أكرم القصاص - علا الشافعي

حازم حسين

المهرجانات والأندرجراوند ومطربو "المراهقة المتأخرة"

الجمعة، 21 يناير 2022 05:41 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كلُّ فريقٍ يُبدى ضيقَه من الآخر. لا أحدَ يقبلُ أن يجاورَه رأىٌ يُخالف رأيَه، ولا يقتنعُ بأنَّ فى العالم ألوانًا غير ما يُحبُّ أو يُفضِّل. افتح القوسَ وضَع كلَّ اختلافاتنا: الدِّين، والثقافة، والمسالك الاجتماعية، والمذاهب السياسية، وتفضيلات المأكل والملبس وعادات الحياة وأنماط السلوك اليومية. للأسف يبدو أننا لا نُجيد الاختلافَ، ونستهلكُ حديثًا طويلاً عن التعدُّديّة وقَبول الآخر أكثر من حجمِ إيماننا بالتعدُّدِ والقَبول فعلاً، ورُبَّما يكون الموقفُ فى الفنِّ، والغناء تحديدًا، مُعبِّرًا بدرجةٍ أكبر عن تلك الأزمة!
 
انفجرت موجةٌ عارمةٌ من موسيقى الشارع، تخلطُ بين الراب والتكنو فى مزيجٍ إليكترو شعبىٍّ وجد رواجًا مُتدرِّجًا منذ العام 2007، وتصدَّر واجهةَ التلقِّى خلال السنوات الأخيرة. طبيعةُ المنشأ والمُمارسين فرضت عليه مستوى فنّيًّا مُغايرًا للذَّوقِ السائد وقتها، ومُصطدمًا بالثقافة البرجوازيَّةِ فى صناعةِ الموسيقى والغناء. وعىُ آباء الظاهرة كان مُتحلِّلاً من الأعراف المُعتادة، فى الصوت والإيقاعات والمعانى المُحافظة. الانفلاتُ الناشئ لم يكُن مُزعجًا لصُنَّاع الغناء التقليديِّين؛ حتى انتشر المُنتَج الجديد مُقتطِعًا حصَّةً ضخمةً من كعكة السوق. هنا فقط برزت التناقضاتُ على السطح، واتَّخذت حساباتُ الاقتصاد والمُنافسة أبعادًا قِيَميَّةً ذات طابعٍ أخلاقى، باعثها الأوَّل مُحاولة تمرير الرفض المُؤسَّس على اعتباراتٍ شخصيَّةٍ تحت مظلَّةٍ من المبادئ وادِّعاء الدِّفاع عن الذوق العام.
 
كانت ساحةُ الغناءِ طوال الوقت ملعبًا مفتوحًا للجميع. وقتما تصدَّر مُؤسِّسو الصَّنعةِ فى وجهها الحديث أوائلَ القرن الماضى، لم تخلُ السوقُ من أنماطِ أداءٍ مكشوفةٍ وذاتِ طابعٍ حِسِّىٍّ أو شَعْبَوىّ. ظلَّت القصائدُ العربيَّةُ والمُوشَّحات والأدوارُ الرَّصينةُ تُجاور غناءَ الملاهى والحانات وعوالم الأفراح، بل إنَّ صوتًا مُعتبَرًا مثل أم كلثوم غنَّت "الخلاعة والدلاعة مذهبى" وغنَّى عبد الوهاب "فيك عَشرة كوتشينة فى البلكونة". حديثًا لا تخلو أغنياتُ النجومِ التقليديِّين من انحرافٍ فى الكلمات أو الأداء أو الأشكال الموسيقيَّة، ولم تغب عنها المعانى الحِسِّيَّةُ التى تُخاطب الغرائزَ أو تقعُ فى أدنى سُلَّم الاستهلاك وفق معايير بُرجوازيَّةٍ مُحافظة. إذن قد لا يكون التناقضُ الراهنُ مُرتبطًا فى المقامِ الأوَّل بالشكل ولا أنماط الأداء، وإنَّما بنوعيَّةِ الوافدين الجُدد على السوق، أو باعتباراتِ المنافعِ وتأسيسِ هياكل اقتصاديَّةٍ جديدةٍ، تُغيِّر طبيعةَ المجالِ وتُعيدُ ترتيبَ الفاعلين فيه والمُتربِّحين منه!
 
يبرزُ التناقضُ بأشدِّ صُورِه فى منصَّات التواصل الاجتماعى. غابةٌ من الرَّفضِ أو النَّفى والاستبعاد، تُشكِّل أبعادَها حُدودُ الذَّوقِ الشخصىِّ فقط، دون معرفةٍ منهجيَّةٍ أو مُبرِّراتٍ مُقنعةٍ. وآلافٌ يتلقَّون الأنماطَ الجديدةَ ثمّ يُبدون امتعاضَهم منها ويُطالبون بحصارها. هذه الثنائيَّةُ المُتضادَّة لُبُّ المُشكلةِ فعلاً؛ لأنَّ كُلَّ مُتلقٍّ يستهلكُ نوعًا من المُحتوى - فى عصر الانفتاح المُطلق وديمقراطية التداول إلى ما لا نهاية - يقضى برواجِ النَّوعِ وتحفيزِ معروضِه بمزيدٍ من الطلب، حتى لو كان رافضًا فى العُمق للمحتوى، أو مُتداوِلاً له بدافعِ الفضولِ العابر. السوقُ باتت مُتحرِّرةً من فُرصِ الوصاية والتقييد. ولم يعُد بإمكان فصيلٍ أن يُروِّج ظاهرةً أو يخنقَ أخرى، كما فعلَ اليسارُ المصرىُّ مثلاً فى سوقِ الآداب والفنون لعقودٍ طويلة.
 
الصورةُ المُقابلةُ يُمكن العودةُ إليها قُبيلَ ظهورِ المهرجانات وفى مرحلتها الأولى. وقتها راجت ظاهرةُ غناء "الأندرجراوند" عبر مجموعاتٍ وأفراد، احتضنتها مراكزُ فِعلٍ ثقافيَّةٌ تقليديَّةٌ واضطلعت بمهمَّة تسويقها وطَبعها على قُماشةِ الذَّوق العام. برزت أصواتٌ فقيرةٌ بمُوسيقى تنتحلُ طابعًا عصريًّا مُغايرًا وأنماطٌ قُوامُها الانحرافُ بالاستغراق فى أداءٍ يتَّسمُ بالغرابةِ فى النُّطق والتقطيع والتنغيم والانفعالات. صنعت تلك المرحلةُ نجومًا من الفِرَق والأفراد، لأنَّ مجموعات المُثقَّفين وروٌّاد مقاهى وسط البلد وبعض دوائر الإعلام تبنَّوا هذا المَسْلَك، على ما أحدثَه بعضُهم من خُروقاتٍ جماليَّةٍ وتسييدٍ لصِيَغٍ من الميلودراما والنشاز والأداء الفاقع. ذبلت الظاهرةُ لاحقًا وانزوى أغلبُ صُنَّاعها رغم استمرار المُثقَّفين والمُؤدلجين فى عبادة التجربةِ. لم يُشكِّلوا خطرًا لأن مجالَهم الحيوىَّ ظلَّ مُقتصِرًا على المقاهى والأحزاب ومُؤسَّسات الثقافة المُستقلَّة، ولم يتعدّ ذلك إلى الفنادقِ والأفراحِ وشركات الإنتاج وقنواتِ المُوسيقى وكلِّ ما يتَّصل بالركائزِ الثقيلةِ للصناعة. لم يُطالب رافضوهم بالمنعِ، ولم يتمكَّن داعموهم من إطالةِ بقائهم؛ لأنَّ الظاهرةَ استنفدت الوقتَ ومُسوِّغات البقاء، وحَكَمَ قانونُ العَرض والطَّلب بالسَّير فى اتِّجاهٍ آخر.
 
يطيبُ للبعضِ الآنَ عرضُ الصورةِ على غير الحقيقة. كأنَّ نقابةَ المِهَنِ المُوسيقيَّة أمسكت عصا ولىِّ الأمر وقرَّرت العَبثَ بسوق الغناء. هذا التصوُّر ينطوى على إغفالٍ لكثيرٍ من تركيبِ المشهد وتناقضاته السابقةِ على الشجار الراهن. لا شكَّ فى أنَّ النقابةَ التى تأسَّست قبل ثمانين عامًا تُدركُ طبيعتَها وتعرفُ حدودَ دورِها، وهو مُؤطَّرٌ بكونِها نقابةً مهنيَّةً تُديرُ شؤونَ أعضائها وتُدافع عن مصالحهم، منحها القانون مزايا فيما يخصُّ الرسومَ وتصاريح العمل والرَّقابةَ على حُقوقِ الأداء؛ من أجلِ تحصيلِ المُستحقَّات وزيادةِ الموارد، لا أن تكونَ وَصيًّا على الفنّ. يؤكِّدُ ذلك رفضُ السُّلطةِ التشريعيَّةِ مطلبَ مجلسِ المُوسيقيِّين بالحُصولِ على "الضَّبطِيَّةِ القضائيَّةِ". الخلافُ الآن يقعُ فى نطاقِ المَنفعةِ ومصالحِ الأعضاءِ المُعطَّلين عن العمل، أو المُتضرِّرين من رواجِ ظواهر تقضى بخُروجِ آلاف العازفين من السوق. لكنَّ مُجتمعًا مُحافظًا يستهلكُ الفنَّ ويزدريه دونَ شُعورٍ بالتَّناقُضِ، قد لا يفهمُ المعركةَ لو اندلعت تحت شعار "مصالح الأعضاء"، بل ربما يأخذون موقفًا مُضادًّا بالمُكايدة للفنِّ وأهله، من هنا استعارت النقابةُ لافتةَ القِيَمِ والذَّوقِ العام، ليكونَ الأمرُ مقبولاً من العوام المُحافظين، أو من جُمهور المهرجانات البرجوازىِّ، الذى يُديرُ الأغنية إلى آخرها ثمّ يُمصمِصُ الشفاه ويكتبُ منشوراتٍ عصماء فى هجاء الانحدار وتردِّى الذوق!
 
قد يرى البعضُ أن المهرجانات أشاعت حالةً من الفوضى والعشوائيَّةِ وإهدارِ قِيَمِ الفن وأدواره، وفى المُقابل رُبَّما يقول آخرون إنَّ ظاهرة "الأندرجراوند" التى هلَّل لها حُرَّاس البُرجوازيَّةِ الثقافيَّةِ أنتجت غناءً مائعًا وأصواتًا قبيحةً ومواقفَ مُتشنِّجةً ونجوميَّةً خفيفةً مُعبَّأةً بالهيليوم. وبينهما قد تكونُ المُشكلة عند فريقٍ ثالثٍ أن التقليديِّين فى سُوق الغناء استهلكوا مخزونَ الرَّتابةِ حتى آخره، فلم يعُد أحدٌ منهم يُقدِّم جديدًا وسط زحامٍ من القوالبِ النَّمطيَّةِ فى المُوسيقى والكلام والأداء. الحقيقةُ أنَّ أُمورَ الفنِّ نِسبيَّةٌ ويجوزُ فيها كُلُّ رأىٍ طالما ينطلقُ من ذائقةٍ شخصيَّة، أمَّا على أرضيَّةِ الصَّنْعةِ فقد لا تصمد كلُّ الأشكال المُقدَّمة أمام سُؤالِ الإبداع والإضافة. المهرجانات طازجةٌ فى معانيها لكنَّها مُقولَبةٌ مُوسيقيًّا، والأندرجراوند يعيشون على مفاتيح صدئةٍ لا تدورُ إلا فى أبوابَ النُّخَب المُتكلِّسة والمأخذوين بنموذجهم من شبابٍ تُدهشهم الغرابةُ ولو كانت قبيحةً، والمُتبقُّون من نجومِ الثمانينيَّات والتسعينيَّات ومَنْ تَبِعَ طريقتَهم مِن الجُدد يُنشدون أغنيةً واحدةً مُعلَّبةً ومُملَّةً ولا طعمَ لها أو رائحة. إمَّا أن تُترَكَ الساحةُ لتفاعُلات التلقِّى وقُدرةِ كُلِّ لونٍ على صَونِ بقائه، أو يُفتَح البابُ على آخره ليُصادرَ كُلُّ فريقٍ غناءَ الآخرين وتفضيلاتهم. لا فارقَ إطلاقًا بين حمّو بيكا ومريم صالح وعمرو دياب، أو كُزبرة وفيروز كراوية وحماقى، أو شاكوش وغالية بن على وشيرين عبد الوهاب، وضَعْ ما شئتَ من تباديل وتوافيق ولن تجدَ فارقًا أيضًا، سواء من ناحيةِ أنَّهم سلعةٌ تُخاطبُ مُشترين، أو أنَّهم لا يُقدِّمون جديدًا، أو أحدثوا فى الفنِّ ما يُوجِبُ الحُكمَ عليهم بالصَّمتِ فى نظرِ البعض.
 
تنضجُ التجاربُ بالمُمارسةِ. هُناك من يَحبو على مرأى ملايين المُشجِّعين، وتمتدُّ خطواتُه ويزدادُ داعموه، وهناك من استهلكَ عُقودًا أو أجيالاً وتتآكلُ الأرض تحتَ قدميه. على أهل الفنِّ أن يُخلصوا لصناعتِهم أكثرَ من إخلاصِهم فى معاركها المُخترَعة. النقابةُ يجب أن تضطلع بأدوارٍ فى التدريب والتأهيل وتشجيع أعضائها، الفنَّانون من كل المَشاربِ مُطالَبون بتطوير أنفسهم والتخلِّى عن الوصفات الهشَّةِ التى فشلت طويلاً، والجمهورُ مُلزَمٌ بألا يكونَ مُتناقضًا فى مواقفه، أو مُدَّعيًا وقاضيًا ومُطلقًا للرصاص، والأهم أن يظلَّ جمهورًا، يُؤمن بقدرتِه على ضَبطِ السُّوقِ ويحفظُ لمُجاورِيه حُقوقَهم فى الشِّراءِ والبَيْعِ كما يُحبّون. إمَّا أن نقبلَ جميعًا بالجُوارِ الهادئ والتفاعلِ الموزون، أو أن نُواصلَ حُروبًا مجّانيَّةً لا طائلَ من ورائها. والرواجُ محكومٌ بالعَرضِ والطَّلبِ واشتباكِ المُتنافسين على حلبة السوقِ أوَّلاً وأخيرًا، وقبل أن نسألَ عن ذُيوعِ شكلٍ هابطٍ أو سَامٍ، رُبَّما يتعيَّن ابتداءً أن نبحثَ عن المُنافسةِ! راكبو موجةِ المهرجانات يُمارسونَ ما يعرفونَه ولا يُجيدون غيرَه، ومُطربو "المُراهقة المُتأخِّرة" لم يستوعبوا تحوُّلات الواقع من حولهم، وما زالوا يُقدِّمون أشكالاً تجاوزَها الزمنُ والذائقةُ واحتياجات المُستهلكين الجُدد. فهل يكفُّون عن حرثِ الماءِ ومُحاربةِ طواحين الهواء؟ وهل يخلعون يقينَهم الساذجَ وينظرونَ فى المرآةِ بإخلاصٍ ويقرأون الواقعَ بوعىٍ ويستجيبون له بديناميكيَّةٍ وطزاجةٍ قبل أن ينصرفَ الناس عنهم تمامًا؟!
 
 
 
 
 









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة