حازم حسين

الحل أن تهدأ فلسطين لا أن تحترق المنطقة.. فصائل غزة وامتحانات إجبارية لا تقبل الإخفاق

الخميس، 04 أبريل 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

فلسطين فى حالِ ضعفٍ، وآخر ما تحتاجه أو يفيدها أن يكون مُحيطُها ضعيفًا مثلها. فرغم كلّ ما يُمكن أن يُساق من أحاديث عن اختلاف الرؤى، وشِقاق الفصائل وتنازُعها فى التحالفات والولاءات، وانعكاسات ذلك على روابطها مع الدوائر القريبة؛ فإنَّ التجارب كلّها تُثبت أهمية الحاضنة العربية، وفاعلية دورها فى ترشيد سيناريوهات الفوضى والجنون. صحيح أن جرائم إسرائيل بحقّ غزَّة قد بلغت مبلغًا غير مسبوق من الوحشية؛ إلّا أنّ ما خطَّطت له بعد السابع من أكتوبر كان أكبر، على الأقل فيما يخص التهجير القسرى والسعى لاقتلاع القضية من جذورها، وفى تلك النقطة لعبت مصر والأردن وبقيّة حزام الاعتدال بالمنطقة، الدورَ الأكبر فى كَبح المُخطَّط المشبوه، ثمّ فى تسويق خطابٍ سياسى رشيد وفعّال، بما قاد إلى ضبط الصورة جزئيًّا، وعدَّل كثيرًا من مواقف الدول الوازنة، وأعاد «حلّ الدولتين» لواجهة الصورة بقدر عالٍ من المعقولية والإقناع.


كان «طوفان الأقصى» مُباغتًا للطرفين معًا: الاحتلال الذى أُخِذَ من مأمنه وانكسرت هيبتُه وصورة الردع التى يستثمر فيها، والمقاومة التى سعت لعمليةٍ نوعية محدودة، تُوصل بها رسالةً جادّة وتعود بعدَّة أسرى؛ للتفاوض عليهم تحت سقف الردّ المحدود والمُحتمَل. تضخَّمت الهجمةُ عما تقصّدت حماس، وتلقّفت حكومة نتنياهو الهديةَ واعتبرتها فرصةً للخروج من أزماتها الداخلية. وربما سعى الفريقان إلى إحماء النار لآخرها؛ فالفصائل استبدّ بها الطموح لتوسعة المُواجهة، إمَّا بتوريط الجوار القريب أو بتنشيط «وحدة الساحات» مع الحليف البعيد، والصهاينة تطلّعوا لإطلاق الرصاصة الأخيرة على ما تبقَّى من أوسلو، وإعلان القطيعة الكاملة بين الضفّة والقطاع؛ تمهيدًا لإزاحة كلٍّ منهما فى الجغرافيا أو بعيدًا من طاولة التفاوض. والمُفاجأة نفسها تردَّد صداها فى عواصم الإقليم؛ إذ لم تُستَشَر فى التصعيد ولم تجِد منفذًا مُبكّرًا إلى التهدئة، واحتاجت فاصلاً طويلاً من الاستكشاف والاتصالات والاعتراض والردود الساخنة، إلى أن أكملت رُؤيتَها للمشهد، وضبطت مُكوّنات وَصفتها المثالية للاشتباك معه، ولم يخلُ الأمرُ من ألاعيب الحُواة داخل فلسطين وخارجها، مُمثّلةً فى مُناكفات العدو والشقيق ودعاياتهم المُلوّنة.


نوايا تل أبيب المُعلَنة منذ اللحظة الأولى، ذهبت إلى الإبادة الكاملة بالحديد والبارود، وإلى الحصار وتطويق غزّة بسياجٍ من النار والجوع. قال وزير دفاعها يوآف جالانت إن القطاع سيُحرَم من الغذاء والماء والوقود، وإنّ سكّانه «حيوانات بشرية» ولن يحظوا بُمعاملةٍ آدمية، وسار بعده طابور طويل من المسؤولين والعسكريين وعامّة الشعب. وحصر نتنياهو وعصابته اليمينية أهدافَهم الحربية فى ثلاثة: إفناء حماس، واستعادة الأسرى، وتطهير الشريط الساحلى بالكامل، حتى لا يعود مصدرًا للتهديد والإزعاج. فى المقابل؛ انفكَّت قبضةُ القسّاميين على مجريات الأحداث، وما عاد بإمكانهم التوقُّف عن الاحتراق، أو المُواصلة من دون مخاطر وجودية مُرعبة فى الحاضر والمستقبل.. ومع غطرسة الدعم الغربى للجانى، والخيانة التى تلقَّاها الضحايا من محور المُمانعة وبنادقه الصوتية الصدئة؛ استفحلت العُقدة وصار الغالب عليها أن يتمادى النزاع الحارق دون أُفقٍ قريب. والمُتغيّر الوحيد لم يأتِ من واشنطن أو رأس الميليشيات المذهبيّة؛ بل من القاهرة وعمّان والذين اصطفُّوا من خلفهما، أنظمةً وحكوماتٍ وشوارعَ هادرة. وإذا كانت الصلابةُ التى أبداها الغلاف العربى اللصيق قد قوَّضت غايات الصهاينة، ولم تكن فى صالح برنامجهم الإلغائى بنكهةٍ نازية توراتية؛ فإنّ الغزِّيين استفادوا منها ولو بإيقاعٍ بطىء، ومن غير المنطقى أن يتّخذوا موقفًا عدائيًّا تجاهها أو يسعوا إلى تهشيمها؛ اللهم إلَّا أن تكون الرؤيةُ غيرَ فلسطينية، والقرار من خارج الأرض المُحتلّة.


لم يُقدِّم رُعاة «حماس والجهاد» لهما شيئًا منذ الطوفان سوى الخطب الرنانة. بيننا سارع العرب للعب أدوارٍ مُثمرة على الأرض، بدءًا من إلغاء قمّة مصرية أردنية مع بايدن بعد حادثة المستشفى المعمدانى، والعمل الدؤوب على محور الإغاثة، والحَسم المبدئى الصلب تجاه محاولات التهجير ودعاوى السيطرة الأمنية أو استجلاب قوات دولية. وكانت «قمّة القاهرة للسلام» مفتاح تمرير المُساعدات الإنسانية للقطاع، والأرضية التى انطلقت منها موجةُ الإدانات الدولية الواسعة، وطُرِحَت التسويةُ السياسية حلًّا نهائيًّا للأزمة الناشبة منذ عقود، وعلى مفاعيلها تأسَّست المفاوضات التى قادت للهُدنة الأولى أواخر نوفمبر الماضى، والباحثة اليوم بإصرار وتحرُّكات مكّوكية محمومة عن هدنةٍ ثانية. وبالمثل؛ كانت مواقف الأردن جذريّةً صارمة، ونشطت دبلوماسيًّا وإنسانيًّا لصالح القضية، وفاق تأثيرها ما حقَّقه محورُ الممانعة بكلّ أطيافه. وإن خلُصت النوايا وصَحّ الفهم؛ فالمأزومون فى غزّة أحوج الناس للبلدين ومَن على شاكلتهما، وآخر المُستفيدين من إرباكهما أو التصويب على جهودهما المخلصة.


كان غريبًا وصادمًا وغير مفهومٍ بالمرَّة، أن يخرج قادةٌ حماسيّون على الناس بحديثٍ يقع حصرًا فى موضع الفتنة وسوء النيّة، ولا يخدم فلسطين، بقدر ما يضرُّ جوارَها القريب. تحدَّث خالد مشعل داعيًا إلى «امتزاج الدم فى الشوارع العربية بالدم فى غزة»، سعيًا لتأجيج الشعوب المحترقة عاطفيًّا بأثر ما تُتابعه من عدوان؛ لينتقل الاحتراق إلى بيئاتها الداخلية، فتصير الفوضى عموميّةً والخسائر على رأس الكلّ. وكان بالظرف والسياق يُخاطِب الأُردنيّين مُباشرة، وجاء الردّ سريعًا بحالةٍ عارمة من الغضب الرسمى والشعبى، واعتبار الرسالة تحريضًا على الدولة، ومن قَبيل المُراهقة والإفلاس السياسى، وبغَرض التغطية على إخفاقاتٍ وأخطاء تخص الداعين لتفجير الأوضاع. وفى سياقٍ مُتزامن، تردَّدت دعاوى منسوبة لأرفع قيادات القسام، محمد الضيف، محورها مُطالبة الجماهير بانتفاضاتٍ شعبيّة فى مصر والأردن وسوريا والجزائر والمغرب، والفكرة نفسها تواترت فى ثنايا بيانات وأحاديث لقادةٍ غزّيين من كلِّ المستويات، وعبر تكثيف دعائى فى منصَّات التواصل الاجتماعى. وإن صَحّ كل ما أُورِد فى هذا السياق علنًا، وما حُكى عن مداولات الغُرف المظلمة وزيارات الأعتاب المقدسة؛ فربما نكون إزاء رغبةٍ لتوسعة الحرب، ومساعٍ لتوريط الآخرين بدلاً من التركيز على إنقاذ الذات.


وجَّه «مشعل» خطابه بالفيديو كرنفرانس، خلال فعالية نسائية فى المملكة الهاشمية آخر الأسبوع الماضى، داعيًا لنزول الشارع بشكل «مُستدام» حسب وصفه.. وبعد يومين فقط تفجّرت الأوضاع فى مُخيَّم البقعة، أكبر معاقل اللاجئين بنحو 100 ألف نسمة، عندما حاول بعضُ مُثيرى الشغب الاعتداءَ على المُمتلكات وعناصر الأمن.. الاستجابةُ السريعة لإشارة مسؤول حماس بالخارج، تَشى بالقصديّة المُسبَقة، وتبدو كما لو أنها كانت رسالةً مُشفّرة بساعة الصفر. واللعبُ فى تلك المساحة ممَّا يُهدِّد فلسطين والأردن معًا: الأُولى لأنها قد تخسر مُؤازرة شعبية صادقةً، ودعمًا نِظاميًّا حقيقيًّا من بلدٍ مخلص، والثانية لأنّ لها وضعا ديموغرافيًّا مُعقّدًا، فنحو نصف سُكّانها من أُصولٍ فلسطينية، ولديها مليونا لاجئ مُسجّلون فى عشرة مُخيّمات رسميّة وثلاثة غير رسمية، كما أنها تقع فى مُلتقى تهديداتٍ خارجية عدّة، ما يجعلُ التسخين من داخلها أقرب إلى خطوة الإسناد؛ لإحكام الطَّوق وتقويض قُدرات المملكة ومُؤسَّساتها الصلبة.


لا يختلفُ الحادثُ بحقِّ الأردن عمّا جرى من ابتزازٍ ومُزايدات ضد مصر. وشهدت الشهور الماضية تطاولاً، بالتصريح أو التلميح، من بعض الميليشيات المذهبية بالإقليم، ومن وجوهٍ حماسيّة فى غزّة وخارجها. وعندما ادَّعت إسرائيل كذبًا أمام محكمة العدل الدولية أنها غير مسؤولة عن تعطيل دخول المساعدات، ردَّد إعلام القسَّام السردية المُختلَقة وهم أكثر الناس عِلما بفسادها، وتلقَّف الإسلاميون الدعاية لاختصام القاهرة والتعريض بها، وربما لو تيسَّر لهم أن يُثيروا الشغب كما فعلوا فى عمَّان ما تأخّروا. والاستخلاصُ المزعجُ هنا؛ أنَّ فريقًا يلبس كوفيّة فلسطين ويتحدَّث باسمها، ولا يتوقَّف عن التجارة بمظلمتها العادلة ووجيعة نسوتها وأطفالها؛ لكنه عندما يُصوِّب سهامَه يختار لها أن تسكن قلب المُنحازين للقضية، والواقفين بصدقٍ وإخلاص إلى جانب الفلسطينيين.


بعيدًا من المقصود فى خطابات الشحن والتهييج، وهل غرضها المكتوم تعزيز المساندة أم إشعال الدول؛ فالواقع أن تاريخ حضور المقاومة وفصائلها خارج جغرافيا النزاع لم يكن إيجابيًّا إطلاقًا.. ثمّة تجربة شديدة السوء والسواد فى الأردن نفسه، حتى أن لونها انطبع على الشهر الذى جرت فيه «أيلول الأسود»، ووقع الصدام وقتها بعد انفلات السلاح، ومحاولة الانقلاب على الشرعية واختطاف المملكة. وتكرَّر المشهدُ فى لبنان بعد سنواتٍ قليلة، عندما استجلب التغوُّل على الدولة اجتياحًا إسرائيليًّا مُتوحّشًا. وكانت أنضج المحطّات بعدما عاد «عرفات» لجغرافيا القضية، وقاد الصراع من الداخل؛ وما يجب أن يبقى فى أذهان الفلسطينيين من كلِّ هذا، أنهم ما مَدّوا أياديهم لخارج بلدهم إلَّا احترقت وأحرقت، وما اقتنصوا منفعةً سياسيّةً وعسكرية وأخلاقية إلَّا عندما ركّزوا فيما بين البحر والنهر، ووجّهوا سلاحَهم نحو العدو حَصرًا، وتحت راية فلسطين من دون شريكٍ لها، أو حليفٍ يتقدَّم عليها فى الاهتمام والقيمة وولاء الأبناء.


أحاديثُ التهييج لم تجد قبولاً من الشعوب العربية، ولن تجده، ورفضتها مُنظمّة التحرير وقيادات من حركة فتح عَلنًا، واعتبروها فى غير صالح القضية بالتكتيك والاستراتيجية، وتضرب حاضنتها الوثيقة وظهيرها الذى يُعوَّل عليه. ولعلَّ أغلب أهل غزّة، غير المُلوَّنين بالأيديولوجيا وأهواء المُمانعة، يرفضونها أيضًا ولا يحبّون أن تُعمَّم محنةُ القطاع على محيطه، ولا أن تُستَثمر نكبتُه لفائدة جماعةٍ أو تيّار. ورغم اليقين من أنّ الدعوة تبخّرت فى الهواء، ولن تُنتِج أثرًا ملموسًا فى أيّة عاصمة عربية؛ فالواجب ألّا نعبُر الخطيئةَ الأخيرة كما عبرنا كلَّ تجاوُزٍ سابق، ويتعيَّن على الفصائل أن تتوقَّف مع نفسها لتقييم كلِّ ما فات، لا سيما المُغامرات الطائشة والعداوات المجّانية، وأن يتحلَّى المُتسلِّطون على قرارها بشجاعة الاعتراف بالخطأ، والإقرار بعُمق الأزمة من دون إنكارها أو تحميلها للآخرين. ولُبّ المشكلة اليوم أن فلسطين تُختزَل فى غزَّة، والمقاومة فى حماس، والحركة نفسها فى اسمين أو ثلاثة من القسّام، وكلّ هذا لا يتجاوز صفحةً واحدة من أجندة المحور الشيعى. والواقع أنّ نزاعًا مكتومًا بين حماسين: الفنادق والخنادق، وداخل كل فريق منهما، وما بينهما من خلافاتٍ مكتومة ينعكسُ على ما ينطق به بعض كوادرهم. والحلّ أن تهدأ الأرض المحتلة؛ لا أن تشتعل الأراضى المُحرَّرة. والهدوء أوّله المُصالحة وإنهاء الانقسام، والرجوع عن الاستتباع والعمل لصالح جهات أُخرى، ثم الضغط بالقوّة والسياسة لإنجاز التسوية، واستخلاص الدولة المأمولة من أنياب العدو الجارح، وشرط ذلك أن يظلّ الظهيرُ العربى صلبًا وراسخًا، وأن يتوقّف المُراهقون عن التصويب الطائش عليه، وعن مُعاداته بأغراضٍ فجّة ونيران صديقة.










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة