أكرم القصاص - علا الشافعي

مركب الشمس.. رحلة فى الذاكرة المصرية

السبت، 07 أغسطس 2021 10:05 م
مركب الشمس.. رحلة فى الذاكرة المصرية الباحث خليل منون

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ننشر مقالة بعنوان "مركب الشمس.. رحلة فى الذاكرة المصرية" للباحث الأنثروبولوجى خليل منون، وذلك بمناسبة نقل مراكب الشمس من منطقة الهرم إلى المتحف المصرى الكبير.
 
أمس أبحرت مركب خوفو- وهو الاسم الأكثر دقة لما نعرفه بالاسم الأشهر مركب الشمس- برحلة جديدة من موقعها الأصلى بجوار هرم صاحبه، الهرم الأكبر، هرم الملك خوفو، هذا الهرم الأعجوبة البشرية، الذى حافظ على موقعه ما بين عجائب الدنيا القديمة والحديثة، إلى مينائها الجديد بالمتحف المصرى الكبير، وهى الرحلة التى تدعونا لنسأل عن رحلاتها السابقة، وهى دعوة لنفتش بذاكرتنا المصرية التى حفظتها لنا آثارنا القديمة، لتعيد علينا سرد سيرتنا الأكثر أصالة وقدم، لتنبهنا لما كنا عليه، لتعيد إنعاش ذاكرتنا وهويتنا، لنبحر معها مجددًا نحو مستقبلنا.
 
الرحلة الجديدة لمركب خوفو الملك، مؤسس ما نعرفه باسم الأسرة الرابعة بالدولة القديمة، وهى الدولة التى كانت مصدر إلهام كبير للدولة الحديثة المصرية، والتى نعرفها باسم الدولة الـــ 18 التى أسس لها أحمس محرر مصر آنذاك، وهى الملاحظة التى التقطها عالم المصريات الألمانى "يان اسمان" بأحد مؤلفاته عن الحضارة المصرية القديمة، هنا لابد من الحديث عن الميناء الجديد الذى رست به مركب خوفو، وهو المتحف المصرى الكبير، والذى يعد أكبر متحف عالمى معاصر، بما يحويه من عدد كبير من الآثار، وطراز معمارى وتقنى هو أخر ما توصلت له التقنيات المتحفية بعصرنا.
 
لن أتوسع فى الحديث عن قيمة الطراز والتقنية التى بلغها هذا الصرح المتحفى الكبير، وهو حقًا صرح كبير يستحق مقالة خاصة، بقدر ما يشغلنى بشكل أكبر التوسع فى الحديث عن أهمية المتاحف بوصفها أرشيف هام للذاكرة الإنسانية، وليس الفنية فقط، فالمتحف يمتلك أو يمنح الشعوب نافذة بالغة الأهمية عن تاريخها ومستقبلها بنفس الوقت، أنه أرشيفها الوطنى بكل ما تحمل الكلمة من معنى واسع للشعوب، وهو حظنا نحن المصريون الذى لا يضاهينا به شعب من الشعوب إلا القليل. فنحن المصريون كما قال ذات مرة الفيلسوف أفلاطون أصحاب ذاكرة طويلة.
 
يبحر مركب خوفو إلى ميناء الذاكرة المتحفية، تلك الذاكرة التى تعلن عن نفسها وحضورها، فالمتحف هو أثر لا يقل قيمة عن ما يعرضه، هناك بهذا الميناء الجديد ترسو مركب خوفو، لتدعونا مجددًا للسؤال عن رحلات هذه المركب السابقة؟ وأغراضها؟ بل وعالمها الذى حفظه الأثر ليعلنه علينا مجددًا.
 
هناك روايتان لدى المنشغلين بعلم المصريات القديمة عن وظيفة هذه المركب الملكية، الرواية الأولى: وهى الأقل تماسكـــًا، بأن هذا المركب الملكية كانت بغرض أن يستخدمها الملك فى رحلته السماوية بعد اتحاد الملك مع إله الشمس "رع" فى العالم الآخر، مركب للذهاب من الشرق إلى الغرب نهارًا والمركب الثانية للعودة من الغرب إلى الشرق ليلًا مضيئًا بذلك عالم الأحياء والموتى، لكن الرواية الثانية: والتى تقنع الكثيرين، وتقنعنى كذلك، أنها كانت مركب جنائزيًا تستخدم لحمل جثمان الملك المتوفى، حيث كان ولابد للملك أن يذهب جنوبا بمركبه ذات المجاديف إلى أبيدوس مدينة الإله "أوزير" وعاصمة الملوك الأصلية التى أتى منها أجداد الحكام حينها، ويعود بأخرى شراعية إلى مينائه الأخير، إلى قبره، والذى يتصادف هنا وهو الهرم الأكبر للملك خوفو، والحجة على أنه استخدم فعليًا لهذا الغرض، هو أثر الحبال المشبعة بالماء الرابطة لجسم المركب والتى تركت أثرها الواضح على أخشاب المركب.
 
بالملاحظ الأخيرة عن أثر الماء بالحبال الرابطة لجسم المركب، يخبرنا المركب عن نفسه ووظيفته، وربما؛ لو تركنا للمركب الحديث أكثر، لعلمنا الكثير عن تلك الذاكرة الصامتة، تلك الذاكرة التى لا تحتاج منا إلا الاصغاء.
 
تخبرنا أخشاب صنع المركب، والتى تركت على جنباتها علامات ترشد وتساعد فى عملية إعادة جمعها مجددًا، بعد أن فككت لتحفظ بجوار مقبرة صاحبها، ليعيد استخدامها مرة أخرى بعد البعث، وقد بلغت عدد القطع الخشبية لمركب خوفو إلى651 جزء رئيس ومقسمة إلى 1224 قطعة خشبية، قد قدت من خشب الأرز!- وان الاخشاب الصغيرة اللازمة لاتمام عملية بناء المركب كانت مما توفره البيئة المصرية، ولا يتجاوز عددها تقريبا نسبة 5% من المجموع الكلى لأخشاب المركب- من أين أتى هذا النوع من الاخشاب والذى لم يكن متوفر بمصر القديمة؟ لعله قد جاء كما هو مثبت تاريخيا من جبال لبنان، هذه الدولة التى أخذت من شجر الأرز رمزا وطنياً، ماذا عن الحبال الرابطة لجسم المركب، حيث من المعلوم أن عملية تثبيت المركب كانت تعتمد طريقة ربطها بالحبال فقط، وهى طريقة قديمة فى الثقافات الانسانية، كانت لفترة قريبة تستخدم بمناطق الخليج العربي، وكذلك الصين، هنا نسأل من علم الآخر هذه الثقافة؟ وهل كانت هناك علاقات بهذا القدم ليتعلم أحدنا من الآخر ثقافة ربط المراكب بالحبال؟ لن أذهب بعيدًا للإجابة عن هذا السؤال، بقدر ما يجب لفت الانتباه لعمق هذه الصلات بين شعوبنا هنا، وعمق التبادل الثقافى بيننا، والذى أسس لما نلحظة من علاقات مستمرة إلى يومنا هذا.
 
ماذا عن الرحلة للجنوب، عن الأرض الأصل، عن أرض الأجداد بلاد الإله "أوزير" بـــ أبيدوس أن  يرحل هذا المقال لاقتفاء أثر رحلة مركب خوفو جنوبًا. ما من شك أن كل مصرى يعلم تاريخ وحدة دولتنا المصرية على يد الملك "نارمر"، هذا الآتى من ممكلة الجنوب، ليوحد التاجين بتاج واحد، ومن يومها أصبح للعالم نموذج لمعنى الدولة الموحدة، وهو جوهر أساس لكل ما حملته مفاهيمنا عن الدولة، وما تطرحه من مفاهيم الجغرافية السياسية والإدارة والتنظيم والجيش الوطني. وهو المعنى الذى احتج به رجل بقامة الافريقانى السنغالى "شيخ انتاديوب" بوجه الدعاية الفرنسية يومًا، حين أنكروا علينا نحن الأفارقة بحقبة الاستعمار أننا شعوب متحضرة ولها تاريخ! مصر الدولة النموذج، كانت الحجة بوجه التعالى الغربى ليست فقط من قبل المصريين دون غيرهم من القارة، بل أضحت حجتنا جميعًا كأفارقة على العالم أننا درس الحضارة الأقدم للأنسانية، بدروس الدولة الوطنية الأقدم الذى تعلم منها الجميع.
 
هنا يطرح علينا مركب خوفو أن نستعيد ونستحضر بذاكرتنا تاريخ هذه الدولة، ذكريات بداياتنا، حتى نذهب للمستقبل حاملى مسؤولية الحفاظ على هذا المنجز، عن أصولنا وجوهر وجودنا، لنعيد التأكيد على هويتنا فى تنوعها، بل وكذلك اتساع نطاق حدودها وعلاقاتها الثقافية، الاخشاب من لبنان، ربما تقنية ربط جسم المركب ربما جاءت أو تم أستعارتها من المناطق العربية، لك أن تعلم أن الذاكرة التاريخية لجغرافية لشرق نهر النيل وفق ما قدمه الرحالة اليونانى "هيرودت" كانت تعتبر المعرفة الجغرافية آنذاك بوقت زيارته جزء جغرافى آسيوى وأن غرب نهر النيل أفريقي، وهذا المعنى نفسه الذى أعتمده المفكر الأفريقى الكينى "على مزروعي" فى التوفيق بين الهوية الافريقية والعربية، وهو الجدل الذى صاحب حركة التحرر فى نصف القرن الماضي، إلى أن وصل "على مزروعي" بأفكاره إلى الدعوة والتمسك بما اطلق عليه هوية أفرابيا، تلك الهوية التى تجمع الأفارقة والعرب.
  
 

 










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة