عادل السنهورى يكتب فى الذكرى 106 لميلاد جمال عبد ناصر: هؤلاء هاجموه ثم أيدوه وأحبوه.. شيوخ وسياسيون وأدباء وشعراء بين معارضة الزعيم الراحل فى حياته ومدحه ورثائه بعد رحيله.. أبرزهم الشعراوى والعالم والأبنودى

الإثنين، 15 يناير 2024 06:30 م
عادل السنهورى يكتب فى الذكرى 106 لميلاد جمال عبد ناصر: هؤلاء هاجموه ثم أيدوه وأحبوه.. شيوخ وسياسيون وأدباء وشعراء بين معارضة الزعيم الراحل فى حياته ومدحه ورثائه بعد رحيله.. أبرزهم الشعراوى والعالم والأبنودى الزعيم الراحل جمال عبد الناصر

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

 هل هناك تفسير لهذه الحالة أو المعادلة الصعبة التى لم يحققها فى التاريخ السياسى المصرى الحديث سوى جمال عبدالناصر؟

 
كثير من السياسيين والشعراء والأدباء هاجموه وانتقدوه واختلفوا معه واعتقلوا فى سجونه فى حياته، وكان من المنطقى والبديهى أن يستمروا فى معاداة الرجل والهجوم عليه بعد موته، لكن يحدث ما هو خارج السياق وعكس التوقعات.. فمن ذاق مرارة السجن فى عهده كانوا أول المدافعين عنه وعن ثورته وأفكاره وإنجازاته ومدحوه وكتبوا قصائد الرثاء له.
 
فرغم الموت، ما زال الحب والتقدير والإعجاب للرجل مستمرا.. وهنا فى ذكرى مرور 106 أعوام على ميلاد الزعيم جمال عبدالناصر نستعرض عددا من الشخصيات الشهيرة التى اصطدمت بعبدالناصر وثورته وتفسيرهم للدفاع عنه وبقاء تقديرهم له.. من هؤلاء الشيخ الشعراوى وخالد محيى الدين ويوسف صديق وأحمد فؤاد نجم وفؤاد حداد والدكتور إسماعيل صبرى عبدالله ومحمود أمين العالم ويوسف إدريس.
 

الشعراوى هاجم عبدالناصر ورثاه وزار الضريح

علاقة الشيخ محمد متولى الشعراوى والزعيم جمال عبدالناصر كانت اختلافا وصداما، ففى أحد حوارات الشعراوى التليفزيونية بعد وفاة عبدالناصر وبعد أن أصبح الرجل مقربا من الرئيس السادات وعينه وزيرا للأوقاف وكان صاحب أشهر «طلة» تليفزيونية فى السبعينيات وما بعدها أشار إلى سجوده شكرا بعد سماعه خبر نكسة 67، معللا ذلك بقوله: «فرحت لأننا لم ننتصر ونحن فى أحضان الشيوعية»، ما جعل البعض يربطها كمهاجمة منه للرئيس جمال عبدالناصر، الذى كان يعتبره الشعراوى شيوعيا.
 
بعد إعلان خبر وفاة عبدالناصر 28 سبتمبر 1970، فاجأ الشعراوى الجميع، وألقى خطابا حزينا راثيا الزعيم الراحل، فقال - وفقا لما ورد فى كتاب «الشيخ الشعراوى وفتاوى العصر»، للكاتب محمود فوزى -: «قد مات جمال وليس بعجيب أن يموت والناس كلهم يموتون ولكن العجيب وهو ميت أن يعيش معنا، وقليل من الأحياء يعيشون، وخير الموت ألا يغيب المفقود وشر الحياة الموت فى مقبرة الوجود، وليس بالأربعين ينتهى الحداد على الثائر المثير، والملهم الملهم، والقائد الحتم، والزعيم بلا زعم، ولو على قدره يكون الحداد لتخطى الميعاد إلى نهاية الآباد».
 
وبعد مرور أعوام على وفاة عبدالناصر، كانت المفاجأة الكبرى عام 1995 بزيارة الشعراوى ضريح ناصر ووقف أمامه داعيا، معللا سر زيارته فى رؤياه للزعيم الراحل فى منامه، فقال فى تصريح له لصحيفة الأهرام الذى اتصل بها يطلب صحفيا أو مصورا يرافقانه إلى زيارة ضرورية سيقوم بها بعد دقائق.. حيث فوجئ المحرر والمصور بأن المكان الذى سيذهبان إليه هو ضريح عبدالناصر:«لقد أتانى عبدالناصر فى المنام، ومعه صبى صغير وفتاة صغيرة، والصبى ممسكا بمسطرة هندسية كبيرة والبنت تمسك سماعة طبيب، ويقول لى ألم يكن لدى حق أيها الشيخ، فقلت له بلى يا عبدالناصر أصبت أنت وأخطأت أنا»، مشيرا إلى أن الرؤية كانت إنصافا لرأى ناصر بإدخال الطب والهندسة لعلوم جامعة الأزهر، والذى عارضه الشيخ بشدة، إذ كان يرى الأزهر دارا للعلوم الدينية فقط.. وأضاف: «يجب على الإنسان ألا يسىء الظن بفعل أحد، وأن يترك سرائر الناس لله وحده».


صنع الله إبراهيم وجمال عبدالناصر

الأديب والروائى صنع الله إبراهيم صاحب أشهر الروايات «تلك الرائحة» و«الثلاثية» و«نجمة أغسطس» و«حرب 1967» و«ذات» وغيرها التى تُرجمت إلى اللغات الأجنبية.
 
اعتقله عبدالناصر مع آخرين من الشيوعيين عام 1959 ولم يفرج عنه وعن رفاقه إلا عام 1965، يروى صنع الله إبراهيم قصة اعتقاله حين زُج به مع شهدى عطية فى سيارة عسكرية مقيدى اليدين، ولدى وصولهما إلى سجن «أبو زعبل» انهال عليهم رجال المباحث والمخابرات والضباط بالضرب المبرح.. لحظة قاسية جدا! اعتبرها صنع الله من أقسى لحظات حياته ومن قسوة الضرب توفى المناضل الشيوعى شهدى عطية يوم 17 يونيو 1960.
 
فى تلك الأثناء كان الزعيم الراحل عبدالناصر فى يوغوسلافيا، وقد فوجئ بصحفى يسأله: لماذا قتلتم شهدى عطية؟ عندها اتصل بوزير الداخلية طالبا التحقيق فى أسباب الوفاة والكف عن تعذيب السجناء الشيوعيين، وكان منهم محمود العالم وعبدالعظيم أنيس وعبدالمنعم تليمة.
 
عقب الإفراج عن صنع الله إبراهيم ورفاقه الآخرين، سُئل صنع الله «هل فرحت حين توفى عبدالناصر؟، أجاب: «طبعا لا، نحن نفتقد هذا الزعيم الذى عمل على نشر العدالة الاجتماعية والقضاء على الطبقية التى تم تكريسها بعد رحيله».
 
ورغم عذاب السجون ظل صنع الله إبراهيم مخلصا لعبدالناصر، بل قال: إنه ينوى كتابة رواية عن عهده، وظل يدافع عنه بحماس بالغ بأى محفل، ففى تصريحاته كما فى أعماله الروائية، لم يتراجع يوما، ولا غير أفكاره بيوم آخر، لكنه لم يتح له أن يعبر عن كامل وجهات نظره فى الرجل وعصره، كما فعل فى روايته الجديدة «1970».

عبدالناصر وأحمد فؤاد نجم

الشاعر الكبير الراحل أحمد فؤاد نجم كانت له الكثير من المواقف ضد سياسيات الرئيس عبدالناصر، خاصة فيما يتعلق بالحريات، زادت حدتها بعد نكسة 1967، فكتب ولحن مع الشيخ إمام عشرات الأغنيات، التى كانت سببا فى اعتقالهما، ومنها أول قصائده السياسية الممنوعة وهى: «الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا.. يا محلا رجعه ظباطنا من خط النار.. إيه يعنى فى العقبة جرينا ولا فى سينا.. هى الهزيمة تنسينا إننا أحرار»، وهى القصيدة التى دخل بسببها السجن عام 67، ولم يخرح إلا بعد وفاة عبدالناصر بنحو 5 سنوات، ومع ذلك بكى عليه يوم مماته، وكتب فيه واحدة من أجمل قصائده ينعيه فيها، وفى آخر حواراته التليفزيونية قبل رحيله 3 ديسمبر 2013، قال نجم: «عبدالناصر كان ضمير الشعب المصرى، كان فيه الجدعنة، كنا نرفض سياساته، لذلك اعتقلنا، ولكنه لم يتراجع، ودخل فى معارك مع الاستعمار والأمريكان بالذات وهذا أكسبه شعبية طاغية، لذلك كتبت فيه قصيدة حلوة أوى»، وأضاف: «غفرت النكسة لعبدالناصر»، وكتب نجم قصيدة عن عبدالناصر سماها «زيارة إلى ضريح عبدالناصر».

نزار قبانى وجمال عبد الناصر

الشاعر العربى السورى الراحل نزار قبانى، اصطدم تقريبا بكل الأنظمة العربية، وتحديدا بنظام الرئيس جمال عبدالناصر بعد قصيدته الشهيرة «هوامش على دفتر النكسة» التى هاجم فيها بضراوة وصراحة، الأنظمة العربية بل والشعوب أيضا.
 
القصيدة أثارت جدلا واسعا فى مصر وأثارت غضب المقربين من الرئيس جمال عبدالناصر، بل وحتى المؤيدين له من الكتاب والصحفيين، لدرجة أنهم طالبوا بمنعه من دخول مصر، ومنع أعماله، وبعضهم طالب بحرقها.
 
هذه الهجمة الشرسة رد عليها قبانى بأن أرسل رسالة إلى عبدالناصر يقول فيها: أوجعنى يا سيادة الرئيس أن تمنع قصيدتى من دخول مصر، وأن يفرض حصارا رسميا على اسمى وشعرى فى إذاعة الجمهورية العربية المتحدة وصحافتها، والقضية ليست قضية مصادرة قصيدة أو مصادرة شاعر، لكن القضية أعمق وأبعد، القضية هى أن نحدد موقفنا من الفكر العربى، كيف نريده؟ حرا أم نصف حر؟ شجاعا أم جبانا؟ نبيا أم مهرجا؟
 
وبالفعل أمر الرئيس بإنهاء هذه الحالة من المصادرة، واستقبال نزار مرة أخرى فى مصر، ورغم موقفه المعادى لعبدالناصر فإن نزار رثاه بقصيدتين شهيرتين بعد موته مباشرة، الأولى بعنوان «قتلناك يا آخر الأنبياء»، والثانية بعنوان «رسالة إلى جمال عبدالناصر»، وهى القصيدة التى غنتها أم كلثوم.
 
المفاجأة كانت بعد وفاة عبدالناصر، وعلى غير المتوقع خرج نزار قبانى بقصيدة صارخة يرثى فيها الزعيم الراحل، كما لم يرثه أحد من محبيه، واصفا إياه بـ«الهرم الرابع».

جمال عبدالناصر والأبنودى

الشاعر الكبير الراحل عبدالرحمن الأبنودى، خير مثال على التحول من معارضة عبدالناصر إلى تأييده وحبه.. «الأبنودى» سُجن فى عام 1966، بتهمة تكوين تنظيم شيوعى، ولم يخرج إلا بعد 4 شهور.
 
وكتب «الأبنودى» فى عهد ناصر عددا من القصائد أهمها: «جوابات حراجى القط» التى ظهرت للنور فى عام 1969، والتى تناولت كيف شارك فلاح بسيط فى بناء السد العالى، كما كتب أغنية «عدى النهار» بعد نكسة 1967، ثم كتب قصيدة شعرية طويلة اسمها «الاستعمار العربى» انتقد فيها فكرة جمال عبدالناصر بخصوص القومية العربية، وشرح فيها «أنه مفيش حاجة اسمها عروبة وأن مصر ما خدتش من الموضوع إلا الابتزاز»، على حد تعبيره.
 
الغريب أن الأبنودى لم يكتب قصيدة مدح واحدة فى حياة عبدالناصر، بل ولم يكتب قصيدة رثاء له بعد وفاته مباشرة، إنما انتظر لعقود طويلة حتى يكتب قصيدة من أقوى ما قيل فى رثاء ناصر، وفى مدحه، وكتب فى رثائه أيضا قصيدة «يعيش جمال عبدالناصر».

جمال عبدالناصر ومحمود أمين العالم

المفكر اليسارى محمود أمين العالم وأحد أقطاب حركة اليسار فى مصر، انتسب فى شبابه للحزب الشيوعى المصرى، درس الفلسفة فى جامعة فؤاد الأول «جامعة القاهرة حاليا»، حيث عمل بعد تخرجه فى الجامعة حاصلا منها على درجتى الماجستير والدكتوراه، كما عمل فى مجلة روز اليوسف.
 
فصل من عمله فى عام 1954 مع عدد من زملائه اليساريين والشيوعيين، وتم اعتقاله فى عهد الرئيس جمال عبدالناصر.
 
بعد وفاة ناصر واختيار السادات خلفا له بدأ صدام جديد داخل السلطة الجديدة حول سياستها التى أخذت تتناقض شيئا فشيئا مع السياسة السابقة، ووقف «العالم» موقفا معارضا صريحا فى اجتماع اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى الذى كان عضوا فيه بالانتخاب الشعبى إلى جانب عضويته فى أمانة التنظيم الطليعى، وتم اعتقاله مع من أطلق السادات عليهم «مراكز القوى».
 
كل من كتب عنه أو اقترب منه يؤكد أن محمود أمين العالم كان سياسيا وحزبيا يتجاوز برؤيته الإنسانية قيود الحزبية، ويتعالى على جراحه ويأبى أن يصبح سجينا لها، وخلافا لكثيرين ممن تاجروا خلال حقبة السبعينيات بقصص قليلها حقيقى وأكثرها وهمى عن التعذيب فى سجون عبدالناصر، فى مصر وفى منفاه بباريس وقف مدافعا صلبا عن ثورة عبدالناصر، وقدم نقدا علميا ذاتيا لرفاقه الذين اصطدموا مع زعيم الثورة لخطأ فى التحليل السياسى وقراءة الواقع، كان من الشجاعة الفكرية والسياسية أن يعترف بخطأ الشيوعيين المصريين فى اتخاذ موقف عدائى من ثورة 23 يوليو بزعامة جمال عبدالناصر، وتبنى موقف رافض للوحدة المصرية السورية تقليدا للحزب الشيوعى العراقى، إلا أنه فى نفس الوقت لا يتجاهل أخطاء الدولة وأجهزتها مقارنة بأطروحات الثورة.
 
ويضيف: الحقيقة التى لا تنكر لثورة عبدالناصر منذ بدايتها وحتى وفاته عام 1970 أنها كانت ثورة من أجل الاستقلال الوطنى والتنمية الاقتصادية والاجتماعية واستقلال وتحديث، وكانت ثورة وطنية معادية للاستعمار والإمبريالية ومعادية للتخلف الإقطاعى والاحتكار الرأسمالى، لقد تحقق الاستقلال السياسى والاقتصادى والعسكرى لأول مرة فى تاريخ مصر الحديث فى ظل ثورة يوليو.

جمال عبدالناصر ويوسف صديق

يوسف منصور يوسف صديق الأزهرى ضابط مصرى كان ضمن تنظيم الضباط الأحرار فى مصر، ولد فى قرية زاوية المصلوب التابعة لمركز الواسطى محافظة بنى سويف بمصر فى 3 يناير 1910، والده وجده عملا ضابطين بالجيش المصرى.
بدأت علاقة يوسف صديق بتنظيم الضباط الأحرار عندما تعرف على النقيب وحيد جودة رمضان إبان حرب فلسطين 1948، وبعدها بثلاث سنوات عرض عليه وحيد رمضان الانضمام لتنظيم الضباط الأحرار فلم يتردد لحظة واحدة فى الموافقة، وقبل الثورة بأيام زاره جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر فى منزله للتنسيق من أجل الثورة، وهكذا قام يوسف صديق بدوره فى قيام الثورة.
 
هذا الدور أكده جمال عبدالناصر فى العيد العاشر للثورة، حينما تحدث فى خطابه بهذه المناسبة عن دور يوسف صديق فى الثورة.
 
تناولت بعض المقالات والكتب سيرة يوسف صديق منها كتاب «يوسف صديق وجمال عبدالناصر» للكاتبة علية توفيق عن مؤسسة الأهرام، ورسالة ماجستير أعدتها الباحثة منى مالك بعنوان «يوسف صديق ودوره فى ثورة 23 يوليو».
 
أزمة مارس 54، كانت النقطة الفاصلة التى افترقت عندها الطرق، صراعا حول أى طريق تذهب إليه «يوليو»: إعادة إنتاج مقومات النظام الملكى دون الملك أم تغيير طبيعة النظام كله وتقويض أسسه السياسية والاجتماعية والاستراتيجية؟
 
فى الأزمة طلبت حركة «حدتو» - التى انتمى إليها يوسف صديق - المشاركة فى القرار، وجماعة «الإخوان المسلمين» طلبت الاستيلاء على القرار نفسه.. هنا حدث الصدام، وكانت النتيجة خروج «يوسف صديق» من مجلس قيادة الثورة.
 
تعرض «يوسف صديق» لمِحن إنسانية إبعادا واعتقالا ووضع قيد الإقامة الجبرية بعد أن استقال فى سبتمبر 1954، لكن بعد ذلك حدثت المراجعات فى الحركة وارتبطت بدرجات متفاوتة بثورة يوليو بل ودافعت عنها.
 
أثناء محنة «يوسف صديق» الإنسانية هجا قائد ثورة يوليو بأقسى الأوصاف، حيث قال فيه: «ألبست المسوخ وضللتنا.. ولما حكمت كشفت الفتون».
لكن - كما يقال - يعرف الرجال عند الشدائد وتظهر معادن الأصلاء لحظات الخطر وتذوب الخلافات وتطيب الجروح، فعندما بدأ العدوان الثلاثى على مصر عام 1956 التأمت الجراح بين رفاق افترقوا، وبدأ القتال بشرف معنى الحياة نفسها.
 
أعلن يوسف صديق استعداده للتطوع فى الحرب وارتداء ملابسه العسكرية مرة أخرى، هنا يقرر «عبدالناصر» رفع الإقامة الجبرية عنه، ووضع تحت إمرته ضباطا ومعلمين عسكريين وسلاحا روسيا حديثا لتدريب المتطوعين.
 
ويكتب يوسف صديق الضابط الشاعر: «الله أكبر يا جمال جمعتنا والعهد دون الحق أن نستشهدا».
 
الموقف البطولى الأصيل الآخر ليوسف صديق بعد حدوث نكسة يونيو67، أنه قرر الذهاب إلى منزل الرئيس جمال عبدالناصر ليطلب منه العدول عن قرار التنحى، ويتسامى صديق فوق مراراته وبالرغم من وجود خلافات سياسية بينه وبين عبدالناصر.
 
كانت الجراح قد التأمت تماما بل كان الدفاع بقوة عن يوليو وزعيمها بعد رحيله، ويكتب يوسف صديق آخر قصائده وأجملها عن جمال عبدالناصر قبل أن يرحل صديق بدوره عام 75 يقول فيها:
أبا الثوار هل سامحت دمعى
يفيض وصوت نعيك ملء سمعى؟
بكتك عيون أهل الأرض حولى
فكيف أصون بين الناس دمعى؟
 

إسماعيل صبرى عبدالله وجمال عبدالناصر

الدكتور إسماعيل صبرى عبدالله «1925 ـ 2006» هو واحد من أهم الرواد الاقتصاديين فى مصر، يعد رائد مدرسة فى التفكير الاقتصادى.
تعرض للسجن فى عهد عبدالناصر، مرتين، قضى فى الثانية نحو خمس سنوات من عام 1959 إلى 1964، تعرض خلالها للتعذيب، ومع ذلك ظل على موضوعيته فى النظر إلى التجربة الناصرية.
 
وعقب الإفراج عنه تولى رئاسة «دار المعارف» ومديرا لمعهد التخطيط عام 1969.
 
كانت علاقته مع جمال عبدالناصر انعكاسا للعلاقة التى ربطت عبدالناصر بالشيوعيين المصريين بمدها وجذرها، وشهدت سجنا وحرية، وتأييدا ومعارضة، فدخل السجن من 1959 حتى 1964، فى نفس الوقت كان أحد العقول الاقتصادية التى يستشيرها عبدالناصر، يقول: «لم تكن بينى وبينه علاقة مباشرة لأننى لم أكن أعمل فى مكتبه، وأحيانا كان يطلب رأيى فى شىء فأقول، ورأيى فيه أنه كان إنسانا استثنائيا لا يتكرر ولا يمكن تكراره، فقد تجمعت فيه معانى من الصعب أن تتجمع فى شخص واحد، فمثلما كان هو رئيس الدولة الوحيد الذى ثقف نفسه وهو فى السلطة وكان يمكنه وهو على رأس السلطة أن يستغل المثقفين، وعند إعلامه بأى كتب حديثة فى أى مجال كان يطلب الحصول عليها فورا، فحينما كان خالد محيى الدين منفى فى جنيف وتحدث معه تليفونيا من هناك طلب عبدالناصر منه أن يبعث بعض الكتب مع الشخص العائد إلى القاهرة، فأوروبا كانت تمثل له كتبا وليس سلعا استهلاكية، وهذا شىء نادر على مستوى العالم أن يصل شاب إلى السلطة ويريد أن يعرف وأن يعلم كل شىء».
 
هكذا لم يقيم الدكتور إسماعيل صبرى عبدالله، «عبدالناصر» بنفسية المنتقم، وتصفية الحسابات، وبشيم العظماء لم يتاجر بما جرى له فى وقت كانت الأبواب مفتوحة لحصد الغنائم من الهجوم على عبدالناصر وتجربته.
 

فؤاد حداد وجمال عبدالناصر

فؤاد حداد من أبرز شعراء العامية فى منتصف القرن العشرين، فهو المؤسس الحقيقى لشعر العامية الملحمى فى مصر، وكان دائما ما يعرف نفسه قائلا: أنا والد الشعراء فؤاد حداد، أطلق عليه كذلك فنان الشعب، حيث استلهم من الشعب المصرى عددا من الملاحم التى كتبها، مثل أدهم الشرقاوى وحسن المغنواتى.
ولد «أبو الشعراء» فؤاد حداد عام 1927 فى حى الظاهر بمدينة القاهرة، تعلم فؤاد حداد فى مدرسة الفرير ثم مدرسة الليسيه الفرنسيتين. اعتقل فؤاد حداد مرتين، الأولى عام 54 لأسباب سياسية، ثم عاد واعتقل مرة أخرى عام 59 وحتى عام 64.
 
ورغم سنوات الاعتقال إلا أنه رثاه بديوان كامل بعنوان «استشهاد جمال عبدالناصر» عام 1982، وفسر فؤاد حداد نفسه تلك المفارقة بين حبسه لمدة 8 سنوات ورثاء عبدالناصر بالقول «لأنه - أى عبدالناصر- كان يعمل فى مصلحة مصر»، رافضا شخصنة العلاقة، وفسّر حبه لناصر حسبما كتب الشاعر جمال بخيت فى الثمانينيات، فى مقال له بمجلة «روز اليوسف»: «المسألة لا تحسب بالمنافع أو الأضرار الشخصية.. لم أسجن فى عصر السادات يوما واحدا.. بينما اعتقلت لسنوات فى عصر عبدالناصر.. ولكننى أحب عبدالناصر ولا أحب السادات.. أنا أقيس المسألة بشكل موضوعى وليس بشكل ذاتى.. عندما كنت فى السجن فى عصر عبدالناصر.. كان يحقق لمصر كل ما أتمناه لها.. بينما السادات وبعد إنجاز أكتوبر كان يخطو بمصر إلى حيث لا يحب أن تكون».
 

يوسف إدريس وجمال عبدالناصر

بدأ يوسف إدريس علاقته بالسياسة من خلال تيار اليسار فى كلية الطب جامعة القاهرة، وفى جريدة «المصرى»، وعرف طريقه إلى المعتقل بسبب اهتمامه بمشاكل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية التى ظهرت بوضوح فى مجموعته القصصية الأولى «أرخص ليالى»، وربما تخمرت فى ذهنه كأديب أثناء الاعتقال فكرة الكتابة عن القمع والسجون كما ظهرت فى «العسكرى الأسود»، و«مسحوق الهمس».بالتكوين السياسى لم يكن «يوسف إدريس» ناصريا، وبالتجربة الإنسانية فقد عارضه ودخل سجونه قبل أن يعاود النظر فى تجربته ويدافع عنها.
 
باعتراف «إدريس» فى قصته القصيرة فقد كان يتمنى أن يموت «عبدالناصر» حتى يتحرر ويجاهر بأنه كان يكرهه، فإذا به قرب ما استشعر أنها النهاية يتوحد معه ويعلن استعداده للقتال حتى لا يصلوا إليه.
 
وبالنظرة الموضوعية، فإن الفارق بين الكراهية المقيتة والمحبة الغامرة هو حجم الإنجاز الاجتماعى الذى تحقق بين عامى 1954-1970، وحجم ما حلق فى الأفق العام من آمال وأحلام لامست عمق اعتقاد جيل الأربعينيات الذى ينتسب إليه يوسف إدريس.
 
عام 1961 كتب إدريس «العسكرى الأسود» التى هاجمت المعتقلات فى زمن عبدالناصر، ولم يكن إدريس مثقفا تابعا لعبدالناصر ولا أى حاكم آخر، وكثيرا ما انتقد النظام فى الستينيات، حتى أن السادات «صديقه» فصله من «المؤتمر الإسلامى» تجنبا لأى حرج بعد أن كتب مقالا هجوميا ضد «الاتحاد القومى»، لكن إدريس فوجئ بالتكريم وليس بالاضطهاد، حيث صدر قرار بتعيينه كاتبا فى «الأهرام» وبدأ الكتابة فيها بنشر قصة «الخديعة» عام 1969 التى فسرها البعض بأنها تسخر من الحضور الطاغى المخيف لجمال عبدالناصر، ورمزت له القصة برأس جمل يظهر للبطل فى كل مكان، فتم فصل إدريس من الأهرام ولم يلبث أن عاد إليها.
 
فى قصته القصيرة «الرحلة»، التى نشرت فى يوليو 1970 بصحيفة «الأهرام» أى قبل وفاة ناصر، كأنه يقرأ فى كتاب مفتوح متوقعا قرب رحيله، هناك شىء من المناجاة بين يوسف إدريس وجمال عبدالناصر.
 
وفيها يقول «وداعا يا سيدى يا ذا الأنف الطويل وداعا.. لماذا كنا نختلف؟ لماذا كنت تصر وتلح أن أتنازل عن رأيى وأقبل رأيك؟ لماذا كنت دائما أتمرد؟ لماذا كرهتك فى أحيان؟ لماذا تمنيت فى لحظات أن تموت لأتحرر؟ مستحيل أن أكون نفس الشخص الآن الذى يدرك أنه حر، الحرية الكاملة بوجودك معه، إلى جواره، موافقا على كل ما يفعل».
 
وكتب إدريس فى «الأهرام» مناجيا عبدالناصر بعد رحيله: «يا أبانا الذى فى الأرض.. يا صدرنا الحنون»، وقال فيه: «نحن لم نتعود أبدا أن نتنفس هواء لا يتنفسه هو، ولا أن ننام.. إلا ونحن نحس أنه هناك فى كوبرى القبة، ولا أن نستقبل الصباح إلا على صورته وابتسامته..».
 
p
 

 










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة