أكرم القصاص - علا الشافعي

محمد حبوشه

محمد إبراهيم الشوش .. رحيل مفكر سوادني كبير

الجمعة، 22 أكتوبر 2021 08:36 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
رحل عن عالمنا قبل أيام الدكتور محمد إبراهيم الشوش، ذلك أكاديمي والناقد والأديب والصحافي العظيم الذي كان معروفا سودانيا وعربيا، وله إسهامات توزعت بين النقد الأكاديمي والكتابة الصحافية من خلال عمله عميدا لكلية الآداب بجامعة الخرطوم وزاويته النقدية بجريدة الصحافة السودانية في الستينيات، وتتلمذ علي يديه أجيال من الأدباء والشعراء والمثقفين العرب والسودانيين البارزين.. غاب الشوش عن الحياة بكاملها بعدما غاب عن البلاد طويلا وأمضي في مغتربه أكثر من ثلاثين عاما، ولا يعد الشوش الناقد والكاتب السوداني البارز فحسب، بل هو أحد أهم رموز الحداثة النقدية في الوطن العربي.
 
وقد عرفت الدكتور الشوش من مقالاته ومساهمته الفكرية والأدبية من خلال مجلة (الدوحة) التي تربى وعينا عليها في مرحلتي الثانوي والجامعة، فقد تولى الراحل رئاسة تحرير مجلة (الدوحة) القطرية في فترة صدورها الأولى، ومع ذلك ظل وفيا لمساره النقدي وقدم العديد من المبدعين، وقرأ عشرات النصوص الشعرية والقصصية، وكان عذبا قل مثله يعلم العربية بمعرفة وثقى بآداب غيرها مثل الإنجليزية، وكان - على سمرته الشديدة - مشرق الوجه تضيء شلوخه من بلل بسمته، وكانت بسمته دسمة بطفولة محببة وعميقة ومكر وذكاء، كما لاحظت ذلك في أثناء لقائي به على نيل القاهرة قبل عشرين عاما تقريبا، في صحبة شاعر أفريقيا الكبرى الراحل الفذ (محمد الفيتوري).
 
ظهر الشوش في اللقاء غير المرتقب بعمامة بيضاء وجلباب ناصع البياض وشلوخ مطارق، رجل يفيض رقة حينما يتحدث عن الذكريات، ولمست رقته وعذوبته عبر حواره معنا، حيث كان يداري دموعه بطرف عمامته ثم يمسحها بسرعة.. كما بدأ لي في البداية وهو يختار مواصفات فنجان القهوة مثل إنجليزي يستمتع بمرحلة التقاعد، وحينما غرقنا في التفاصيل وجدت الشوش رغم الغربة والترحال وكيد السياسة يحتفظ بروح ابن البلد الأصيل.. فتعابير الشوش وصراحته لا تقبل التدخل الجراحي، ومن الصعب على التلميذ أن يدقق في أوراق أستاذ بقامة محمد إبراهيم الشوش، وفي حضرة شاعر أفريقيا (الفيتوري) بمشاغباته المحببة إلى القلب.
 
أذكر في تلك الليلة أن حديثا عذبا جرى على لسانه، رغم أن غصة أو مرارة ما كانت في حلقه عندما قال: جامعة الدول العربية التي ما قفزت حائطاً من قبل قد قفزت حائطنا وأرسلت بعثة الى دارفور برئاسة السيد سمير حسني مدير إدارة أفريقيا: (أمال ما هو السودان أصبح خلاص أفريقي مائة في المائة) ويا حسرة أجدادي في مورة وعطبرة وأم بكول الذين ماتوا وهم يرددون (نحن شايقية وعبابيس نقرأ في كتب الاحاديث)، ولا يحسبني أنصار الأفرقة الذين يحيطون بنا الآن من كل جانب ويحصون علينا أنفاسنا أننا نستهين بهذا الشرف الذي اسبغته علىنا الجامعة العربية، حاشا لله فالأفارقة على العين والرأس فهذا عصر الأمركة والأفرقة، وبلدنا في قلب القارة الافريقية والحمد لله.
 
في حديثه هذا كنت ألمح نبرة حزن وأسى لما آلت إليه أوضاع السودان كبلد أفريقي استكثر عليه العرب ضمه للجامعة العربية، وكأن جرحا ظل عالقا في قلبه - رحمه الله - رغم مرور السنوات، وفي تلك اللحظة تدخل الفيتوري (الذي كان يحمل الجنسية الليبية، ويعمل وزيرا مفوضا بسفارتها بالقاهرة حيث قال: قد يكون ما حدث للسودان هذا تعبير عن فشلنا كجيل، في عدم حفظ ماء وجوهنا ككتاب عن السودان في التعبير عن همومه الكبرى، طالما ضاع قسط من حيلتهم وحياتهم لرفعة ما يسمي بالوطن .. حقيقة لم أعد أدري، أي من الأشمئزازين ، أتخذ ؟، من الواقع ومما آل إليه مثقفينا؟، أم من عجزنا على رد جمائلهم كأحتضار يتمنوه علي أرض السودان ووسط أحفادهم؟.
 
قضايا شتى تحدثنا عنها في أثناء لقاء مع هذا المثقف السوداني والعربي الكبير استمر أكثر من 3 ساعات، ورغم مرور السنوات الطويلة التي تربو على عقدين إلا أنني أذكر تفاصيله حتى الآن، خاصة حديثه عن رحلته الغربة والترحال في قطر، وكانت قصصه طبعا من أغرب قصص حياة أديب ومفكر وكاتب سوداني، رغم أنه اختصرها في عجالة قائلا: حقيقة أنا نادم على قبولي لمنصب الملحق الثقافي ،لم أكن أعلم بأنني سوف أكون موظفا بالدرجة الخامسة، والوزير تحدث لي بأنني ستتم معاملتي بطريقة خاصة، وهو حقيقة لم يكن يدري أن الوظيفة تتبع لوزارة الخارجية.. وأن وزارة الخارجية لم تكن مرحبة بفكرة المستشارين الإعلاميين، ولهذا اسمتهم بالملحقين، وجعلت من فوقهم كادر الدبلوماسيين، ولذلك أنا بعدم معرفتي بالخارجية وعدم معرفتي بالمستوى وطريقة عملها قبلت الوظيفة، وافتكرت أن الشوش بتاع هذا العهد والسنوات، هو نفسه الشوش بتاع السبعينيات.. فاكتشفت أنني مجرد كاتب تقارير، وراصد صحفي وأصبت بالإحباط.
 
وسألته عن بعد روايته المختصرة عن فترة وجوده ملحقا إعلاميا ،عن علاقة المثقف بالسلطة؟، احتسى فنجان القهوة على دفعة واحدة وانتبه لي قائلا: ليس مطلوباً من المثقف إعلان انتماء سياسي، ولكن المشكلة في البلاد المتخلفة أن الفرص كلها لدى السلطة.. وهذه البلاد تفتقر الى المؤسسية، وصعب جداً للمثقف أن يكسب عيشه، فإما أن يتوه في الشارع أو يهاجر أو عندما يتحدث عليه أن يأطر كلامه (قالها وهو يضحك)، ولهذا نجد أن الأغلبية هاجرت وبعضهم تأطر، وعلاقة المثقف بالسلطة وطرحها كما لو كانت خياراً هو منطق خطأ فهي مشكلة.
 
واستطرد الشوش قائلا: أنا لم أكتب كلمة واحدة تزلفا لحاكم أو نظام  ..أنا نظرتي كانت نحو بلد مظلوم إعلامياً، ولديه قدرات هائلة وكامنة، ونحن كإعلاميين لنا دور مهم في نشر ذلك، وموقعي الدبلوماسي أيضا ما كان يتطلب مني الدفاع عن الحكومة، والحكومة نفسها لم تكن لها ممارسات واضحة في أي اتجاه، وهناك بعض الأشياء أقولها عن الحرية الموجودة في السودان التي لم أشاهدها لا في أمريكا ولا بريطانيا، وفي نفس الوقت هناك ممارسات ، لم تحدث لا في أمريكا ولا بريطانيا، لهذا ليس هناك سياسة واضحة تستطيع أن تدافع عنها، والمشكلة هنا ، أنه ليس هناك تخطيط واستراتيجية واضحة.
 
الخيارات صعبة جدا في بلدي - يضيف الشوش - ولهذا كان أول خياراتي السكوت، والمشكلة أن الحاصل يصعب معه السكوت، هذه هى المشكلة والتفكير في الهجرة مرة أخرى كخيار أيضا، فالحالة العامة البلاد، وما هو حادث بين الحكومة والمعارضة والضغط المتواصل.. وحالة الشد والجذب الحاصلة، وعلى مستوى الإعلام، فمثلاً حالة الأستاذ الطيب مصطفى والذي لديه رأي مختلف، فيهاجم بأنه خال الرئيس.. السؤال ما ذنبه إذا كان خال الرئيس، وله رأي مختلف؟، هذه حالة مختلفة في الاختلاف، كذلك ما واجهه الآن قطبي المهدي من ردود أفعال لمجرد الافصاح عن رأيه، وقس على ذلك من حالات في قبول الآخر وحالة الحوار السياسي والاجتماعي، نحن نحتاج الى الكثير في كل هذا .
 
وكان لابد لي من أن أسأله عن رؤيته للمشهد الثقافي وتعدد الكيانات الثقافية وهل هى ظاهرة إيجابية أم سلبية؟، فقال لي هذا سؤال صعب والإجابة عليه تتوقف على ما سوف يحدث من حراك ثقافي، أما مايحدث من مشاهد ثقافية هو حالة استقطاب حادة جدا فى مختلف النشاطات السياسية والثقافية والاجتماعية وحتى الرياضية من جانب السلطة وتعاملها بردود الأفعال وليس لديها تخطيط وأنها حالة أدلجة فكرية، سياسة الإنقاذ هى سياسة من ناحية ميكافيلية صحيحة، وهى أن تجعل الشعب يواجه نفسه وليس الحكومة، بمعنى أي كيان يواجه كيانا آخر مماثل له.. يعني هذه المقابلة تكون موجودة.. بعيدا عن الحكومة المنشغلة بأمور أخرى.
 
ومع جرأته الشديدة في تشريح الأوضاع ، باغته بالسؤال: هل الانفصال  أدى الى خلق تماسك أو تمزق جديد.. إذن برأيك هل الانفصال كان صحيحا أم خطأ؟
هذا الذي حدث كان لابد أن يحدث لمرارات طويلة عند الجنوبيين.. والقوي الأوربية أدركت أن خطتها فشلت في التغيير الشامل للسودان عبر مراكز الدراسات، التى كانت تحشد لفكرة ثورة المهمشين، ضد الشمال، ورغم أن (جون قرنق) رفع شعار سودان جديد وفقا لخطة أوربا للتغيير، ورغم أحلام الشماليين بالوحدة الجاذبة، إلا أن الأمور سارت نحو انفصال الجنوب، لذلك اعتقد أن النهاية منطقية لصراع طويل، وكذلك نحن كمتعلمين لم يكن لنا دور بارز، وضيعنا البلد ولو كنت أمتلك بطاقة اقتراع في الاستفتاء - وأنا جنوبي- لاخترت الانفصال لأنه خيار وحيد وسط ظروف صعبه .
 
وكنت شغوفا بمعرفة رأيه في الروائي الكبير الطيب صالح الذي رشحه لتولى رئاسة تحرير الدوحة فسألته عن ذلك عن البعض يقولون أنه لا نظير له في ساحة الأدب السوداني بل والعربي أيضا فقال: ليس هناك مبدع يطفئ ألق الآخرين في كل العالم، في كل الفنون والآداب ففي العالم برزت اسماء كبيرة، شكسبير، فولتير، العقاد، طه حسين ورغم أنهم منارات لكنهم لم يحجبوا الضوء عن من تلوهم، والقول أن هناك كاتبا معينا يمكن أن يطفئ نور الآخرين قول مردود، والكاتب القادر يستطيع النفاذ، وما حدث أن الاهتمام انصب علي الطيب صالح لأنه أصبح منارة كبيرة، ولو كان هناك واحد لبرز فالشهرة وحدها لا تصنع أديبا في قامة الطيب صالح، ولخص رأيه في قوله (أما اعتبار الطيب صالح شجرة لا ينبت تحتها شيء فهذا فيه شيء من المبالغة).
 
رحم الله المفكر والأديب والصحفي الكبير الدكتور محمد إبراهيم الشوش، الذي مثل ضمير أمته السودانية في تعاطيه مع أحواله ومنغصاته، وظل متعلقا بتراب هذا الوطن حتى النفس الأخير، فلم تنسه سنوات الغربة والترحال ملامح هذا الإنسان السوداني الأفريقي الذي عاش المرارة من جانب بعض أبنائه ومؤامرات الخارج

 










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة