فضيلة المفتى د. شوقى عبد الكريم علام يكتب: الخطاب الدينى وفقه مراتب الأعمال بين درء المفاسد وجلب المصالح.. غياب حس الأولويات عن أعمال المسلم قد يعود عليه وعلى الأمة بالضرر

السبت، 06 سبتمبر 2014 09:27 ص
فضيلة المفتى د. شوقى عبد الكريم علام يكتب: الخطاب الدينى وفقه مراتب الأعمال بين درء المفاسد وجلب المصالح.. غياب حس الأولويات عن أعمال المسلم قد يعود عليه وعلى الأمة بالضرر شوقى عبد الكريم

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
الخطاب الدينى هو بالأساس عمل دعوى، ولا يستقيم هذا العمل الدعوى إلا إذا اعتمد فى أولوياته على فقه مراتب الأعمال، ذلك الفقه الذى يجب أن يتعلمه المسلم ويهتم به، وهو الذى يعنى العلم بفاضل الأعمال ومفضولها، وأرجحها ومرجوحها، فإذا كانت الأعمال طاعة لله تعالى فعليه أن يعلم أيها أحب إلى الله سبحانه وتعالى وأكثرها مثوبة عنده جل وعلا، وإذا علم أن هذه الأعمال معصية لله تعالى عليه أن يعلم أيها أبغض إلى الله تعالى وأكثرها وزرًا.

أما إذا كانت الأعمال وسيلة أو هدفًا بعينه كالمقاصد العليا للشريعة مثلاً فعليه أن يعلم أيها أقدر على تحقيق تلك الأهداف، وأيها أولى بذلك، أما إذا كان المرء أمام بدائل متعددة من خير وشر، فعليه أن يعلم خير الخيرين وشر الشرين، أما إذا التبس أو جهل الإنسان أى الأعمال أولى وأفضل، فعليه أن لا ينفق الوقت والجهد والفهم والمال فى أجر أقل ويفوت ما هو أجل وأعظم.

ولو أن مراتب الأعمال اختلطت عليه فإنه قد يصل إلى عكس مقصود الشرع، فيأثم من حيث يريد أن يغنم، أو إلى عكس مقصوده فى الواقع فيفسد من حيث يريد أن يصلح.

وبما أن الخطاب الدعوى هو خطاب تنويرى ينتشل الناس من الظلمة الحالكة - التى ربما توردهم المهالك - فعليه أن يبين للأمة أهمية الأخذ بفقه مراتب الأعمال، وأن يبين لها ما يعضد رأيه من كتاب الله تعالى، فقد وردت آيات عدة فى كتاب الله تعالى مبينة أن الأعمال ليست كلها على درجة واحدة، بل تختلف فى درجتها فى الخير كما تختلف درجتها فى الشر.

فعندما أراد القرآن بيان أى الأعمال أفضل، الإسرار فى الصدقة أم الإعلان بها فقال تعالى: «إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ»، فقدمت الآية خير الخيرين، الإسرار على الإعلان، وأيضًا فى قوله تعالى: «أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ».

إن المفاضلة هنا بين طاعتين وقربتين، وقالت الآية إنهما لا يستويان عند الله تعالى، وكذلك الأمر بالنسبة للعبادة، فجاءت عبادة وقيام ليلة القدر التى هى طاعة أفضل من عبادة ألف شهر التى هى طاعة أيضًا فقال تعالى: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ».

والأمر لم يكن بعيدًا عن هذا فى السنة النبوية المشرفة - والتى هى أهم مصادر الخطاب الدعوى - فهى تزخر بالعديد من النماذج والأمثلة التى تفاضل فيها بين الأعمال والتكاليف الشرعية، والتى يجب على المسلم مراعاتها والالتزام بها فى كل عباداته وحركاته، ومن ذلك ما رواه أبوهريرة رضى الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ».

والصحابة رضوان الله تعالى عليهم لم ينفكوا يسألون النبى صلى الله عليه وسلم مرارًا: أى الإسلام أفضل؟ فيجيبهم وإنما المقصود أى أعمال المسلم أفضل أو أخير؟ ولذلك بوب أئمة الحديث أبوابًا فى كتبهم حول بيان تفاضل الإسلام، أو أى أموره أفضل؟ أو الإسلام أفضل؟ كما أنه فى المقابل بينت أحاديث عدة أن الذنوب أنواع ومراتب.

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ» ثلاثًا قالوا: بلى يا رسول الله! قال: «الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ»، وجلس وكان متكئًا فقال: «أَلَا وَقَولُ الزُّورِ»، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت.

والخطاب الدينى الذى هو خطاب دعوى بالأساس عليه أن يبين للأمة من خلال فقه مراتب الأعمال أن الأعمال والأفعال والأحكام الشرعية ليست على درجة واحدة أو ميزان واحد، وأنه على المسلم أن يضع كل أمر شرعى موضعه، ولا يخلط بين أنواع الأحكام أو يتعامل معها كيفما اتفق.

فالفقهاء جعلوا مأمورات الشرع بين واجب ومستحب، ومنهياته بين مكروه ومحرم، قال ابن تيمية: «اتفق الفقهاء والمتكلمون على أن أحكام الشرع تنقسم إلى: واجب، ومندوب، ومحرم، ومكروه، ومباح».
وعليه فلا يجوز للمسلم أن يُسوّى بين الواجب والمندوب لا فى الأقوال ولا فى الأفعال، كما أنه لا يجوز له أن يُسوّى بين الحرام والمكروه، ولا بين المباح وبين المندوب والمكروه، قال الإمام الشاطبى: «الواجبات لا تستقر واجبات إلا إذا لم يُسوِّ بينها وبين غيرها من الأحكام، فلا تُترك ولا يُسامح فى تركها البتة، كما أن المحرمات لا تستقر كذلك إلا إذا لم يسوِّ بينها وبين غيرها من الأحكام فلا تفعل، ولا يسامح فى فعلها».

وهذا الخطاب الدينى عليه أن يبين للمسلم أن المصالح الشرعية مراتب لا يكفى المسلم أن يعلم ما أمر به الشرع أو ما نهى عنه، بل عليه أن يعلم أيضًا درجة الأمر أو النهى، وأن ينزل كل ذلك مرتبته دون إفراط ولا تفريط.

وينبغى أن يعلم المسلم أن غياب حس الأولويات عن أعماله قد يعود عليه وعلى الأمة بالضرر، لأنه من الوارد قد يضيع عليه الأجر، لأنه جاهل بمراتب الأعمال فيهتم بالأمر بالعمل قليل الأجر على حساب كثير الأجر، وينفق الجهد الكبير للحصول على ثواب قليل، بل قد يصل به الأمر إلى ضياع أصل الأجر نفسه فى بعض الأحيان.

لأجل هذا صاغ الفقهاء هذه الأمور فى قواعد أصولية تشريعية لكى يسير الناس على هدى وضياء منير فى أمرهم فقالوا: «تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة»، «دفع أشد المفسدتين بأخفهما»، «والإتيان بأعظم المصلحتين وتفويت أدناهما» وغيرها، وعليه فلا يستقيم الخطاب الدينى إلا بفقه هذه الأصول، والقواعد والالتزام بها.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة