حازم حسين

تمثيلية سوداوية على حصيرة من الدم.. مَسرحة الصراع وتلفيق الدراما فى فضاء غزة

الثلاثاء، 16 يناير 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
نكهةٌ مسرحيّة باتت تُغلِّف حربَ غزَّة. كأنها دراما مُعدَّة سلفًا، ومُمثِّلون يلتزمون المكتوبَ فى أدوارهم، مع منسوبٍ عالٍ من الإيهام؛ تمرُّدًا على تغريب بريخت، وتطلُّعًا إلى التطهير بالصيغة الأرسطيَّة. الحقيقةُ الوحيدةُ أن دمًا كثيرًا ينزفُ، والأرضُ تئنُّ من بطنها المفتوح لقبورٍ فوق قبور، وما دون ذلك حالةٌ من الكذب المُنمَّق، واستعراضاتٌ مُصمَّمة بعناية، وخصومٌ دراميِّون يشربون الشاى معًا فى كواليس العرض. قد لا تكون قلوبُهم صافيةً طبعًا؛ إنّما العُكارة التى فيها لا تكفى لفَرز المواقف بوضوحٍ أكبر، ولا إنهاء الوفاقِ المشبوه وإن بدا فى ظاهرِه صراعًا ساخنًا، فالفُرجةُ تقضى دائمًا بأن يتكامل أداءُ الأبطال والأنذال، وأن يعملَ الطيِّبُ والشرير معًا فى خدمة الحكاية، ولخُدعةِ الجمهور.
 
أسَّس الألمانى بيرتولد بريخت دعائمَ مسرحه الملحمىِّ على ركيزةٍ مُفارقةٍ لتُراثه الإغريقى. جوهرُ الفكرة ألَّا يكون المُمثِّل عجينةً فى يدِ المُخرج أو مَسكَنًا مُريحًا للشخصية؛ إذ هو مُطالَبٌ باستبقاء مسافةٍ من الحدث، ولَعب دورٍ ناقدٍ للحكاية من داخلها، يُستكمَل بإسقاط الحائط الرابع فى مَسرح العُلبة الإيطالية؛ لينكشف المشاهدُ على تجربة التشخيص باعتبارها لُعبةً، ولا يتوهّمُ حقيقتَها، كما لا يظلُّ سلبيًّا فى تلقِّيها دون فحصٍ ومُساءلة. تليقُ الصيغة بالحداثة وما بعدها، وتُلائم الفوضى التى أحدثتها الحرب العالمية الثانية فى وعى العالم؛ بينما دراميّةُ «أرسطو» أقربُ لرجعيَّة السياسة وأُصوليّة الاعتقاد، ولِفكرة السُّلطة الغيبيّة التى تُحرِّك الأحداثَ دون أثرٍ أو فاعليَّةٍ بشرية. والإنسانيةُ التى قطعت أشواطًا نحو بريخت، تعود اليوم، فى غزَّة وما حولها، إلى أرسطو.
 
كانت عمليةُ «طوفان الأقصى» استعراضًا مسرحيًّا؛ وليس ذلك للقَدح فيها أو الحطِّ من قَدرها. الذين أطلقوها كانوا يعرفون أنهم يُقامرون بالمادىِّ طمعًا فى المعنوىّ، ولم يغفلوا عن الردِّ الجارح للعدوِّ بعدها؛ بل قصدوا استثارتَه لأجل هذا الردِّ بالتحديد. ثمّة اتّفاقٌ ضمنىّ وإن لم يُكتَب: سأنكأُ جراحَك على أن ترُدّ الصفعةَ كيفما يتراءى لك، وسيلتحقُ مُؤدِّون جُدد بالمسرحية تاليًا، ويتبادل الجميعُ الصفعات تحت السقف المرسوم. والجمهور مُستلَبٌ فى لُعبةٍ إيهاميّة، ولا يملكُ إلَّا الفُرجة والبكاء بينما تُدفَع الأحداث ويتعقَّد الصراع.. هذه قراءةٌ وصفية بلاغية، لا حاجةَ لإعادة البديهىِّ فيها عن شَرف القضية، وحقِّ المُقاومة المشروع فى تجريب وسائل التحرُّر كُلّها، ولا عن إجرام الدولة الصهيونية الثابت واقعًا وتاريخًا، حتى صار هو نفسه واحدًا من عُقَد الدراما ومُحرِّكاتها، لحدِّ أنه يصعبُ افتراض أنَّ أحدًا يشتبك معه دون وعىٍ كامل بهندسة المسرح ومآلات الخروج على النص.
 
تفكيكُ الحالة على قاعدةٍ مسرحيّة لا يبتذلُ المُنازعة أو يستهدف التقليل من قيمتها. بدأت المسرحياتُ طقسيَّةً مُقدَّسةً، وانتقلت لتكونَ ذاكرةَ الناس ومدرستَهم، ومنها تلبَّست الميثولوجيا جسدًا ماديًّا وخاضت معاركها مع البشر، فأثرت خيالهم وأنتجت حلولاً لأزمات واقعهم.. المشكلةُ الوحيدةُ أن يعود الناسُ إلى فنِّ التشخيص فى بدائيّته الأُولى، وأن يتّخذوه بديلاً عن أدوارٍ عملية يجب أن يلعبوها، أو لتغيير توازنات القُوَى فيما بينهم، لا بمعزلٍ عن المُتفرِّجين وحدَهم؛ إنّما بتضليلٍ لبعض المُمثِّلين أنفسهم، ولغَرض إخراج الحكاية من إطارها المعرفىّ الثابت، وتبديل عناصر قوَّتها، وبَيعها لمُلّاكٍ جُدد لم يُسدِّدوا كُلفةَ الملكيّة فى النطاق الحقيقى، وليس فى بروفات التسخين أو غُرف تغيير الملابس.
 
قبل أربع سنواتٍ وقع اغتيال قاسم سليمانى موقعَ الصدمة فى نفوس الجميع، واشتعلت المخاوفُ من أن يكون فاتحةً لحربٍ إقليمية حارقة. وعلى شَرط الثأر؛ قصف الحرس الثورىُّ قواعدَ أمريكية فى العراق، وعرفنا لاحقًا من تصريحات لترامب، بينما يتحضَّر لسباق العودة إلى البيت الأبيض، أن إيران أخطرتهم مُسبقًا بالردّ. اليوم يتكرَّرُ المشهدُ معكوسًا: الحوثيِّون يرفعون حرارةَ المياه فى البحر الأحمر وخليج عدن، وتستصدرُ واشنطن قرارَ إدانةٍ من مجلس الأمن، ثمَّ تُنفِّذ مع لندن ضربةً جوية واسعة لليمن، بثلاثٍ وسبعين غارةً على ستّة عشر موقعًا، ويتسرَّب أنها نسَّقت فيها مع طهران وصنعاء. يتعزَّزُ ذلك بالنظر لحَجم الهجمة، وأنها لم تُرتِّب خسائر مادّية مُوجعة، ولا أسقطت ضحايا بكثافة النار، كما تيسَّر للميليشيا أن تنقلَ كثيرًا من عتادها قبل إشعال المواقع المُستهدَفة.
 
السلوكُ المسرحىُّ السابق لا يغيب عن أجواء الساحات الشيعية كلِّها. توتَّرت الأمورُ قليلاً فى العراق لكنها عند الحدِّ المقبول، وجبهةُ الجنوب اللبنانى يُديرها «حزب الله» تحت السقف، وبالتزامٍ عالٍ بقواعد الاشتباك المُكرَّسة منذ حرب 2006، أمَّا سوريا فقد غضَّت الطرف عن استباحة إسرائيل لأجوائها، وقَصف مطاراتها، وتصفية قادةٍ ميدانيِّين من حماس والحزب والحرس الثورى على أراضيها. تأتى الردود محسوبةً بدقّةٍ فى بغداد والضاحية وسواحل اليمن، كأنَّ اتّفاقًا ضمنيًّا يحكمُ أداءَ كلّ الأطراف، على قاعدة التنفيس والمُحاورة الخشنة وحِفظ ماء الوجه؛ فيخسرون فى ناحيةٍ ويربحون فى أُخرى، مُنتظرين الصفقة النهائية التى تُطبَخ فى الظلام، بينما يتكبَّد آخرون الكُلفةَ الباهظة، وتُذبَح القضايا العادلة بسكِّين المواءمة والحسابات المشبوهة.
 
وقتما أطلقت «حماس» عملية السابع من أكتوبر، كان وضع غزّة والضفّة سيّئًا، وعدّة آلاف فى السجون، ومُمارسات الاحتلال مُتصاعدةً فى التوحُّش والوقاحة، وكانت القضيةُ فى بياتٍ طويل منذ توقَّفت المفاوضات بالعام 2014. قالت الحركةُ إنها فعلت ما فعلته ردًّا على العربدة الإسرائيلية واستحلال الدم، ورغبةً فى تحرير الأسرى؛ لكن ما حدث أنّ الصهاينة ازدادوا عنفًا، وأُضيف لكتاب الشهداء مُجلَّدٌ جديد يُقارب حصيلة عقود الصراع الثمانية، والمُعتقلات امتلأت بضعفِ ما كان فيها. الفصائل تُصوِّر ذلك نصرًا، والمُحتلّ يُواصل الإبادة برُزمة أهدافٍ غير واقعية، وجمهورُ الطرفين يتفرَّجون بعقلٍ بارد أو رُوحٍ مُلتهبة، ولا يتصدَّون للأسئلة التى يفرضها مناخُ التشدُّد والانسداد.
 
لم يعد مُمكنًا إنكار أن «الطوفان» ارتبط بحساباتٍ إقليمية. ربما لم يعرف به المحورُ الشيعى أو يُصدر أمرَ تنفيذه؛ لكنه لم يكن بعيدًا تمامًا عن أجوائه. ليس مجّانيًّا أن يأتى بعد اتّفاق بكين بين إيران والسعودية، ولا تطوُّر مُفاوضات تطبيع الأخيرة مع إسرائيل بوساطةٍ أمريكية، وقد قطعت شوطًا طويلاً على ما قال محمد بن سلمان فى حوار «فوكس نيوز» أواخر سبتمبر. واليوم تتواتر أحاديثُ قادة «حماس» لتُؤكِّد خطوطَها الحمراء: وَقف الحرب، لا احتلال ولا مناطق عازلة، لا مساس بسلاح الفصائل، ولا ترتيبات مُستجدَّة فى غزّة بمعزلٍ عن القرار الفلسطينى. هذا بالضبط ما كان عليه القطاع حتى 6 أكتوبر، والمُؤسف أن تتمثَّل أقصى طموحات الحركة فى العودة لنُقطة الصفر؛ ما يُثير سؤالاً جارحًا عن عِلّة مُغادرتها؛ بينما لا يتوافر تصوُّر جاد ومُتماسك لمحطَّة الوصول.
 
أحرزت الهجمةُ مكسبًا تكتيكيًّا ظاهرًا ولا يُنكَر؛ لكنها تخسر فى حِسبة الاستراتيجية. لقد تحرَّكت القضيّة فعلاً؛ لكن إلى حافة الهاوية، وصار «حلُّ الدولتين» بعيدًا أكثر من أىِّ وقتٍ مضى، كما صار بقاءُ الفصائل فى غزّة محفوفًا بمخاطر تصعُب إدارتها دون خسائر ملموسةٍ وتكاليف باهظة. خسر القطاعُ ما يحتاج عقودًا لتعويضه، وربح الصهاينةُ جولةً يُحبّونها من التصعيد، تكسَّرت فيها خطوطٌ حمراء سابقة لمعيار تَنَاسُب الردِّ وحجم الدمار المقبول، وتداعى حُلفاؤها الغربيِّون ليفرضوا توازُنًا ظالمًا، ويُربِكوا حسابات محور المُمانعة لناحية «وحدة الساحات» وفتح جبهات الصراع على بعضها. كُسِرَت هَيبةُ الاحتلال نظريًّا؛ لكنه يُعيد بناءها بالحديد والنار، وستكون الصورةُ أشدَّ قتامةً عندما تجنى الشيعيّةُ السياسية مكاسبَ ظرفيّة فى بيئةٍ أُخرى على حساب فلسطين، أو عندما يتجدَّد حديثُ التطبيع فى مدىً زمنىّ غير بعيد.
 
المسرحيّون الهُواة يتكاتفون لإنجاز عرضٍ لا يستجلب سوى الموت والبكاء. اليمينُ الصهيونى المُتطرِّف، توراتيًّا وقوميًّا، يُعيد صياغةَ الصراع تحت سرديَّة الخُصومة العقائدية مع محورٍ واسع؛ ليتهرَّب من جوهر القضية ومن التزاماته كقُوّة احتلال، والحماسيِّون اختلقوا فصلاً حادًّا بين مُكوِّنات دورهم فى القطاع. إنهم حركةُ مُقاومةٍ فعلاً؛ لكنهم أيضًا سُلطةُ حُكمٍ انفراديّة منذ ستّة عشر عامًا، وعليهم الموازنة بين أمورٍ ثلاثة: نزعتهم التحرُّيرية، ومسؤوليتهم الإدارية، وجنون العدوِّ الذى لم يُفوِّت فُرصةً لإثبات سفالته. احتكارُ المحنة انطلاقًا من حالة الانقسام كان تحامُلاً سخيفًا على فلسطين من أبنائها قبل الآخرين. لقد خصمَ الجَمعُ بين السياسة والسلاح من الأداتين معًا، وأتاح للصهاينة المخابيل إزهاقَهما برصاصةٍ واحدة. ويُجاهِر نتنياهو الآن بأنه لا يقبلُ الفصائل ولا السلطة فى القطاع، ويستهدف مُنظَّمةَ التحرير مثلما يطلبُ رقاب السنوار ومُقاتلى القسَّام.. يُمثِّل الاحتلالُ الغَلَبةَ وهو فى أكثر حالاته انكشافًا، وتُمثِّل الفصائلُ النصرَ على طَللٍ وأكوام جُثث، وكلاهما يعتصم بأداءٍ مسرحىٍّ زاعق، لا يُناسِب زمن الرسائل الخافتة، ولا جلالَ المُصاب، كما يُثير الطنين فى آذان الذين فُرِضَت عليهم المأساة، من قلب المحرقة أو على تخومها.
 
لا تخلو رُؤيةُ إسرائيل للحرب من سذاجة؛ إن افترضت قُدرتَها على إفناء «حماس»، أو تعقيم جغرافيا فلسطين من عَدوى المقاومة؛ طالما ظلَّ الاحتلال قائمًا والحقوقُ ضائعةً. والفصائلُ أيضًا تبدو أحيانًا مثل بطلٍ تراجيدى، يمضى إلى مصيرٍ قاسٍ بإيمانٍ يُجانبه التعقُّل والبراجماتية وحسابات الميدان. لو فكَّر الصهاينةُ سيكتشفون أنهم يزرعون ثأرًا حارقًا فى كلِّ بيت، وما من بديلٍ عن الموت إلَّا الحياة عند حدٍّ مُقنعٍ ومقبول. أمَّا حركاتُ غزَّة بمرجعيَّتها الأُصوليَّة فإنها تعرفُ حَتمًا أن «دَرء المفسدةٍ مُقدّمٌ على جَلب المنفعة»، ولم يكن الرسول ضعيفًا حينما عَقَد صُلحَ الحديبية أو حارب خصومَه خارج المدينة فى غزوة الأحزاب، لكنه كان يقرأُ جوهرَ الامتحان ويُوازِن بين المنفعة والضَّرَر. التمثيلُ وحده يسمحُ بأداءٍ استعراضىٍّ، ويقبلُ أن تذهبَ إلى الموت السهل؛ لعِلْمِك أنه سينتهى بانحناءةٍ مع استقبال تصفيق الجمهور. فى إسرائيل ثمّة شخصٌ واحد يسعى إلى مشهد التحيّة قبل إغلاق الستار، هو بنيامين نتنياهو، وكلُّ موتٍ يهونُ عليه من أجل غايته. فهل يُديرُ «محور المُمانعة» حضورَه المسرحىَّ بالفلسفة نفسها؟ ومَن يتأهَّب منهم لمُلاقاة المُتفرِّجين مَزهوًّا بنفسه على كَومة الجُثث الغزِّية؟!
 
رغم صفاء الخطوةِ القانونية لجنوب أفريقيا، وأنه لا شكَّ فى نيِّتها من تحريك دعواها أمام محكمة العدل الدولية؛ لا تبدو خُلاصةُ الحركة بعيدةً من النكهة المسرحية. ثمّة توازنات تحكُم المرافقَ الأُمميَّة جميعًا، والقضاةُ فى وَارد التعرُّض لضغوطٍ مُباشرة أو عبر حكوماتهم، كما أن الإدانةَ يتهدَّدها احتمالُ المراوغة فى تثبيت الرُّكن المعنوىّ/ النِيَّة، مُتّصلاً بالرُّكن المدنىّ/ القصف والقتل. وإن تحقَّق الصعب فإن «فيتو واشنطن» بالمِرصاد فى مجلس الأمن، وهكذا قد لا تُفضِى الجولةُ إلَّا لحالة تطهيرٍ أخلاقية، تملك فلسطين الكثير منها طوالَ عُقود المُعاناة. ربّما لهذا تجرَّأ الصهيونى الأوقح «نتنياهو» بعد جلستى المحكمة؛ مُعلنًا استمرار العدوان وأنه لا شىء سيوقفه، إن كان حُكمًا قضائيًّا أو قرارًا دوليًّا. والطرفُ الآخر لا يُفصِح عن نواياه فى كلِّ الساحات، رهانًا على أن تُثمِر الغرفُ المغلقة ما لم تُثمره الميادين المفتوحة. فى المسرح تذهبُ الحكايةُ إلى المدى الأقصى، وتستفحلُ العُقدة، قبل أن يأتى الحلُّ مُفاجئًا ومُتدفّقًا فى زمنٍ أقلّ من أزمان التعقيد.
 
خطورةُ اللُعبة أنَّ الأسقُف مُتحرِّكةٌ، واللعب بالرصاص الحىِّ قد يُحوّل المسرحَ فى كلِّ أركانه إلى مُستنقعٍ من الدم. الترتيبات المرعيّة فى لبنان يُمكن أن تنفجر فجأة، وفى العراق وسوريا ومضيق هرمز، وحفظُ ماء الوجه بين الحوثيِّين والأمريكيِّين قد يتركُ ندبةً ظاهرةً فى جبين أحدهما، فيُوقِظ الغُولَ النائمَ مُحطِّمًا الحدود وقواعد الاشتباك. المخاطرُ قائمةٌ ولا تنفى الصيغةَ المسرحيّة للمُواجهة، وإن كان الأقوياءُ والطامعون يراهنون دائمًا على مكاسب أكبر من خسائرهم، وعوائد تُعوِّض ما تكبَّدوه فى إنتاج الفُرجة الدرامية، فلا مُبرِّر لأن ينساق الضعفاء أو يُستهلَكوا فيما يُريده المتاجرون بدمائهم، ولا أن يُقنعوا أنفسَهم بالبطولة بينما يحبسهم العدوُّ والحليف فى مُؤخِّرة المسرح وأدواره الثانوية «الكومبارس». الأبطالُ الوحيدون أطفال غزَّة ونساؤها، والبيوت التى تهدَّمت على رُؤوس ساكنيها، والقطاع الضيِّقُ الذى يتنفَّس صامدًا رغم كلِّ ما زُرِعَ فى طينته من بذور الموت وأنفاقه. هؤلاء حقيقيِّون لا يُمثِّلون البطولة، وما دون ذلك عُروضٌ ماسخةٌ ودراما مُكرَّرة، جَرَت فى العراق وسوريا واليمن وأفغانستان، وتتكرَّر بين وقتٍ وآخر: القاتلُ تُشبِعه الدم، والمتربُّح يرثُ الضحايا، والأرضُ حصيرةٌ من الدم، تستهلك الوقت بين التعافى من جراحها النازفة، والتجهُّز لتمثيلية سوداويّةٍ جديدة.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة