نشوى رجائى السماك يكتب: "اغتراب مع سبق الإصرار"

السبت، 28 نوفمبر 2015 12:11 م
نشوى رجائى السماك يكتب: "اغتراب مع سبق الإصرار" زنزانة - أرشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ازدحمت جدران زنزانة "22" بأحلامهم وذكرياتهم قد خطتها أيديهم فى أوقات الفضفضة بين كل منهم وتلك الجدران التى تضمهم قسرا.

ولكن ضيفا واحدا من ضيوف هذه الزنزانة لم تعرف الجدران خطه يوما فهو لا يحب أن يخط مشاعره وأحلامه سوى على جدران قلبه الذى امتلأ بأحلام مؤجلة تنتظر اليوم الذى تتنفس فيه نسيم الحياة.

كان "يحيى” مختلفا عن كل رفاق السجن دون أن يتعمد ذلك ودون أيضا أن يسمح لهذا الاختلاف أن يبقيه بعيدا عن مشاركتهم حياتهم اليومية بل وربما قد تتعجب إذا علمت أن هذا المختلف عن الجميع هو الأقرب إلى الجميع ومستودع أسرارهم.

قضى "يحيى” طفولته فى إحدى دور رعاية الأيتام ثم انطلق بعد ذلك لمواجهة الحياة بمفرده بعد تخرجه من الدار، اجتهد فى عمله بأكثر من حرفة نجح فى أن يتعلمها حتى أتقنها، ثم التحق بالجامعة فكان يعمل ويدرس فى نفس الوقت حتى حقق ما كان يصبو إليه فى الحصول على شهادة جامعية.

كانت دائما مشكلته الرئيسية هى الوحدة، فلقد عاش بلا أسرة فضلا عن الوحدة التى كان يشعر بها داخليا حيث أنه لم يجد حوله من يستطيع أن يتفهم مكنون ذاته فيأنس إليه.

ولكنه خلق فى خياله هذا الشخص الذى يؤنس وحدته ويتفهمه ويحتويه، فلقد صنع "يحيى” لنفسه محبوبة خلق قلبها من شريان قلبه ومنحها جزءا من روحه لتعيش بداخله فتملأ عليه حياته وتطرد أشباح الوحدة بعيدا عن فؤاده.

لم يكن يخدع نفسه بوهم صنعه بيديه ولكنه دائما كان يؤمن أن هذه الحبيبة موجودة بالفعل على أرض الواقع وأن القدر قد رتب موعدا للقائهما ولكنه لا يعلم متى وأين، فالقدر لا يحب أن يخبرنا شيئا قبل أوانه.

خرج "يحيى” من السجن بعد أن قضى مدة العقوبة فى قضية القتل عن طريق الخطأ التى أدين بها. خرج وهو أكثر إصرارا على البحث عن محبوبته التى لا يعرف لها اسما ولا عنوانا، فلقد جعلته ليالى السجن القاسية أكثر اشتياقا واستعجالا للقاء هذه الحبيبة التى سيكتمل كيانه بين يديها.

كان ذكاؤه وخفة ظله يضفيان عليه وسامة لم تمنحها له ملامحه، فضلا عن عينين تمنحان الدفء لمن يفتقده، كل هذا جعل "يحيى” شخصا جذابا لكثير من الفتيات. فكانت فرصته أوسع فى البحث عنها.

فى كل فتاة كان يبحث عن تلك الروح التى يشتاقها ولكنه لم يفلح فى العثور على محبوبته وفى كل مرة كان يصيبه الإحباط ولكنه يزداد اشتياقا واحتياجا لها إلى أن التقى بـ"حياة"، تلك الفتاة العجيبة التى تجمع بين كثير من العقل وكثير من الجنون، كانت خليطا غريبا يجمع بين الرقة الشديدة والجرأة، تشعر وأنت تحادثها بحكمة وبلاغة تنطلقان من ثغرها تطربان عقلك ولكنها تفاجئك خلال حديثها البليغ بكلام طفولى لا تملك معه إلا أن تضحك من قلبك.

منذ الوهلة الأولى شعر بانجذاب شديد تجاه "حياة" وارتياح لم يعلم سببه وإن لم يكن هذا هو شعورها تجاهه فى بادئ الأمر ولكنها كانت تراه شخصا طيبا مريحا تسكن إليه. حرص "يحيى” على أن يكون دائما قريبا منها حتى اطمأن لمشاعرها تجاهه التى تطورت سريعا حتى أصبح هو كل شىء بالنسبة لها. صارحها بأنه يبحث عن محبوبته المجهولة منذ سنوات وأنه منجذب إليها انجذاب غير مسبوق بالنسبة له تجاه أى فتاة مرت بحياته وأنه يتعشم أن تكون هى من كان يبحث عنها طوال حياته.

كان "يحيى” يشعر معها أنه يحادث جزءا من نفسه لكنه دائما كان يخشى أن يكون مخطئا وأن موعد لقائه محبوبته المنشودة لم يأت بعد وأن "حياة" ربما لا تكون هى نفسها من ينتظر لقاءها. ربما لم يستطع أن يصدق أن القدر قد رأف بحرمانه فمنحه موعدا مع ضالته أقرب مما كان يتوقع.

منذ أن قابل "حياة" وهناك صراعا متواصلا قد اشتد بداخله بين رغبته الشديدة فى البقاء بالقرب منها وبين قلقه أنه ربما بوجوده مع "حياة" قد يحرم نفسه من مواصلة البحث.

"ولكننى أشعر بالقرب منها أننى جزء منها وأنها جزء منى.. أشعر بارتياح لم أعهده مع مخلوق من قبل.. هل من الممكن أن ينتظرنى مع غيرها أكثر من هذا؟".

"ولم لا أحاول أن أنطلق مرة أخرى لأواصل البحث فإن وجدت أنه كان ينتظرنى الأفضل فقد فزت وأن لم أجد فسأعود إليها وأعيش معها هانئا دون أن يطاردنى هاجس مواصلة البحث مرة أخرى”، "ولكننى أخشى أن أفلتها فلا أجدها مرة أخرى”

" ولكننى أثق أننى أسكن روحها وقلبها فهى لن تستطيع أن تعيش بدونى”

هكذا كان يدور الحوار بين "يحيى” ونفسه، إلى أن استقر أن يترك "حياة" ليواصل رحلته ولكنه بعد انقضاء سنوات من البحث والاغتراب فى حياة بلا "حياة" أيقن أنه قد خدع نفسه بسراب ظل يبحث عنه وترك من أجله من عاش يحلم بلقائها.

عاد "يحيى” وهو يحصى كل لحظة تمر عليه كأنها دهرا فى انتظار أن يلتقى "حياة" لتركع ذنوبه أمام قلبها الرحيم الحنون فتضمه إليها فتدب الحياة فى أوصاله مرة أخرى. قرر وعزم النية صادقا أنه لن يتخلى عنها مرة أخرى فلقد علم أن مذاق الحياة بلا "حياة" لا يطاق. كان يثق أنها ستقبل توبته بمجرد أن تلتقى عيناها بعينيه وأنها لن تستطيع أن تستمر فى تنفيذ قرارها بالابتعاد عنه التى اتخذته منذ سنوات حين فشلت فى محاولاتها فى أن تثنيه عن قرار الرحيل الذى اتخذه حيث أصرت على انقطاع الاتصال بينهما تماما بعد اصراره على الرحيل.

ذهب "يحيى” إلى مكان عملها فلم يجدها وفوجئ أنها قد تركت العمل وتركت مصر منذ شهور قليلة لتسافر مع زوجها الذى يعمل بالخارج.

"سافرت؟! زوجها؟!!"
جن جنونه، صار يبكى دموعا عن عمر قد انقضى فى بحثه عن شىء امتلكه بيديه فأفلته بكامل ارادته وعمر لا يدرى كيف سيمر وقد فقد نصف روحه للأبد.

ما أغبى الانسان الذى يملك سعادته بين يديه ثم يتركها لاهثا خلف سراب لا يغنى من الحق شيئا ! ما أتعس إنسانا قد اختار بحماقته لنفسه الاغتراب مع سبق الاصرار!









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة