"الحمامات العامة"..مظهر حضارى تحول لحائط ذكريات وعبارات خادشة للحياء

الأربعاء، 26 نوفمبر 2014 03:03 م
"الحمامات العامة"..مظهر حضارى تحول لحائط ذكريات وعبارات خادشة للحياء الحمامات الشعبية - صورة أرشيفية
كتبت آلاء عثمان

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كل شىء يتغير مع مرور الزمن، التطور والتكنولوجيا الحديثة، تجعل كل شىء فى تقدم مستمر، ولكن هل ينطبق ذلك على مجتمعنا؟.. لا شك أن مجتمعنا فى تغير كل يوم، كل يوم تتكشف ثقافة جديدة، ولغة جديدة، هى ليست بالضرورة ثقافة أفضل مما كنا عليه فى عصور ماضية، ولكنها ثقافة تعبر عن ملامح العصر.

مثال بسيط جدًا يكشف ذلك، وهى الحمامات العامة.. سواء فى المدارس، أو المستشفيات، أو المؤسسات الحكومية، أو بعض الحمامات العامة القليلة جدًا الموجودة فى الشوارع، فإنك بمجرد دخولها، ترى على حوائطها عبارات غريبة أحياًنا، وصادمة أحيانًا أخرى، ومضحكة طوال الوقت، هى عبارات تكشف عن وعى مجتمع من عدمه، وعن ثقافة مجتمع مختلفة.

فإنك بمجرد إغلاق الباب خلفك، تقع عيناك على بعض العبارات أمثال "لذكرى حبنا الخالد" ولا تعرف أى ذكرى هذه التى كانت فى حمام مثل هذا.. وعبارة "محمد العاشق" وطبعًا هناك عبارات لا يجب أن نذكرها حفاظًا على حياء القارئ، ناهيك عن حمامات البنات ورسومات القلوب الحمراء والصفراء، والأسهم والأسماء.

وهى جميعها عبارات تلوث بصرى صريح، ومن كثرته، اعتدنا عليه، وصار شيئًا طبيعيًا فأصبحنا لا نتذوق المظاهر الجمالية، الجماليات التى كانت أساس العمارة المصرية والنظافة فى عصور مضت، إذ حرص المصريون فى العصور السابقة على النظافة الخاصة والتى ظهرت فى بناء الحمامات العامة، تلك التى أبهرت الرحالة الأجانب، وعلماء الحملة الفرنسية الذين زاروا مصر، واعتبروها مظهرًا حضاريًا أفضل مما كان موجودًا فى أوربا نفسها فى نفس الفترة، فقال الرحالة عبد اللطيف البغدادى، إنه لم يشاهد فى جميع البلاد التى زارها ما يضاهى حمامات القاهرة حسنًا وبهاءً.

وفى محاولة لتفسير ظاهرة الكتابة على حوائط الحمامات، تقول الدكتورة سامية خضر صالح، أستاذ علم الاجتماع بكلية التربية، جامعة عين شمس، إن هذه الظاهر لا يوجد تفسير لها، سوى أنها غريزة فطرية لدى البشر، وهى بمثابة متنفس لهم، للتعبير عما بداخلهم، وعن معتقداتهم، أو لمجرد تخليد ذكراهم حتى ولو فى الحمامات العامة.

وتتابع "سامية" قائلة، منذ أن يبدأ الطفل الصغير الإمساك بالقلم، وهو يبدأ فى "الشخبطة" والكتابة على حوائط منزله، وينمو معه هذا الشعور كلما كبر، وهى ظاهرة عالمية ودولية، وليست فى مصر فقط؛ ولكن لتجنب هذه الظاهرة فهناك عبء كبير يقع على طريقة التربية والتنشأة، والتوعية فى الحضانة، والمدارس، وبرامج الأطفال.

واللافت للانتباه أن الحمامات كانت واحدة من سمات عصر مضى منذ سنوات طويلة، تبهر روادها بروعة معمارها، وتجذبهم بذلك العبق الذى ينبعث من ثنايا جدرانها التى تحتفظ بالكثير من الحكايات، التى لا تستطيع البوح بها.

ويمكننا هنا أن نقرأ تاريخ القاهرة نفسها، وثقافة شعبها من نافذة نفتحها على تاريخ حماماتها، فمن كثرة وحسن وبهاء إلى تدهور وانكماش.

فقديمًا كانت الحمامات ذات ظرز معمارية خاصة، وجذابة، تتكون من عدة طوابق، ودهاليز، ومجهزة بالمياة الساخنة والباردة، وغرف التدليك، والبخار، والاسترخاء، وهى ما أطلق عليه حمامات شعبية، يقصدها الزوار بهدف الاسترخاء، أو العلاج الطبى، وأحيانًا كان يقام بها الاحتفالات الاجتماعية مثل الطهور، وتجهيز العروس، ولكن مع الوقت انكمشت وظيفتها، أو كادت أن تختفى، وحل محلها حمامات عادية، لمجرد قضاء الحاجة، وأصبحت النوادى الحديثة مجهزة بأجهزة حديثة تقضى نفس أغراض الحمامات الشعبية القديمة.

ويصعب تحديد الفترة الزمنية التى عرفت فيها مصر الحمامات العامة، وفى ذلك تقول الدكتورة زبيدة عطا الله، أستاذ تاريخ العصور الوسطى، بجامعة عين شمس، إن الحمامات العامة دخلت مصر مع دخول الرومانين، بعد هزيمة كليوباترا، وأنطونيو عام 30 قبل الميلاد.

وتضيف "زبيدة عطا الله"، أن الرومان كانوا يهتمون بالحمامات إلى درجة كبيرة، وكانت فى عهدهم بمثابة نادى فى عصرنا الحالى، وكانوا يمدونها بالمياه الباردة والساخنة، وكل ما يحتاجه رواد الحمامات.

وتتابع "زبيدة عطا الله"، أن عمرو بن العاص، عندما دخل مصر، حاول تقليد الحمامات الرومانية، وبنى حمامًا عامًا فى الفسطاط، لكنه كان أصغر بكثير من الحمامات الرومانية.

وبرغم ذلك إلا أن الشىء المؤكد أن العصر الذهبى للحمامات العامة فى مصر، بدأ فى زمن العثمانيين، حيث كان الأتراك يطلقون عليها اسم "الطبيب الأبكم"، ويرجع السبب فى إنشاء هذه الحمامات قديماً، إلى أن التجار كانوا يسافرون عن طريق البحر والصحراء مسافات طويلة ومتعبة، ولذلك كان الذهاب إلى هذه الحمامات من أجل الاسترخاء والتخلص من عناء ومشقة السفر.

وأحصى لنا مؤرخ الخطط المصرية، صارم الدين بن دقماق الذى عاش فى القرن التاسع الهجرى، الخامس عشر الميلادى، فى كتابه "الانتصار لواسطة عقد الأمصار"، خمس وأربعين حمامًا فى مدينة الفسطاط وحدها.

وقد ذكر المؤرخ تقى الدين أحمد بن على المقريزى، نقلا عن المسبِحى، نقلا عن مصادر تاريخية قديمة تقديرات متضاربة عن أعداد الحمامات العامة فى الفسطاط، كما نقل عن ابن عبد الظاهر قوله إن حمامات القاهرة كانت حتى سنة 685 هـ حوالى ثمانين حمامًا عامًا.

أما المقريزى نفسه فقد أحصى حوالى ست وأربعين حمامًا فى القاهرة، وأوضح أن بعض تلك الحمامات كانت مخصصة للرجال والبعض الآخر كانت مخصصة للنساء، وهذا فى الوقت الذى لا يوجد فى مصر كلها الآن نصف هذا الرقم من الحمامات العامة.

وتكشف أشعار عصر سلاطين المماليك، وحكايات ابن دانيال فى "بابات خيال الظل"، أن أدباء ذلك العصر المثير وشعراءه كثيرًا ما وصفوا الحبيبة فى الحمام بأشعار جمعت بين الغزل العفيف والغزل الصريح.

وكانت الحمامات العامة فى القاهرة آنذاك مؤسسات ذات وظيفة صحية، واجتماعية دارت حولها جوانب مهمة من حياة المصريين اليومية، وارتبطت بها بعض عاداتهم وتقاليدهم، كما تبلورت فى وظيفتها بعض معتقداتهم، وكانت السلطات تقوم أحيانا بترميم بعض الحمامات القديمة، باعتبارها من المنشآت العامة التى تقدم خدمة صحية مهمة لسكان المدينة، وهو ما يؤكد أن حظ الحمامات العامة بمدينة القاهرة موازيًا لحظ المدينة نفسها، ولحظ سكانها.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة