أكرم القصاص - علا الشافعي

محمد حبوشه

ثعابين الفضاء تنفث سمومها فى سماء الوطن

الجمعة، 21 ديسمبر 2018 08:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

فى مقدمة كتابه "المتلاعبون بالعقول" يقول مؤلفه "هربرت.أ. شيلر": يقوم مديرو أجهزة الإعلام فى أمريكا بوضع أسس عملية تداول "الصور والمعلومات"، ويشرفون على معالجتها وتنقيحها وإحكام السيطرة عليها، تلك الصور والمعلومات التى تحدد معتقداتنا ومواقفنا، بل إنها تحدد سلوكنا فى النهاية.

 

وعندما يعمد مديرو أجهزة الإعلام إلى طرح أفكار وتوجهات لا تتطابق مع حقائق الوجود الاجتماعى فإنهم يتحولون إلى سائسى عقول، ذلك أن الأفكار التى تنحو عن عمد إلى استحداث معنى زائف، وإلى إنتاج وعى لا يستطيع أن يستوعب بإرادته الشروط الفعلية للحياة القائمة، أو أن يرفضها، سواء على المستوى الشخصى أو الاجتماعى، ليست فى الواقع سوى أفكار مموهة أو مضللة.

 

ويضيف "شيلر" إن تضليل عقول البشر هو على حد قول "باولو فرير" بمثابة "أداة للقهر"، فهو يمثل إحدى الأدوات التى تسعى النخبة من خلالها إلى تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة، وذلك باستخدام الأساطير التى تفسر وتبرر الشروط السائدة للوجود.

 

الكلام السابق يشير بما لا يدع مجالا للشك إلى أن للإعلام تأثيرا واضحا فى تسيير مجريات الأمور فى الحياة العامة فى مصر حاليا، فبعد أن تطورت التكنولوجيا أصبحت وسائل الإعلام متوفرة فى كلّ وقت وحين ولا يمكن لأى شخص أن يبتعد عن تأثيرها سواءً كانت تلفازاً أم مذياعاً أم صحيفة.

 

وعليه ينبغى أن نفكر مليا فى كل تلك الحملات التى تأتى تارة بالتشكيك فى إنجازات الرئيس التى تحققت فى أربع سنوات بإعجاز غير منقطع النظير، وتارة أخرى ببث الشائعات من جانب قنوات إخوان الشر التى تستهدف الاقتصاد المصرى للنيل من النظام السياسى القائم بأية صورة من الصور.

 

ومما لا شك فيه أن ثورة الاتصالات هى التى ساهمت فى تغيير أساليب الحرب العادية، فمن خلال الإعلام تستطيع أن تقود حربًا نفسية ضروس، ومن خلاله أيضًا تستطيع أن تحدث اضطرابات فى بلد مستقر، أو أن تسقط نظام قائم بعرض سلبياته ومثالبه أمام عامة الشعب، فتعمل على شحنهم وشحذ عزائمهم على إسقاطه.

 

والحرب الإعلامية ليست حديثة العهد بنا، فقد سبق أن استخدمتها الولايات المتحدة فى سبعينيات القرن الماضى للدعاية والترويج للمعسكر الرأسمالى فى حربها ضد الشيوعيين فى "سايجون" بفيتنام، فقد كانت نتيجة تصوير الحرب فى فيتنام، أن رفض الرأى العام الأمريكى هذه الحرب.

 

وقاد الإعلام مظاهرات حاشدة تعبيرًا عن هذا الرفض، وقد صورت المظاهرات أيضًا وسائل الإعلام المختلفة لتأكيد هذا الرفض، وقد شرح أحد القادة الأمريكيين أن سبب خسارتهم فى فيتنام هو خسارتهم للحرب الإعلامية، ومن بعدها أدرك الأمريكيون أنه كى يمكنهم كسب أى حرب عليهم أن يخوضوا حربًا إعلامية أولاً.

 

لكننا الآن نعيش عصر الإعلام البديل متمثلًا فى شبكة الإنترنت، والذى جاء كحركة ارتجاعية أو كرد فعل عنيف للواقع الاجتماعى الذى فرضته تكنولوجيا الاتصال بتوفير وسائل نشر بديلة تتمتع بدرجة عالية من الحرية وسهولة الاستخدام وانخفاض الكلفة.

 

ويبدو لى الهدف من كل ذلك هو التخلص من سيطرة النخب الإعلامية على وسائل الإعلام التقليدية فى المجتمع، وغياب المصداقية فى وسائل الإعلام التقليدية، ومن ثم فإن هذه المتغيرات هى التى جعلت من شبكة الإنترنت شريكًا حقيقيًا فى تصعيد الممارسة السياسية.

لقد فتحت الشبكة العنكبوتية نوافذ متسعة للجماعات السياسية التى لا تجد لنفسها منفذًا للتعبير عن أيديولوجيتها عبر قنوات التعبير السياسى التقليدية، ولعل النمو المضطرد لتلك الشبكة قد ساهم إلى حد كبير فى حالة الفوضى الإعلامية الحالية والمساهمة فى توسيع رقعة الشائعات والمعلومات المغلوطة.

 

ومن هنا أصبح لا ضابط ولا رباط لما تبثه تلك الشبكة عبر مواقع التواصل الاجتماعى من تقارير مزيفة وافتعال وقائع وأخبار غير موجودة على الأرض فى إطار زعزعة الثقة لدى المواطن فى قيادته ممثلة فى رأس الدولة مثل تحريك الأسعار بين الحين والآخر واللعب بمشاعر الجماهير فى سبيل معاداة رأس الدولة.

 

وتحت شعارها "الرأى والرأى الآخر" استطاعت شبكة الإنترنت أن تخرق حاجز الصمت العربى حول العديد من القضايا الساخنة فى المنطقة وأحدثت برامجها المتنوعة على "اليوتيوب" وغيره من مواقع ضجّةً قويةً فى بعض البلدان العربية، حتى باتت معه الخيار الأول للمشاهد العربى والعدو الّلدود لأنظمتها الحاكمة.

 

ومن شأن هذا كله صناعة البلبلة والتشكيك فى شئون ومواضيع داخلية، وذلك بتأليب الرأى العام على السياسات المتّبعة فى داخل حدود الدولة من ناحية، ومن ناحية أخرى داخل نطاق المنطقة برمتها، ما كان له أكبر الآثار السلبية على مصر خلال الأربع سنوات الأخيرة، وزادت حدته مع بداية الولاية الثانية للرئيس السيسى.

 

فقد ظلت مواقع التواصل الاجتماعى وبعض وسائل الإعلام الإخوانية بمساندة واضحة من جانب وسائل إعلامية عالمية مثل : "الجاردين - رويتر - أسوشتيد برس - نيويورك تايمز" تعمل على تصدير الإحباطات المتتالية للمواطن المصرى الذى عاش بالضرورة بين مطرقة الإرهاب وسندان الأزمة الاقتصادية الحادة خلال السنوات القليلة الماضية.

 

إذن يبدو الهدف الأساسى للحرب الإعلامية الجديدة فى شراستها غير المعهودة هو تأجيج بذور الفتنة وتعمل على نشوء حالة من الإستقطاب الحاد بين أبناء الوطن الواحد، ولايسأل عنها الإعلام الأجنبى وحده، فنحن جزء من المنظومة الإعلامية العالمية.

 

والسبب فى كل ذلك ببساطة: لأن إعلامنا العربى الذى يعمل بطريقة غير مهنية مسئول هو الآخر عن احتدام ذلك الصراع، وذلك لتحقيق مكاسب مادية فردية أو لصالح مجموعة بعينها للأسف، وأن يتم تداوله على شبكة التواصل الاجتماعى من معلومات مغلوطة تمثل نوعًا من التشوية ماهو إلا نتيجة الإهمال فى الرقابة على المواقع المعادية التى يسأل عنها الجهات الأمنية.

 

وإذا كان الإعلام المرئى أو الافتراضى قد ساهم بشكل إيجابى فى إضطلاعنا بالسلبيات والفساد الذى كنا نعيش فيه عقودًا طويلة، إلا أنه أظهر مدى إخفاقنا فى التوافق والتعايش السلمى مع اختلاف توجهاتنا فمتى نستيقظ يا سادة من غيبة الوعى تلك التى تهدد مصائرنا فى المنطقة؟

 

لقدأوقفت تلك القنوات الفضائية ومواقع الإنترنت بلغتها الجديدة فى الخطاب السياسى والاجتماعى الوصاية الرسمية على ما يشاهده العرب، فقد كنا إلى وقت قريب ملزمين بمتابعة ومشاهدة التلفزيون الرسمى فى بلداننا من المحيط إلى الخليج بشكل قصرى، بل وحصرى أيضا.

 

نعم : كان التليفزيون الرسمى هو الذى كان يختار لنا الأخبار والمعلومات والثقافة والأفلام والأغانى والمسلسلات، مستغلا حالة الاستسلام اللذيذ لدى الناس لسحر الصورة، ليصوغهم فى مسار واحد من التفكير والرؤية ، أو ليمنع عنهم ما لا يريده من الدنيا المحيطة بهم، تحت شعار الحماية من أخطار مايسمى بالغزو الثقافى القادم من الغرب.

 

ولست مبالغا إذا قلت بأننا كمواطنين عرب فى الماضى مثل قنافذ محاصرة فى حديقة حيوانات صغيرة لا نملك من أمرنا شيئا، وعلى الرغم من تجاوز ذلك مع مرور الزمن وفى ظل التحولات المذهلة فى عالم الاتصالات والفضاء المفتوح على مصراعيه تحولنا إلى حديقة شاسعة مفتوحة، تبدو فى سعتها أكبر كثيرا من الغابة.

 

نعم فنحن لا نستطيع الإحاطة بها الآن، لكننا بقينا فى المسار المصمم لنا، ولا تبدو شراستنا ومعارضتنا (عبر الأثير المفتوح، أو على الهواء مباشرة) سوى لعبة مسلية لأصحاب الحديقة وزوارها، أو بتعبير مهذب أصبحنا ديكورا مدهشا يجلب التذاكر والمتعة والترفيه، بحيث يرضى ضمائرنا على نحو مزيف صنعناه لأنفسنا والمدهش حقا أننا صدقناه.

 

ولعل ما يجرى من تردّد فى بعض البرامج الحوارية التى انتشرت فى الفضائيات العربية على حد قول  الكاتب والباحث المقيم فى ألمانيا نبيل شبيب: إن "السلطات الرسمية" انتقلت فى سياستها الإعلامية من أسلوب "حظر الكلمة "إلى أسلوب" تكلّم ما تشاء.. فلا فائدة" بمعنى: "مُت بغيظك" كما قال أحدهم ، أو بمعنى: إرفع صوتك كما تشاء، ولن يهتم صانعو القرار بك ، ولن يقع التغيير المطلوب مهما بيّنت ضرورته.

 

هذه المقولة تؤكد أننا - العرب - مازلنا نعيش عصر المراهقة الفضائية بكل تجليلتها وآثارها المهلكة ، بل تحولنا إلى نوع جديد من قنافذ أدمنت على تلك الوجبات (من نوع التوك شو والبرامج الحوارية الساخنة) التى سرعان ما يزول أثرها بمجرد لمسة على زر، والتحول نحو فضاء الأغانى الرحب بكليباته الساخنة فى مراتع الرغبات الملتهبة والخيال المحرك للغريزة وسط أجواء المتعة واللذة التى أدمنها غالبية شبابنا على إيقاع صاخب من التغريب الموسيقى الذى أصاب الذائقة بكثير من مواطن العطب.

 

وهذا جانب آخر أضاع الهوية فى مواسم التجريف لكل ما هو جميل فى حياتنا، وهو ما واكب فى الوقت ذاته حالة من الانكسار والتراجع العربى فى كل مناحى الحياة العامة على جناح الضغوط الاقتصادية، وتكبيل المواطن بقررات أعجزته عن تحمل أعباء حياته التى أصبح يعيشها يوما بيوم.

 

ولم يتوقف الأمر على منغصات الإعلام فيما يتعلق بعيش المواطن فقط، بل امتد الأمر إلى تغيير ذوقه وإفقاده هويته الإبداعية، والعهدة هنا على الدكتورة سامية أحمد على الأستاذ بكلية الاعلام جامعة القاهرة، والتى قدمت لنا منذ أكثر ممنذ ما يقرب من 8 سنوات دراسة مهمة تحت عنوان " ثقافة الفيديو كليب ثقافة الثعابين السامة"، تؤكد فيها أن واقع الأغنية الحالية يسهم فى التخريب الاجتماعى.

 

ولعل ذلك يأتى بشكل يبدو متعمدا، حيث أن واضعى الكلمات يستسهلون الكلمة بعيدا عن قواعد اللغة وآدابها وبعيدا عن الابداع رغم أن جميع الباحثين يجمعون على أن نص الأغنية يأتى أولا ثم التلحين فالأداء بعد ذلك.

 

وما يدعم وجهة النظر الأكاديمية تلك أن معظم منتجى أغنية اليوم هربوا من قوالب الغناء العربى التى قام عليها أصلا فن الغناء ووجدوا فى الطقطوقة، أو الأغنية الخفيفة التى تخلو من معنى وقيمة، والآلات الموسيقية الالكترونية الغريبة على تراثنا، وفى الاستوديوهات الحديثة متنفسا لهم.

 

إن الأمر بدا وكأنه تصنيع للمواقف والاتجاهات التى تؤثر على الهوية الوطنية، وللأسف الشديد وصل ببعض هذه الأدوات الإعلامية أن تمارس قدرا من غسيل المخ الجماعى وتزييف الوعى، بحيث تلاعب الإعلام بالعقول على حد قول "هربرت شيلر" فى كتابه "المتلاعبون بالعقول".

 

وكان ذلك أخطر ما يمارس من أدوات إعلامية يجب أن تضطلع بأدوار أكثر رصانة وحكمة وثباتا فى المصداقية، وظن هذا الشعب خيرا بتلك الأجهزة بما تقوم ببثه من برامج وبث مباشر حاصرت الجمهور العام من كل طريق وحصرته فى خيارات مصنوعة ومصطنعة.

 

ويبدو لى فى النهاية إن مشكلة الإعلام المصرى الأساسية تكمن فى تجزئة قدراته المحدودة وتجزئة جمهوره المتناقص أيضا، وذلك بسبب الزيادة غير المبررة فى عدد قنوات التلفزيون وعدد محطات الإذاعة، فما زلنا فى مصر بحاجة إلى الاهتمام بما يسمى الجمهور القومى لوسائل الإعلام لتحقيق الإجماع المطلوب تجاه عشرات القضايا الجوهرية، فقد تراجعت قدرات وسائل الإعلام العامة عن أن تحتوى المصريين، كما لو كانوا فى قارب كبير يصعدون معا ويهبطون معا فأصبحوا وكأنهم على متن زوارق كثيرة وصغيرة ينتشرون بشكل فوضوى على صفحة الحياة العامة لبلادهم .. وهذا أغلب الظن!.










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة