طارق الحريرى يكتب: يوميات المترو (3).. بطولة عجوز تجاهلتها البنات

الجمعة، 13 ديسمبر 2019 02:00 م
طارق الحريرى يكتب: يوميات المترو (3).. بطولة عجوز تجاهلتها البنات مترو الأنفاق

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

نبتة من ملح الأرض

كاشفة سر المسنات فى مترو الأنفاق

ركوب مترو أنفاق الخط الثانى فى وقت الذروة مغامرة قاسية لمن لا يضطرون لهذا بطبيعة عملهم.. كبار السن يعانون فى الخنقة داخل العربات المتروسة بشر.. بعضهم ينهج كمن يودع الحياة.. أما الأطفال الرضع والصغار فهم لا يكفون عن البكاء والصراخ.. العربات تكاد تكون منعدمة الهواء.. السخونة فيها أجارك الله أيها الراكب السعيد.

كانت محطة البحوث رديئة التكييف تعيسة الحظ فى العناية بها مزدحمة للغاية، والركاب الجدد الذين يهبطون إلى الرصيف يزداد بهم الزحام وتتضاعف الأعداد، فعندما يأتى مترو فى الاتجاه إلى شبرا تفتح الأبواب لكن لا مكان للصعود، فالباب الذى فتح يبدو وكأن خلفه باب آخر من كتلة البشر المتلاحم.. وعلى الجميع الانتظار.

كانت سيدة مسنة هرمة رقيقة الحال تراقب الموقف، لكنها لا تنهض من على كرسى الرصيف، إذ يبدو أنها على دراية بوقت الذروة.. أخيرا أتى مترو انفض عنه بعض الزحام لم يعد كعلبة السردين، فأسرعت الخطى لربما يكون هذا القطار استثناء وتضيع فرصة الركوب، وبالدفع الذاتى من كتلة المهاجمين على القطار وجدت نفسى قد حققت الإنجاز وصرت بالداخل، بعد أن تعلقت بى السيدة المسنة، واجتذبها بكل ما أملك من قوة حتى تعبر عتبة الباب، وهى تعتذر قائلة معلشى يابنى خشونة الركبة معجزنى.

تعطل المترو قليلا نظرا لأن الركاب الذين يحاولون انتهاز الفرصة بالركوب أعاقوا إغلاق الأبواب.. والقطار لا يتحرك إلا إذا أقفلت الأبواب بإحكام.. لمحت ثغرة فى الممر بين المقاعد فلم أتردد فى محاولة الوصول إليها، ولاحظت أن المرأة العجوز استطاعت أن تملص رغم بدانتها بعناد من بين كتلة البشر، وتصل إلى الثغرة الصغيرة بين الكتل المتلاصقة، التى كانت ما تزال تتسع بالكاد لتواجدى بها.

ما أن توقفت العجوز بين المقاعد حتى هب أكثر من واحد من الرجال الجالسين مفسحا لها لتجلس.. ووجدتنى أخيرا واقفا أمامها وأنا أشعر بالشفقة نحوها على البهدلة التى تتعرض لها فى هذا العمر.. دفعنى الفضول لأتجاذب أطراف الحديث معها:

- إنتى بتركبى المترو كتير يا حاجة.

- كل يوم يابنى.. مرة الصبح وأنا رايحة الشغل.. ومرة آخر النهار وأنا مروحة.

- انتى فى السن ده مفروض تكونى مريحة ومتستتة.

- تيجى منين الراحة.. أمر الله.

- عليكى من ده بإيه ما عندكيش ولاد يشيلوا الحمل عنك.

- إبنى الوحيد كان أوجرى مات صغير فى حادثه وساب كوم لحم.

- كام عيل ياست.

- خمسة يابنى.

- طب أمهم فين.

- ما هى الغلبانة بتجرى من ناحية وأنا باجرى من ناحية.. عشان نلاحق عالعيال.. أصل المرحوم وصانى وهو بيموت علمى العيال يامه.

- ربنا يقويكى يا حاجة.. بس ماتجيشى على نفسك أوى.

- أعمل ايه.. اليوم اللى بغيبه يابنى بيتخصم عليا.. الحمدلله.

- ومافيش حد كبير من أحفادك يشتغل وانتى ترتاحى شوية.

- بنتين فى الجامعة والصبيان فى المدارس.. وكلهم بيشتغلوا فى الصيف عشانى يجيبوا مصاريف تعليمهم.. وأنا وأمهم بنجرى على الأكل والشرب وبقيت المصاريف.

- انتى ست عظيمة يا حاجة إنك صنت وصية إبنك.. من غير ماتفهمينى غلط ممكن أسألك سؤال محرج شوية.

- عايز تقول إيه؟

- إنتى ليه ما بتركبيش عربية الستات؟ بدل الزنقة وسط الرجالة.. (متداركا) وطبعا إنتى محترمة وزى أمهم.

- غصب عنى.

- وإيه اللى يغصبك يا أمى.

- بص يابنى هنا فى عربية الرجالة ألف واحد يقوموا ويقعدونى.. فى عربية الستات البنات بيتجهلونى.

- ياساتر.. دى بنات جاحدة.

- الرجالة حنينة.. لما يشوفوا واحدة أد أمهم حتى ولو غلبانة زيى يقومولها على طول.

- وانتى ليه ماتقوليش لهم حد يقعدنى يابنات؟

- الستات الهوانم بيعملوا ده.. بس انا بتكسف.. أصل مرة كنت راجعة من الشغل خلصانة.. قلت والنبى حد يقعدنى يا جماعة.. ماعبرونيش.. الفقير حظه قليل.

- الرحمة مافيهاش فقير وغنى.

- تقول إيه.. جيل الزمن ده أنانى.

- هو انتم مش شيلتونا فى بطنكم تسع أشهر.. يا أمى تقعدى على راسنا من فوق معززة مكرمة.

- الله يكرم أصلك ياحبيبى.. بس زى ماشيلنا الصبيان شلنا البنات برضه.. بس تقول إيه هو الزمن ده كده.. البنات بقى فيها قساوة.

ترددت يومها طويلا منذ قرابة عشرين عاما فى منحها مبلغا من المال، فأمثالها رجال ونساء لهم عزة نفس كبيرة، وصعب جدا جرح كبرياء المكافحين الغلابة، لاسيما أننى كنت بالنسبة لها فى ذاك اليوم عابر سبيل، وأظننى بعدها فهمت سر حرص السيدات المسنات دائما على ركوب عربات الرجال، حتى ولو كانت مزدحمة، وهذا حقهن على الرجال أمام عقوق النساء الأصغر.

 الملفت فى انصراف المسنات عن عربتى السيدات هو ما طرأ أخيرا من وضع جديد، تمثل فى إقدام متوسطات العمر والشابات على ولوج عربات الرجال، أو بالأدق العربات المشتركة فليس هناك عربات تقتصر على ركوب الرجال فقط، ومتوسطات العمر والشابات يفعلن هذا بقصد استغلال سيف حياء الذكور الذين لايقبلون زنقة النساء فى كومة لحم من الرجال، وهذا السلوك دون مواربة انتهازية من أجل الحصول على مقعد فى مترو الأنفاق.

 

 

 










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة