حازم صلاح الدين

الإسكندرية "غضبانة".. أصل الحكاية ما تضحكش

السبت، 04 أبريل 2020 12:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
هناك مشهدان فى الإسكندرية خلال الأسبوعين الماضيين، توقف الجميع أمامهما، كان المشهد الأول، عندما نشر بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعى مظاهرات ليلية شهدتها منطقة أرض الفضالى، بمنطقة سيدى بشر يوم 23 مارس الماضى، داعين فيها رحيل فيروس "كورونا"، وهو ما أثار سخرية واسعة نظرا لأن الفيروس ينتشر بالتجمعات.
كان المشهد الثانى من خلال استغلال عدد من المواطنين فترة الإجازة وتنظيم رحلات من المحافظات المجاورة إلى شواطىء عروس البحر، وقاموا بضرب تحذيرات الحكومة من التجمعات عرض الحائط، رغم أن الهدف معروف للجميع بضرورة الوقاية اللازمة منعاً لانتشار الفيروس.
 
بكل تأكيد أن هذه المشاهد تجعل كل عاشق لمدينة الثغر يشعر بحالة من الحزن الكبير، فالإسكندرية طوال تاريخها هى "النبع اللغز" للفن والسحر والمقاومة والتسامح ، هي بحر الدهشة الهادر، وهو فيها موجة ساحرة لا تهدأ، فحينما تقف على شواطئها، شارداً والغيم يتسع في عينيك، وكأنه خرج تواً من البحر المليء بالعجائب أو كأنه صورة من قصيدة شجية، صامتاً يصغي الى أغنية قديمة عن الإسكندرية بصوت جورج موستاكى، يحكى فيها عن تلك المدينة الكوزموبوليتانية التي كان ثلث سكانها في أوائل القرن الماضي من جنسيات وثقافات متعددة تعايشت مع بعضها في سلام، تغنّى بها سيد درويش، داليدا، كلود فرانسوا وحتى الشيخ إمام، مرورا بعلى الحجار وغيرهم من نجوم الغناء: "يا إسكندرية بحرك عجايب... ياريت ينوبني من الحب نايب... تحدفني موجة على صدر موجة... والبحر هوجة والصيد مطايب".
 
لا أصدق حتى الآن أن هذه الإسكندرية المدينة القديمة التى كانت مفتوحة بل خوف أو قلق، المدينة التى كانت تصيغ علاقتها بالآخر وبالعالم من دون تردد أو ارتباك من سؤال الهوية الذى ظل مطروحاً سنوات طويلة، فهى كانت مدينة عالمية مفتوحة، اتسعت للأحلام وكذلك للاختلاف وكانت فيها الحياة على قدر هذا الاتساع، غير مرتبطة بدين أو جنسية أو لون أو أصل، فالمدينة التى اختلط فيها الأجانب بأهلها الأصليين كانت مركزاً لتفاعل وانصهار الثقافات والديانات والحضارات: يونانيون وأتراك ومالطيون وفرنسيون وطليان..  ومسلمون وأقباط ويهود.. كلهم يتعايشون معاً ويتجاورون حتى صاروا جزءاً منها ومن تاريخها، كانت مدينة عالمية بلا شك، مثل اللوحة الجميلة المتداخلة الألوان التى رسمها إدوار الخراط في "ترابها زعفران".
 
لا أصدق حتى الآن : هل هى الإسكندرية صاحبة الجزء الأكبر من تاريخ مصر، المدينة التى ذاقت الآلام فى ظل الاستعمار، واندلعت فيها نيران المقاومة تتحدى استعماراً يخطف حرية أبناء البلد ويتعالى عليهم، يعرف أهلها جيداً كيف يميزون بين من جاء ليستعمرهم ويسرق وطنهم منهم وبين من جاء يعيش بينهم كواحد منهم، لذلك لم تنقطع ثوراتهم ضد الاستعمار، ولم ينته تسامحهم مع الغرباء.
لا أصدق حتى الآن: هل هذه الإسكندرية أول مدينة مصرية وعربية تتعرف الى اختراع السينما؟
 
هل هى المدينة التى حضر لها من فرنسا الأخوان لوميير اللذان اخترعا السينما وقدما فيها أفلامهما الأولى، البلد التي شهدت أول عرض سينمائي وأول سينما، وصوِّر فيها أوائل الأفلام فى العالم كله، البلد التى خرج منها المخرج محمد كريم وتوجو مزراحى ومحمد بيومى وفاطمة رشدى وشادى عبد السلام ويوسف شاهين وغيرهم وغيرهم؟ لقد تغيرت ملامح المدينة وأيضا روحها.
 
هل هى المدينة التى شهدت أول فيلماً تسجيلياً عنوانه "مافيش داريل"، أخرجه الفرنسي نيكولاس بارى، تناول فكرة أن الإسكندرية التي كتبها الروائي والشاعر البريطاني لورانس جورج داريل (1990:1912) فى رباعيته الشهيرة "جوستين – بلثازار- ماونتوليف – كليا" لم تعد موجودة، إنها الآن مثلها مثل المدن الأسطورية، سمرقند وطنجة، مدن لم تعد موجودة إلا فى الذاكرة، أو الكتب، أما في الواقع فهناك مدينة أخرى، ليست الإسكندرية التي بناها الإسكندر الأكبر وشهدت ميلاد كليوباترا أو إقليدس أو سيد درويش وعبدالله النديم وجمال عبد الناصر، ولم يعش فيها أفلاطون أو كفافيس و.. غيرهما، فهذه صورة لمدينة قديمة مسجونة فى إطار الذكريات الأقدم.
 
هل الإسكندرية لم تعد بصوت سيد درويش أو المطربين والشعراء الذين غنوا لها وعنها أو كما وصفها قلم إدوار الخراط أو إبراهيم عبد المجيد أو حتى عين يوسف شاهين؟
 
حينما نتذكر ما يحدث فى الإسكندرية وسط الأمواج الهادرة، فنعرف أن ثمة ما يعكر صفو البحر، أو كما يقول عمنا الشيخ إمام عيسى من كلمات نجيب سرور: "البحر غضبان ما بيضحكش... أصل الحكاية ما تضحكش... البحر جرحه ما بيدبلش"، فنستدير ناحية المدينة وننظر إليها نظرة عميقة تخترق وتضم كل شبر فيها، ثم نبتسم في حزن ولسان حالنا قول: "نعم هي الإسكندرية، الصورة صورتها تماما كما أحببتها دائماً، أسطورة وخيال لوطن لم نصنعه نحن، لكنه هو الذي صنعنا، هو أبونا وأمنا، لم نشتره ولم نتبناه ولم يقنعنا أحد بحبه، لكننا وجدنا أنفسنا هكذا نبضاً في دمه ولحمه، لكن ثمة ما يشوش انتباهي عندما أنظر إليها الآن، فالصورة تغيرت.. فيها شيء لا أفهمه... لا أعرفه... لا أعرف ماهو؟".
 
لست متشائماً، لكن الماضى فعلا كان أجمل وأنقى، وفي اعتقادي أن هذه كانت طبيعة الإسكندرية منذ أن أنشأها الإسكندر الأكبر، بالتأكيد هي ليست رملاً وبحراً، لكنها أيضاً بشر جاؤوا إليها من كل مكان عاشوا فيها واعتبروها وطنهم، وكان ذلك أجمل ما فيها،  فالتغير أصاب المدينة الجميلة فى مقتل، فهى لم تعد الحاضنة للفن والتعدد الثقافي الذي تميزت به، فالصورة القديمة صارت صورة وهمية، بينما فى الواقع هناك إسكندرية أخرى تماماً لم نعرفها أبداً ، كصورة جميلة ضاعت ملامحها بفعل الزمن أو حتى عوامل التعرية، صورة ضربها إعصار التغيير فلم يعيدها إلى الوراء، حيث كانت تبدو الصورة أجمل، وإنما زحزحها من مكانها ونقلها بعنف وبلا هوادة لمكان آخر ليس مكانها ولم يخطط لها، فأفقدها هويتها الأصلية وملامحها القديمة وروحها التى خلقت عليها، حتى صارت الآن مجرد فكرة أو ذكرى ردمت برياح النسيان.
 
الخلاصة تقول: هناك ثمة فجوة كبيرة بين الماضي والحاضر، فجوة يبدو أنها اتسعت أكثر من اللازم لتدفن الماضي الجميل ولتطفو على السطح صورة "ملخبطة"، لحاضر غريب ليس ملكنا ولا من اختراعنا ولا نريده لأنه شوه جمال المدينة، جمالها الداخلى قبل الخارجى، ثمة شيء مهم فقدته روح الإسكندرية.. ما زلنا لا نعرف السبب.
 









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة