أكرم القصاص - علا الشافعي

محمد حبوشه

تكريم سمير الإسكندراني

الجمعة، 21 أغسطس 2020 10:37 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

 رحل عن دنيانا الفنان الكبير والقدير والوطنى حتى النخاع "سمير الإسكندرني" الذي نرجو من الدولة والقائمين على الفن في مصر تكريمه في أي من مهرجات الغناء، ومنها على وجه الخصوص "مهرجان الموسيقى العربية" الذي كرم صغارا من قبل لا تطاول قاماتهم قامة "الإسكندراني" في مجال الغناء، وهو الذي اشتهر بدوره الوطنى بخداع الموساد الذى حاول تجنيده أثناء دراسته وهو طالب دراسات عليا بإيطاليا، فتظاهر بالموافقة في بداية الأمر، ثم طلب لقاء الرئيس عبد الناصر وقادة المخابرات قبل أن يتعاون معهم، وتمكن من إسقاط أكبر شبكة تجسس في مصر كانت تستهدف اغتيال عبدالناصر والمشير عبدالحكيم عامر، وهو ما أدى بطبيعة الحال إلى إقالة رئيس الموساد وعدد من كبار القيادات فى الجهاز المخابراتى الاسرائيلي.

 

لقد كان معروفا أنه كان لدى الراحل العظيم خامة صوتية رخيمة جعلته مميزًا بين أبناء جيله الذين ظهروا خلال هذه المرحلة، وكان لتعلمه عددا من اللغات أثرا بالغا في تلون حالته الغنائية التي يتشكل فيها في كل حالة، فمثلا في غنائه للوطن يشعر المستمع بالمسئولية والمشاعر الوطنية الصادقة التي بقيت مع الراحل من أغنية "يارب بلدي وحبايبي والمجتمع والناس" حتى ختام الرحلة، كما كان في ظهوره بأوبريت "تسلم الأيادي" والذي أضفى حالة خاصة عليه، ومن أشهر أغانيه العاطفية والوطنية الأخرى: يا نخلتين في العلالي، النيل الفضي، ترحال السنين، أحبك الآن وسأحبك غدًا، زمان زمان، نويت أسيبك، قدك المياس، أه يا جميل يا اللى ناسيني، ابن مصر، بناعهدك يا غالية، كلها جميعا في حب مصر وغيرها من معان نبيلة.

ما كان يميز مشوار "سمير الإسكندراني"  هو غلبة الأغاني الوطنية عليه كدليل عملي على عشقه وحبه الذي لم يكتف فقط بعمله لصالحه سنوات من عمره وزهو شبابه، بل ترجمه إلى أعمال غنائية تظل راسخة في ذاكرة الشعب سنوات وعقود، وظهر ذلك جلياً عندما ظهر الراحل في أحد إعلانات الاتصالات خلال حملة دعم المنتخب المصري في كأس العالم منذ عامين والتي ظهر بها مع الفنان كريم عبد العزيز وأحمد عز، ولكن وبرغم كل هذه المحبة والإخلاص لم ينل الراحل تقديره من الاحتفاء والاستحقاق، فلم نر يوما أو نسمع عن تكريمه في أي مناسبة وطنية أو فنية تقديرا لهذا الدور الوطني الخالص لمصر، ومع ذلك يبقي "سمير الإسكندراني" حالة فنية وطنية صادقة وخالصة، قضى الرحلة يقدم المتعة واختتمها بتراث وإرث يفتخر به أجيال رحلت وأخرى قادمة على الطريق.

 

لم يكن "سمير الإسكندراني" مجرد فنان يجيد الغناء والتلاعب بالمقامات الشرقية فحسب، بل اشتهر بلون غنائي تستطيع أن تميزه من بين مئات المطربين في مصر والعالم، سواء بأغانيه الوطنية والعاطفية أو براعته فى فن "الفرانكو اّراب"، بحكم أنه كان يجيد التحدث بخمس لغات غير العربية، وكان ظهوره فى الحفلات التليفزيونية كفيلا بنجاحها، خاصة حين كان يغنى: "يارب بلدى وحبايبى والمجتمع والناس"، وكان يغنى للحياة والناس والوطن، ويدعو إلى الخير والحب، وإضافة إلى ذلك كان أستاذا أكاديميا فى كلية الفنون الجميلة، علاوة على كونه كان فنانا مثقفا وحكاءا بارعا عن مصر والمصريين.

 

عرفت مدى حماس "الإسكندراني" الوطني وانحيازه للبسطاء من أبناء هذا الوطن، من خلال موقف تميز فيه بجوانب أخرى قد تكون غير منظورة ومن أهمها الجانب الانسانى، حيث قاد مع الصحفى الكبيرعبد السلام داود - رحمه الله - وهو من أكبر الكتاب على المستوى المهني والإنساني.. قادا معا حملة لإنقاذ مرضى مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية فى بداية الثمانينيات، وكانت تلك الحملة كفيلة بكشفت ما يعانيه هؤلاء المرضى من ظلم يفوق قدرة التحمل الأصحاء، أذكر أيضا أنه عندما تولى الدكتور إسماعيل سلام وزارة الصحة واصل حملته النبيلة تلك، خاصة مع الأطماع التي ظهرت آنذاك فى الاستيلاء على أرض المستشفى نفسه وترحيل المرضى الى الصحراء!.

 

ولعلي هنا أجدد طلبي كما ذكرت في بداية مقالي بضرورة تكريم هذا الفنان العظيم الذي تم نسيانه في زحمة الأحداث الطارئة التي مرت على مصر، وذلك لأسباب جوهرية أهمها أن سمير الإسكندراني امتلك حياة مليئة بالأحداث، وعاش ظروفا صعبة ما بين خطر الاستهداف، وعالم الجاسوسية الذي دخله مصادفة لكنه أجاد بذكائه الحاد وحكمة تصرفه بمسئولية، وامتلك في ذات الوقت أدوات الفن الراقي إلى جانب حسه الوطنى المتفرد، ومن ثم تحتوى حياته الثرية الكثير والكثير من الحكايات التي بمجرد قراءتها أو الاستماع لها على لسانه تشعر بأنك أمام عالم روائي بامتياز، حكاية من حكايات الجاسوسية المفعمة بالمخاطر والفانتازيا التي يصعب تصديقها على وجه الإطلاق، لما تحمله في طياتها من غرابة ومخاطر وإثارة على طريق مسلسلات الأكشن والجاسوسية التي مرت بحياتنا.

وأيضا حين ترى بطلها الحقيقي ستشعر في ظل رومانسيته وعفويته وبساطته وروحة المحبة لهذا الوطن، بأنه من المستحيل أن يكون ذلك الشخص الذي تستمع لحكايته هو من يقف أمامك الآن أو يظهر على شاشة التليفزيون ليروى لنا بعضا من جوانب بطولته، فقد كان متواضعا تواضعا جما، وهو ما لمسته من خلال لقاءتي المتكررة به في منطقة وسط البلد، حيث كان يعشق هذه المنطقة التي سكنها طوال حياته، وهو ما كان ينعكس في طريقة استقباله للناس البسطاء في الشارع ليهبط من سيارته كي يسلم عليهم ويحتمي بدفء مشاعرهم، في غير تكلف أو أنفة كما يبدو لنا في أجيال الفن الحاليين.

 

تأتي خصوصية "سمير الإسكندراني" كفنان شفاف وإنسان وطني بامتياز، من خلال ذلك الشخص البسيط محب الفنون، وهو من غنى باللغة الإنجليزية والعربية، كما أن له دويتو نادر جدا مع موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب - ربما لا يعرفه كثيرون - هو نفسه من ذهب بإرادته الحرة إلى المخابرات العامة يطلب لقاء أحد المسؤولين بالجهاز الوطني، ويصبح من بين أبطال هذا الجهاز الوطني الذي كان ومازال شاهدا على فترات مهمة من تاريخ مصر، ويعمل كحائط صد منيع لحماية تراب ومقدسات هذا الوطن، ويساهم في تقديم كنوز من المعلومات يقدمها إلى وطنه عبر حرفية عالية.

 

رحل الإسكندراني تاركا رحلة طويلة وتاريخا مليئا بالدراما، وظني أن حياته الثرية تلك تستحق بما فيها من مغامرات بين عالم الجاسوسية والفن، وبما قدمه للوطن من تضحيات وغناء عذب يحفز على العمل والجد والاجتهاد والإعلاء من قيمة الوطن، أن تكون سيرة تُروى للأجيال القادمة، من خلال عمل درامي يرصد حياته منذ نشأته في منطقة الغورية ومرورا بعمله المخابراتي ومساهماته الكبيرة في العمل الفني والوطني، ككثير من الحكايات التي تستحق أن تُروى لتقول للأجيال الجديدة: إن الوطن باق وإنه يستحق أن نضحي من أجله بالنفيس والغالي.

 

ولابد لي أن أعرج على قدرة الإسكندراني الفائقة على الانخراط في العمل الوطني من خلال حوار يعد بمثابة شهادة موثقة من جانب أحد الذين أشرفوا على تأهيله في جهاز المخابرات، وهو الثعلب "رفعت جبريل" أجراه معه الكاتب الصحفي ورئيس تحرير المصري اليوم الأسبق، محمد السيد صالح، روي فيه عن دخول "الإسكندراني" إلى عالم الجاسوسية، وتفاصيل رحلته من عابدين إلى روما، والعديد من العواصم الأوروبية والقاهرة، وحكايات أخرى عن عالم الفن الذي كان أحد أبطاله أيضًا.

يقول "جبريل": "علاوة على إخلاصه ووطنيته وولائه واستعداده للتضحية بمستقبله في سبيل نجاح العملية، فإننا لمسنا ميله الطبيعى وحبه للمغامرة واستعداده لمواجهة ما قد يتعرض له من صعاب ومشاكل، وكانت هذه العملية مهمة للغاية لنا لأنها أول تجربة من نوعها لإدارة مقاومة الجاسوسية في مجال تشغيل العملاء المزدوجين بالنشاط الإسرائيلى، مع تطبيق مبادئ المخابرات في مجال العمليات السرية على موضوع حى في الميدان، إضافة إلى جميع المشاكل التي تعترض مثل هذه العمليات وكيفية التغلب عليها سواء كان ذلك من ناحية سير العملية أو من الناحية النفسية للعميل المزدوج، فضلا عن اكتساب الخبرة العملية سواء كان ذلك عن طريق تشغيلنا للعملاء المزدوجين أو أساليب المخابرات المضادة في تشغيل هؤلاء العملاء".

جدير بالذكر أن حكاية الراحل "سمير الإسكندراني" بدأت من حي الغورية الشعبي في منطقة الجمالية، فمن المعتاد أن هذه الأحياء الشعبية تحمل مواصفات المسئولية لدى شبابها، كما أنها منطقة يحدها أحياء مثل الحسين وخان الخليلي التي تتمتع بالفنون الحرفية واليدوية مما نشأ بداخله حب الرسم وتعلمه، ليستكمل رحلة تعليمه الجامعية داخل كلية الفنون الجميلة، واستكمالا لتلك النشأة، فقد تربى "الإسكدنراني" على حب الفن والاستمتاع بمبدعيه خصوصًا وأن والده من خلال عمله كتاجر أثاث كانت تجمعه علاقات بالعديد من الفنانين.

 

وعاش مع والده الحاج (فؤاد) سهرات وأمسيات الأدب والفن والغناء، فوق سطح منزله هناك، حيث كان يعقد لقاء شهريا يوم الأحد الأول من كل شهر، مع أصدقائه من الشعراء والمطربين والملحنين، وامتزج نمو الفتي الصغير بأشعار بيرم التونسي ، وألحان الشيخ زكريا أحمد، وغناء والده بصوته العذب، وأحاديث السياسة والحرب والاقتصاد ودفعه حبه لـ "بنت الجيران" الإيطالية لتعلم اللغة الإيطالية ونتيجة لإجادة تعلمها حصل على منحة دراسية لإيطاليا، وبدأ من خلالها رحلة جديدة ومحطة مهمة في حياته، حيث بدأ رحلته ودوره الوطني في العمل لصالح الحكومة المصرية كعميل مزدوج لها ولنظيرتها الإسرائيلية.

 

ونتيجة لنجاحه في عمله المخابرتي ألقت المخابرات المصرية القبض على أكبر عميل للموساد في مصر، وتحفظت عليه فترة من الزمن، دون أن تنشر الخبر، أو تسمح للآخرين بمعرفته، حتى يتم كشف الشبكة كلها، والإيقاع بكل عناصرها، وبالفعل راح عملاء الشبكة يتساقطون واحد بعد الآخر، والحقائق تنكشف أكثر وأكثر، ودهشة الجميع تتزايد وتتزايد، ثم كانت لحظة الإعلان عن العملية كلها.

وجاء دور الإسرائيليين لتتسع عيونهم في ذهول، وهم يكتشفون أن الشاب "سمير الاسكندراني" ظل يعبث معهم ويخدعهم طوال عام ونصف العام، وأنه سحق كبريائهم بضربة ذكية متقنة مع جهاز المخابرات المصري، الذي دمر أكبر وأقوي شبكاتهم تماما، فكانت الفضيحة الإسرائيلية مدوية في العالم كله، وكان النصر المصري ساحقا مدويا، واستمع "سمير" إلي التفاصيل وهو يبتسم، ويتناول الطعام بدعوى شخصية من الرجل الذي منحه كل حبه وثقته، وعلى مائدة تضم الرجل وأسرته، في منزلهم البسيط

 

 لقد دعاه الرئيس جمال عبد الناصر، ليكافئه على نجاحه في تلك اللعبة، التي أثبتت انه ليس فنانا عاديا، أو مواطنا بسيطا، بل هو يستحق وعن جدارة، ذلك اللقب الذي أطلقوه عليه في جهازي المخابرات المصري لقب الثعلب المصري ( سمير الاسكندراني) الذي ظل طوال حياته المليئة بالأحداث المهة صفحة مضيئة من تاريخ منسي- للأسف – لم نحتف بها بالشكل الذي يليق بابطالنا الحقيقيين .. رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته بقدر عطائه الوطني والفني الذي ألهم كثيرين، وسيظل يلهم أجيال قادمة في أجمل معانى الوطنية.










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة