أكرم القصاص - علا الشافعي

حازم حسين

ولستَ نبيًّا.. ولكنَّ ظلَّك أخضر!

السبت، 15 يناير 2022 06:16 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

كثيرون يُشعلون النارَ، قليلون فقط يخلقون الدِّفء. لا يُمكن أن تدلفَ إلى قلوب الناس ما لم تكُن حقيقيًّا، صادقًا، تجيدُ لُغةَ القلوب وقابضًا على مفاتيحها. ليرفُضك من يُريد، ويكرهك من يجدُ فى رُوحِه مُتَّسعًا للكُره، لكنَّ محبَّة الحقيقيِّين تكفى. لا سيَّما أنهم أهلُ الحلِّ والعَقْد، وأصحابُ المصلحة، والقادرون على طىِّ الكُتب أو تخليد الحوادث والشخوص.

ربما لم يحمل العالمُ شخصًا خلافيًّا قدرَ جمال عبد الناصر. أحبَّه كثيرون فى حياته وصدَّ عنه كثيرون، وتحوَّل آخرون من العداوة والبغضاء إلى القَبُول والاستحسان لاحقًا، وما تزال التحوَّلات لم تتوقف. لا يملكُ الرَّجلُ سرًّا مخفيًّا، ولم تُؤيِّده السماء بعصاةٍ سحريَّة، كُلُّ ما فى الأمر أنه جاء فى وقته، استوعبَ اللحظةَ وكان على قَدْرها، امتلكَ الخيالَ وظلَّ قادرًا على الحُلمِ فى أحلك الظروف، آمنَ بالوطن والناس ولم يخُن إيمانَه، ولم يُقصِّر جهدَ طاقتِه؛ فصدَّقَ الناسُ أنه يدُهم وقدمُهم ولسانُهم، وصنعوا من العادىِّ أسطورةً، ومن العبورِ الخاطفِ حلولاً مُقيمًا لا يزول.

اثنتانِ وخمسون سنةً وبضعةُ شهور قضاها "عبد الناصر" فى هذا العالم، منها أربع عشرة فى العسكريَّة وثمانى عشرة فى السُّلطةِ بتدرُّجاتها، وخاض أربع حروب جنديًّا وقائدًا. مسيرةٌ على إيجازها كانت ثريَّةً فى تفاصيلها، وكافيةً فى أثرها لصياغةِ أُسطورتِه اللامعة، وإكسابِه حُضورًا عابرًا للجغرافيا والزمن. غاب الرجل قبل اثنتين وخمسين سنة أخرى، تُوازى عُمرَه المحسوبَ، لكنَّها تُضافُ إلى عُقودِ بقائه التى لا يبدو أن دفترَها سيُغلَق قريبًا.

كلُّ من كَرهوا الظُّلمَ والظالمين أحبُّوا "جمال". ليس غريبًا ألَّا تجدَ شاعرًا عربيًّا واحدًا من البارزين تخلَّف عن قطارِ المَحبَّة، حتى من كانوا يختصمونَه فى حياته. كتب محمود درويش "نراكَ طويلًا كسُنبلةٍ فى الصعيد/ جميلًا كمصنعِ صَهْر الحديد/ وحُرًّا كنافذةٍ فى قطارٍ بعيد/ ولست نبيًّا؛ ولكنَّ ظلَّك أخضر". كتب الجواهرى "لا يعصمُ المجد الرجال وإنما/ كان العظيمَ المجد والأخطاء". كتب الفيتورى ونزار وحجازى وعبد الصبور والأبنودى وفؤاد حداد، بل إن أمل دُنقل - الذى لم يُضبَط مُتلبِّسًا بتأييد، ولم يُعرف لدى الشعراء والناس إلا أميرًا للرفض - كتب "ونيلُكِ الجارى على خدِّ النجوع/ مجرَى دُموع/ ضفافُه الأحزان والغُربة". وحتى أحمد فؤاد نجم الذى قضى سنوات وراء القضبان قال فى قصيدةِ رثاءٍ بديعة "عَمَل حاجات مُعجِزة وحاجات كتير خابت/ وعاش ومات وِسْطنا/ على طبعِنا ثابت/ وإن كان جَرَح قلبنا كُلّ الجِرَاح طابت". الأمر نفسُه سمعتُه من المُفكر الراحل محمود أمين العالم قبل سنوات من وفاته: "مفيش فى جسمى حتَّة سليمة، بس بحبّ جمال عبد الناصر".

لم أكُن ناصريًّا، وإلى الآنَ لا أُعدُّ نفسى فى زُمرةِ الناصريِّين، لكنَّنى أرى الرَّجُلَ بعين المَنطقِ والإنصاف. إذا أردتَ أن ترى حقيقةَ شخصٍ فانظُر فى خُصومِه ومُحبِّيه. مَنْ يَحفظون ذكراه عوامُ الناسِ، وأبناءُ الفُقراءِ، وكلُّ من صنعت أحلامُه واقعًا مُغايرًا لهم، ومَنْ يُنصابونه العداءَ إمًّا من وارثى حقبة الملكيَّة، أو مَنْ تضرَّروا من سياساتِ العدالة الاجتماعيَّة، أو تخندقوا فى حُفَرِ الأيديولوجيا الضيِّقة، وقبلَهم وبعدَهم مَنْ مارسوا الاستعمارَ أو أحبُّوا العيشَ فى أكنافِه، ومّنْ سرقوا الأرضَ من أصحابها، ومَنْ تاجروا بالدِّيْن وبخسوا الأوطانَ أشياءها. إذا رأيت الرجل يحبُّه الفقراء ويُصدِّقونه، ويكرهه الأغنياء والمؤدلجون والمُعمَّمون وسُرَّاق الأوطان، فاعلمْ أنه اختارَ الضفَّةَ الصائبةَ واختارته.

بعيدًا من أُمورِ القلب. قد يبدو موقفُ المُتشدِّدين ضد جمال عبد الناصر غريبًا، لا سيَّما أن كثيرًا من ناقديه يقولون إنهم يحملون الأفكار والغايات نفسها. رُبَّما تحمَّل "ناصر" الجانبَ الأكبرَ من فاتورة يوليو، وأسقط عليه كارهو الثورةِ أو الحركةِ ما حملوه تجاهها، أو ما لم تحملْهُ لهم ممّا كانوا يتطلَّعون إليه. مثلاً كانت مُنظِّرُ العنف سيد قطب من المُنحازين لحركة الجيش، وكتب فى ذلك كثيرًا، ثمّ انقلب بعدما رفض الضبَّاطُ أطماع الإخوان. تبدَّل الحال من المُوالاةِ إلى لَدَدِ الخُصومةِ، ومن الاشتباك السياسى إلى العُنف والإرهابِ ومُحاولةِ الاغتيال. الخطُّ نفسُه يُمكن أن يمتدَّ مُفسِّرًا كثيرًا من مواقف الليبراليِّين واليسار والمُستغرِبِين. كان "عبد الناصر" قاطرةَ يوليو، أو قائد قاطرتها. ولعلَّه صاحب الدفعةِ الأكبر فيما يخصُّ أهدافَ الثورة، وسياستها، وانحيازاتها، وشكلَ النظام السياسى، وصيغةَ الاقتصاد، وآليَّات العدالة الاجتماعية والانتقالية. الأشياعُ أحسُّوا ذلك فأسقطوا المحبَّة على الرَّجْل، والخُصومُ تأكَّدوا منه فحوَّلوا طاقةَ الكُرهِ إليه وحده.

أكبر المُشكلات التى واجهتها 23 يوليو - وواجها عبد الناصر بالطبع - مستوياتُ العداءِ من دوائر الموالين، أو مَنْ ساروا فى مواكبِ الاستقبال الحاشدة. اليسارُ اعتبر الثورة صنعةً فرديةً للضابط يوسف صدِّيق ونفى الآخرين، الإخوان اعتبروها صنيعةَ عبدالمنعم عبدالرؤوف وتابعيه، وزوَّروا التاريخ ليُروِّجوا سرديَّةً مكذوبةً بانتماءِ الحركة وقيادتِها لهم، والملكيُّون المُستَتِرون اعتبروها هدمًا للبلد المُستقرّ، وتجاوزوا كوارث "فاروق" وتخاذله وانبطاحه أمام الإنجليز، والوفديُّون اعتبروها انقلابًا على الديمقراطية والرخاء اللذين حقَّقتهما حكوماتُهم المُتعاقبة. وسطَ دوائر العداءِ التى ترصَّدت "يوليو" وأطلقتْ الرصاصَ عليها، وأكثرها ممَّن ادَّعوا مُوالاتها والتوافقَ معها رضًا أو غصبًا، كان جمال عبد الناصر "الشاخصَ" المنصوبَ فى ساحةِ الرِّماية، والصدرَ الذى تُسدَّد إليه السهامُ، وتُراقُ منه الدماءُ نيابةً عن الثورةِ والبُسطاء.

كان "عبد الناصر" خطوةً نحو حُلمٍ وطنىّ، يعرفُ قيمةَ مصرَ ويسعى إلى فَكِّ قُيودِها. لقرونٍ طويلةٍ لم تعرف القاهرةُ حاكمًا من طِيْن هذا البلد، أصلاً ومَنبتًا وشُعورًا، ولا مُخلصًا لها بقدرِ إخلاصه لاسمِه أو رغبتِه فى مجدٍ خاصّ. عشراتُ المُستعمرين مقطوعى الصِّلةِ بمصر وأهلها، وحتى مَنْ تمصَّر منهم ظلَّ مأخوذًا إلى أحلامٍ أو عواصم أخرى: المماليك شغلتهم الصراعاتُ ثمَّ الاستباقُ على مُوالاةِ العُثمانيِّين، والعثمانيِّون سخَّروا كلَّ طاقتهم لنَهبِ البلدِ ومُصادرة الأحلام، والعلويِّون سعوا إلى أُسطورةٍ تخصُّ محمّد على وأسرتِه أكثرَ من سعيهم إلى نهضةِ بلدٍ خارجَ حاضنةِ العائلة. كان "جمال" عودةً إلى سلسالِ الحُكَّام المصريِّين جِذرًا وفرعًا، وخطوةً باتِّجاه التحرُّر الوطنىّ، ومشعلاً على طريق القوميَّة المُظلم، وكسرةَ خُبزٍ فى صَحنِ عشاءٍ فارغ. هكذا رآه الناسُ وآمنوا به، وهكذا يُمكن النظر فى مفاتيح القبول الشعبيَّة: أن تنتمى لظهيرِكَ ولا تتعالى عليه، أن تستشعرَ مُصابَهم وتحملّ همومَهم، وأن تضع مصرَ فى عينيك وفوق رأسك. كلُّ من يُقدِّسُ مصرَ يُقدِّسه أهلُ مصر، وكلُّ من يصلُ إلى تلك الحالةِ مع الناسِ يضمن الاحتضانَ والإقرارَ والاستيعابَ والغفرانَ والخُلود.

باتتْ كُلُّ ذكرى تحلُّ لـ"ناصر" أو ثورة يوليو مُناسبةً لافتراءٍ لا جديدَ فيه على الرَّجُل. لم يُقدِّم ابنُ الفقراء نفسَه نبيًّا ولا بطلاً، ولم يقُل عن نفسِه ما ليس فيه، ولم ينتحلْ شيئًا لا يُؤمنُ به أو لا يستطيعُ تحقيقَه. لماذا يُصدِّق الأصوليِّون والمُلوَّنون بالأيديولوجيا قصصًا لا ظلَّ لها على الأرض؟ ولماذا يتجاهلُ العوامُ كلَّ السَّرديَّات المُسيَّسةِ عنه؟ وكيف يصمد فى قُلوب مُحبِّيه كلَّ تلك السنوات، حيًّا وميِّتًا، ويظلُّ اسمُه لامعًا وظلُّه أخضر؟ رُبَّما لو استوعب خصومُه تلك الأسئلة، واقتربوا من الإجابة عنها بأرواحٍ بيضاء وعقولٍ صافية، لكان لهم نصيبٌ من المحبَّة، أو مُتَّسعٌ تحت الظلِّ الأخضر؛ إذ لا شكَّ فى أنَّه باقٍ ومُورقٌ، ولا تزيده السنوات إلَّا نُضرةً وشبابًا!










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة