محمد حبوشه

تراجع الكوميديا الحقيقية في السينما والتلفزيون

الجمعة، 21 يناير 2022 01:45 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

الكوميديا (يا ناس) يجب أن تكون أكثر قربا من الحقيقة وواقع المجتمع أكثر من أي نوع آخر درامي، يقول الفيلسوف الفرنسي (هنري لويس برجسون) في كتابه (الضحك): (نجدها - يعني الكوميديا - تسمو كلما مالت إلى الامتزاج بالحياة، وهناك مشاهد كثيرة من الحياة الواقعية التي تقترب من الملهاة الراقية، بحيث يمكن للمؤلف أن يستعيرها دون أن يغير فيها كلمة واحدة)، ولقد عانت الكوميديا في فترات زمنية من أنواع من الفنون الهزلية (الفارس أو الفودفيل)، تماما كما تعاني مسلسلاتنا وأفلامنا وحتى برامجنا حاليا، بحيث لا تعتمد على الموضوع أو القيمة المعرفية للموضوع ولا النقد الموضوعي للسلوكيات الاجتماعية، بقدر ما تهتم بالنكتة (البايخة) على مظهر الشخوص أو لهجاتهم أو غيرها من الأساليب المعتمدة على التهريج الزائد عن الحد في كثير من تلك البرامج الهزلية.

ولعل أسوأ أنواع الكوميديا على الإطلاق هى الكوميديا التي لا تضحك بقدر ما تبعث على التقزز عن طريق إطلاق (الإفيهات) السخيفة أو (القلش) الخارج عن حدود اللياقة والآداب العامة، وحتى إذا افترضنا أن لبرنامج كوميدي ما رسالة فكرية هامة، لكن أحداثه وشخصياته لا تضحك، فإنه سيفشل حتما، فقد نجح (موليير وبومارشيه وماريفو) وخلدت أعمالهم ليس لأنها تحتوي رسائل اجتماعية ناقدة، ولكن لأنها تضحك، فالعمل الكوميدي الناجح، سواء كان رواية أم مسرحية أم فيلما أم مسلسلا أو حتى برنامجا تليفزيونيا، هو الذي يحترم قيم معظم المشاهدين، ويتجنب جعل (السماجة) دافعا للإضحاك، لأنها إذا أضحكت فإنما هى تضحك شريحة ضيقة من المشاهدين، وليس الغالبية العظمى من الناس.

ومن هنا ينبغي أن تتمثل المحاكاة الساخرة في الأعمال الفنية أو البرامج التليفزيونية من خلال الكاريكاتير والمحاكاة التهكمية، كما أن هناك الكوميديا السوداء أو القاتمة، وهى نوع درامي مركب، يجد فيه الجمهور المتعة والتنفيس عن الموضوعات المطروحة، ورغم أن الفصل بين الكوميديا والتراجيديا قد انتهى، عندما تخلصت الدراما المعاصرة منه، وتحولت إلى دراما اجتماعية تعتمد على المفارقات التي تثير الضحك والبكاء في آن واحد، ومن هنا يبقى على الدراما أو البرامج الهزلية (الكوميديا) أن تسعي إلى نقد السلوكيات الاجتماعية السلبية، بغية تطهير المجتمع منها وإعادة التوازن إليه، لا إلى التهكم والسخرية من مهنة بعينها، فبواسطة الدراما، وإثارة المشاعر، يحدث التطهر لدى المتفرج حسب المفهوم الأرسطي.

وقد لاحظت أنه منذ سنوات قليلة زحفا تتاريا لبعض برامج الكوميديا التي ترسخ لنوع من كوميديا السفالة وقلة الأدب، هذه الموجة من البرامج الكوميدية التى غزت الفضائيات لم تسفر عن نتائج جيدة على مستوى (الكوميديا التي نرغب فيها)، وذلك رغم انتشارها في وقت معين لأسباب ترجع إلى إنه وفق تقارير إحدى الشركات المتخصصة فى بحوث قياس نسب المشاهدة للقنوات، فإن الجمهور لم يعد يقبل على برامج التوك شو خلال الفترة الأخيرة، ما جعل ملاك القنوات الخاصة يلجأون للبرامج الكوميدية لاجتذاب الإعلانات التى بدأت هذه الفضائيات تفتقدها فى (التوك شو) التى تقدم موادا تحريرية تحبط الجمهور ولا تحث على التوعية والإنتاج ولا تحض على العمل.

فلا تتضمن تلك البرامج التوعية المطلوبة من إسقاطات كوميدية على الواقع كي تحث على العمل، أو حتى استعراض مواقف كوميدية يمكن أن تخفف من حدة المعاناة الاقتصادية التي تقع على عاتق المصريين في ظروف ضاغطة، وخاصة أن الوطن يحتاج إلى هذه البرامج الكوميدية الخفيفة التي تصدر طاقة إيجابية من شأنها أن تنعكس على الناس، لكنهما اعتمدا للأسف على مضمون فاشل وتافه ولا علاقة له أصلا بالكوميديا، فلا تقدم تلك البرامج الجديدة  أى شىء جميل أو ذا قيمة، بل يجنحان نحو الملل على جناح إفيهات سخيفة وإسقاطات جنسية مقيتة أحيانا.

ولأن الجمهور المصرى يميل للكوميديا بطبيعته - كشعب ابن نكتة - كما أنهم يعانون من الكآبة بسبب ما يحدث حولنا فى مصر والدول العربية وما تقدمه بعض برامج التوك شو من إحباط ونكد وسوداوية، ومع ذلك فإن هذا ليس مبررا لأن تعتمد تلك البرامج على الأفيهات المثيرة والمسفة، بل عليهم أن يحترموا المشاهد الجالس أمام الشاشة بين أبنائه وأحفاده من الصغار، الذين حتما ستأثرون بتلك المواقف على سماجتها وثقل ظلها، خاصة أن هناك شعرة بسيطة بين المحتوى خفيف الظل القادر على الإمتاع وبين الابتذال المتدنى كثيرا الذى به كوميديا الفارس القائمة على تكرار المواقف والحركات المبتذلة، وهذا الأمر يشكل خطرا على الإبداع من ناحية وعلى الشباب والأطفال من ناحية ثانية، فحتى الكوميدية لابد لها أن تقوم على الإبداع بل التخطيط المدروس حتى تصبح جديرة بأن تكون أعمال فنية، وليس مجرد ابتذال سخيف.

وعلى الرغم من ثقل بعض تلك البرامج في ميلها السخيف نحو العبث بتراثنا الفني وإعادة تدويره له في مواقف تشوه شكله الجميل دفعت إحدى القنوات بأحد رواد السماجة، وكأنها ستقدم صاروخا كوميديا جديدا، لكن على رأي المثل الذي يقول (تمخض الجبل فولد فأرا)، فلم نرى سوى كتلة من اللحم فاقدة لإحساس ووجه متجهم يجد صعوبة كبيره في إيصال مضمون كوميدي حقيقي، ناهيك أنه يشبه إلى حد كبير نجوم المهرجانات الغنائية فى أداء شائه وجملة غير رشيقة بالمرة، وخاصة في ميله الممل إلى استخدتم لهجة فلاحية رديئة.

ونأتي للسينما التي ظنت أنها ستصبح بديلا كوميديا يعوضنا تراجعها في الدراما التليفزيونية فقد جاء دور العرض السينمائي بمجموعة من الأفلام التي تصنف على أنها كوميدية، حيث ظهرت خلال الفترة الحالية سيطرة واضحة للكوميديا على معظم أفلام الصيف، في حين غابت عن الدراما التليفزيونية، التي تراجعت فيها الأعمال الكوميدية بصورة ملحوظة خلال الفترة السابقة، ووجهت اهتمامها إلى الموضوعات الاجتماعية والوطنية، خاصة خلال دراما شهر رمضان الماضي الذي لم يشهد سوى عمل وحيد كوميديا خالصا وهو مسلسل (أحسن أب) للفنان علي ربيع.

وعلى عكس ما شهدته الدراما الرمضانية، غلب على الأفلام المتنافسة في عيدي الفطر والأضحى ورأس السنة الطابع الكوميدي بشكل واضح، تعويضا عن غيابه في الدراما، حيث عرض خلال موسم عيد الفطر 3 أفلام من هذا النوع وأولهم: (أحمد نوتردام) الذي تدور أحداثه في إطار كوميدي حول مجموعة من جرائم القتل والاختطاف تتم من قبل قاتل مجهول، وتبدأ الشرطة في البحث عنه، وعندما يكتشف صحفي شاب تأثر القاتل بشخصية (أحدب نوتردام) المعروفة، يتنكر في شخصية شبيهة ويطلق على نفسه اسم (أحمد نوتردام)، ويتفق مع فتاة على خطفها حتى يجذب له القاتل، الذي بالفعل يبدأ في البحث عنه والتواصل معه، ولكنها أحداث تميل في غالبها نحو الأكشن الذي يخلو من كوميديا حقيقية تبهج القلب.

الفيلم الثاني: تدور أحداث الفيلم حول الشاب (ديدو) الذي يقرر برفقة أصدقائه سرقة العالم الثري (بيومي فؤاد)، الذي يكتشف الأمر ويتمكن من تحويلهم بتجربة من تجاربه إلى عقلات أصابع، فيقعوا في العديد من المفارقات والمغامرات المثيرة بشكل يظنون أنه كوميدي، في حين يغلب عليه العشوائية والإفيهات التي تغني ولاتسمن من جوع في سبيل إنتاج نوع من الكوميديا التي يمكنها أن تخفف من معاناة الناس، وكذلك هو الحال مع الفيلم الثالث: (ثانية واحدة)، الذي تدور أحداثه في إطار رومانسي كوميدي، حيث يتعرف شاب على فتاة ويتسبب لها في الكثير من المشاكل، ثم يتعرض لحادث يقلب حياته رأسا علي عقب، وهذا يشكل ميلا شديدا نحو التراجيديا المطعمة بلون من الكوميديا ثقيلة الظل.

وحتى (أفلام) مثل (البعض لا يذهب للمأذون مرتين، مش أنا،  ماما حامل، الإنس والنمس)، وغيرها من أفلام تعكس ضعف كتاب الدراما الكوميدية الجاذبة، خاصة أن موسم رمضان 2021 لم يحتوى على جرعة كوميديا تستطيع مقاومة العنف والنكد الاجتماعي اللهم إلا لماما كما جاء في مسلسلات: (نجيب زاهي زركش، أحسن أب، خلي بالك من زيزي)، رغم أنها تميل في غالبية أحداثها نحو التراجيديا الممزوجة بـ (لايت كوميدي)، في حين أن الكوميديا التي تشبه سماجة البرامج التليفزيونية جاءت من خلال بعض الإعلانات التي ظن صناعها أنهم يمكنهم سحب البساط من تحت أقدام الدراما الكوميديا في ظل تراجعها.

فلقد شهدنا نوعية من تلك الإعلانات التي لا نتمى ظهورها مرة ثانية في موسم رمضان 2022، على غرار مشاركة عدد من فناني الكوميديا في الإعلانات التجارية لبعض شركات المحمول والأجهزة الإلكترونية - وذلك رغم غيابهم الدرامي عن المشهد - على غرار النجم الكبير الراحل سمير غانم، وابنته إيمي، حيث اشتركا في تقديم إعلان لصالح شركة اتصالات مصرية، كما شارك الفنان الكوميدي محمد هنيدي، بموسم الإعلانات الجاري، في ظل غيابه الدرامي ويطل على الجمهور مرات متكررة في إعلان إحدى شركات الأجهزة الإلكترونية المصرية، ويقدم فقرات تمثيلية مفعمة بالكوميديا والاستعراض الممل.

أما الفنان الكوميدي أحمد حلمي، فدخل سباق الموسم الإعلاني برمضان بإعلان لصالح مستشفى حكومي، ورغم أن بداية الإعلان كوميدية حيث يدور حوار ساخر بين حلمي وشاب من الوجوه الجديدة، يؤكد حلمي من خلاله خفة ظله وسرعة بديهته، فإن نهايته تراجيدية وحزينة جدا، حيث يتم الإشارة إلى وجود نقص حاد في المعدات الطبية بالمستشفى، كما شارك الفنان الكوميدي (شيكو) فى إعلان كمبوند سكني، بطريقة تبدو كوميدية، تحاكي تقدم أحد الشباب لخطبة عروس، ويعدد خلال اللقاء محاسن المكان الذي يسكن فيه، ويتلقى أسئلة عدة من أكثر من شخص، قبل أن يفاجئ بأن والد العروس لا يوجد بينهم.

وبعيدا عن نجوم الكوميديا، نافس في سباق الإعلانات أيضا بعض الممثلين المغمورين، ورغم حداثة عهدهم بالكوميديا، فإنهم لفتوا الأنظار بسرعة بسبب الأفكار التي يدعون أنها مبتكرة - للأسف - والتي يقدمونها على غرار إعلان شركة زبادي مصرية، الذي يظهر فيه شاب يرتدي زي قائد طائرة ويتحدث في سماعة الأذن بمنتهى الجدية، وهو يحلق عاليا، لكن بعد ثوان معدودة يفاجئنا بأنه يقود مركبة توك توك فوق منطقة مرتفعة، وتسارع سيدة إلى طرد المتفرجين وقائد (التوك توك) بأسلوب ساخر، يظنون أنهم يحاكون به ما يحدث في الحارات الشعبية المصرية، وفي إعلان آخر، لبنك حكومي مصري، يقف شاب في وسط الشارع ويتحدث في الهاتف بصوت مرتفع، ويبلغ الذي يهاتفه بأنه يحمل 400 ألف جنيه في الحقيبة، وفجأة تسقط الحقيبة من يده، ليجتمع حوله أشخاص عدة يأخذ كل منهم بضعة آلاف منها.

كل تلك المحاولات التي تجنح في معظمها نحو ما يسمى بالكوميديا سواء في البرامج أو السينما أو الدراما أو حتى الإعلانات لا يمكن أن تعوض غياب نوعية الدراما والسينما الكوميدية التي نحن بحاجة لها حاليا، لذا نتمني أن يأتي موسم رمضان 2022 بجرعة كوميديا يمكن أن تجلب البهجة والسعادة جنبا إلى جانب مع المسلسل الوطني والاجتماعي والأكشن، بحيث تكتمل منظومة الدراما المصرية في التصدي إلى الابتذال والتردي الذي تبثه بعض المنصات الرقمية الجانحة نحو التغريب والعنف والمثلية الجنسية التي أصبحت شأننا عاديا لدي شبابنا الذي يواظب على مشاهدة تلك النوعيات من المسلسلات تحت زعم الحرية الجديدة.  










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة