ناهد صلاح

الذاكرة الحية والذاكرة الميتة

السبت، 14 يناير 2023 02:29 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ماذا يبقى للسينما أو منها؟ كان هذا هو السؤال الذي رافقني مؤخرًا أثناء رحلة بحثي عن أعمال ومعلومات تخص الفنان صلاح منصور، من أجل إعداد كتابه لمهرجان الأقصر للسينما الأفريقية، احتفاءً بمئوية ميلاده وتكريم اسمه في الدورة المقبلة للمهرجان.. وفي الحقيقة إن هذا السؤال يلاحقني كظلي تقريبًا كلما شرعت في الكتابة سواء عن سيرة ذاتية، تحتاج التنقيب عن الشخصية ومن ثم الاعتماد على وثائق وصور وتسجيلات، يعني ما يستلزم التوغل في الماضي والأرشيف والتفاصيل المخبأة هنا وهناك، خصوصًا إذا كانت الشخصية لم تعد على قيد الحياة؛ ولا يوجد هناك أقارب أو أفراد لهم ارتباط بها، أو سواء الكتابة عن ظاهرة أو قضية فنية أو ثقافية تستوجب الحقائق والمعلومات، لتوثيق صائب وصوغ القصة بما يجعلها حيزًا للفهم والمعرفة والاطلاع.
 
السؤال ينبع من نقطة تستحق التوقف والالتفات إليها، وهي بإيجاز شديد تتعلق بفراغ ثقافي ومعلوماتي مهول، أو بالأحرى غياب الأرشيف القائم على أساس علمي يمكن للباحث الرجوع إليه والوثوق في محتوياته.. أرشيف يكون جزء رئيسيًا في ذاكرتنا الحية، بدلًا من الذاكرة الميتة المحتشدة إما بمعلومات مغلوطة وغير مؤكدة، تتداولها الكثير من المواقع الإليكترونية بمنتهى اليسر والسهولة، وتنقلها الأغلبية دون فحص وتقصي، فتنتشر كانتشار النار في الهشيم، وإما بأفول واندثار غير متدارك للمادة والمحتوى؛ بمعنى الخواء وندرة المادة والأخبار والصور المخزّنة، ما يضطر بسببها الباحث الحقيقي، غير المرتكن على الأمور السهلة، أن يلف ويدور سواحًا على كتب الأرصفة وسور الأزبكية، غير التجوال في مكتبته ومكتبات الزملاء والأصدقاء والأساتذة.. التجوال الذي من المفترض أن يكون خطوة في مشواره البحثي وليس كل المشوار.
 
لعل أرشيف المركز الكاثوليكي المصري للسينما من أهم الأرشيفات المتاحة لدينا، كمصدر موثوق فيه ويمكن الاعتماد عليه، فضلًا عن عراقته وامتلاكه لوثائق تاريخية وحديثة ومعاصرة، مرتبة بما يسهل على الباحث الحصول على مراده، ولعل مؤسسة دار الهلال تداركت الأمر في السنوات الأخيرة، فحاولت ترتيب أرشيفها وضبطه وتنقيحه والحفاظ على المتبقي منه، لكن ما زلنا في احتياج مُلح لمشروع استراتيجي مهم،  لحفظ الإرث الفني والثقافي ونشر المعلومات والوثائق المتاحة والمدققة ورقيًا وإليكترونيًا عبر الأساليب المعاصرة، ويمكن الاستعانة به عبر شبكة الإنترنت، لتكون مفيدة ومتاحة لأكبر عدد من الناس. 
 
مشروع يُعيد ترتيب أجزاء من الصورة الفنية والثقافية، بما يليق بها وبالذاكرة التي تكاد أن تنمحي وتضيع بالإهمال، كما يكون أداة تواصل وانفتاح بين الماضي والحاضر وجسرًا للمستقبل، ومساهمة جادة في عملية تأسيس حقبة جديدة في تاريخ الثقافة، خطوة ضرورية ومطلوبة تُمكن أي باحث من الشروع في عمله، دون الوقوع في فخ الارتباكات والتباساتها المتنوعة، وعلى أساس هذه الخطوة الموزونة في جديتها ومسارها لا تجنح المعلومة إلى وهم أو سراب أو خطأ.
 
كل ما أخشاه أن يتحول المطلب الضروري إلى سؤال ساكن لا يتحرك قيد أنملة، مثلما حدث مع السؤال المتكرر على مدار أجيال، بضرورة إنشاء سينماتيك مصري بوجهيه: الحفظ والعرض، وهو ما لم يحدث حتى الآن!! .. لو عدت ثانية إلى كتابي عن الفنان صلاح منصور، صاحب المشوار الحافل مسرحيًا، إذاعيًا، تليفزيزنيًا، سينمائيًا، فقد عانيت مثلًا للوصول إلى الكثير من أعماله المسرحية أما أعماله الإذاعية فحدث ولا حرج، إنها تقريبًا مفقودة على الرغم من تعدادها وقيمتها الفنية، وكذلك من محاولات ماسبيرو زمان معالجة المتبقي والحفاظ عليه وإظهاره على شاشتها وموقعها الإليكتروني. 
 
أجدني هنا أطرح نفس سؤال الناقد سمير فريد في واحد من مقالاته: ما هى أهمية أرشيف الأفلام السينمائية؟، في إطار الحديث عن الـ"سينماتيك" الذي تنبه العالم إلى ضرورته، حسب رصد فريد في مقاله، فى منتصف الثلاثينيات من القرن الميلادى الماضى، بما يعنيه شكلًا ومضمونًا لحفظ الأفلام السينمائية كجزء من التراث القومى لأى بلد، وبالتالي أرشفة الأفلام وكل الوثائق المتعلقة بها، وإتاحتها للعرض لمن يريد من الهواة والباحثين، وبالطبع هذا غير ترميم الأفلام وهو أمر بقدر ما يحتاج أموال يحتاج أيضًا الكثير من الهِمة والعزيمة.
 
كما أشرت سالفًا أن طرح فكرة السينماتيك حدث بتعاقب الأجيال، قد يكون من منتصف الخمسينيات عندما سافر الأديب يحيي حقي رئيس مصلحة الفنون حينذاك، لحضور فعاليات مهرجان كان السينمائي والتقى مع هنري لانجلوا مؤسس السينماتيك الفرنسي، وشجعه على تأسيس أرشيف للسينما المصرية والمشاركة في المؤتمر الدولي للأرشيف السينمائي، وبالفعل شرع في محاولات أولى حين عهد إلى عبد الحميد سعيد بإنشاء السينماتيك، سافر على إثرها لواحد من رواد الثقافة السينمائية فريد المزاوي، لكي يمثل مصر في المؤتمر الدولي للأرشيف السينمائي في يوغسلافيا عام 1956.. لكن السينماتيك الأول احترق نتيجة التخزين الخاطيء في شقة من شقق وسط البلد.
 
المحاولة الثانية كانت بعد نحو العشر سنوات، تحديدًا فى العام 1968، حينما أوفدت وزارة الثقافة عبد الحميد سعيد تعلم أصول الحفاظ علي التراث السينمائي في سينماتيك برلين الشرقية، واحد من أهم أرشيفات السينما في العالم، وأعد بالفعل تقريرًا لإقامة أرشيف مماثل فى مصر، لكن التقرير وُضع فى الأدراج، كما وُضع من قبله تقرير مشابه لفريد المزاوى، وفي مرحلة لاحقة أعلن وزير الثقافة الأسبق فاروق حسنى عن تأسيس أرشيف للسينما المصرية بالتنسيق مع فرنسا، لم ينفذ حتى الآن.
 
يظل بهذا التعاقب السينماتيك المصرى مجرد كىم على الورق وعلى الهواء مباشرة، دون خطوة تنفيذية حقيقية، خطوة ما أحوجنا إليها للحفاظ جزء مهم من ذاكرة الوطن، وابقائه حيًا كتاريخ منفتح على التطور الفكري والثقافي والفني والتقني، وإلا ماتت الذاكرة بتلف الأفلام نتيجة عدم العناية بها وضياع إرثنا المكتوب والمرئي.








الموضوعات المتعلقة


مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة