوت المغني:" يا اما مويل الهوى يا اما مويليا طعن الخناجر ولا حكم الندل فيا"، مزيج يعلن عن الحالة العاطفية لأبطال الفيلم الملتاعين بهوى وطن يحلمون فيه بطيف الحرية، وطن يطالعنا في أول مشهد يرزح تحت الهدم والحرب، ونحسه في الأسيرات الفلسطينيات، ونفهمه في الطامعين وأصحاب المصالح مثل الأتراك:" تركيا عندها مصالح وبس/ تونس سوق كبير لنا / الإخوان أصحابنا"، ونستوعبه داخل السجن بكل ما فيه من مشاعر المرارة:" الكل لعب بنا.. شعر وأغاني.. ماريونيت.. إحنا نموت صغار"، ثم ندركه في الدعم التونسي من خلال زواج الفلسطينية من التونسي الذي يساندها حتى النهاية.
 
 في "سباي ليست"، حوارات عدة تمزج عفوية التعبير عنها بحرفية مضمونها، مباشرة في أغلبها بما يكاد يفقدها أحيانًا جماليتها الدرامية وعمقها التأملي، لكنها مع ذلك تأتي بشفافية فيها هذا الكَم من الحميمي والانفعالي يعيد قراءة الواقع في ضوء معطياته الجديدة منطلقًا من الراهن، وربما هذا جعله يقدم فيلمًا فيه من الأسلوب الأمريكي في صياغة الحكاية والأكشن، وحتى مع هذا التصور يقدم مخرجُا يصنع فيلمًا يميل إلى الالتزام السينمائي في معاينة الواقع وتطوراته، وهو ما يجعل التجربة تلتقط نبضًا حيًا يدعم المخيلة ويدفع بها إلى نقاش دائم.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة