حازم حسين

ما بعد الحوار الوطنى.. حتى تنضج الأحزاب ولا تتخبّط بين التكتيك والاستراتيجية

الأربعاء، 20 سبتمبر 2023 02:11 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فارقٌ واسع بين التكتيك والاستراتيجية، فى السياسة كما فى فرعها من علوم الإدارة. إن كانت الغاية توظيف القدرات إلى أقصى مدىً مُمكن، والتدرُّج فى إنجاز المهام وصولاً إلى هدفٍ سامٍ ومقصود لذاته؛ فإنه لا بديل عن فرز التطلُّعات المرحلية والنهائية. إن طبّقنا ذلك على المشهد السياسى الراهن فى مصر؛ يُمكن القول إن الحوار الوطنى والانتخابات الرئاسية والائتلافات، بل والمعارضة نفسها، تكتيكات ظرفيّة تحكمها ديناميكية اللعب المفتوح واحتمالية تبادل الأدوار؛ أمّا الاستراتيجية فحدودها الوصول إلى بيئةٍ سياسية ناضجة ومُتوازنة، وقادرة على استيعاب الجميع، وتمكينهم من فُرص النفاذ للسلطة بمُحدِّدات موضوعيّة مُتجرِّدة. ما يحدث للأسف يبدو مُعاكسًا؛ إذ تتعثَّر كثيرٌ من القوى الحزبية فى التفريق بين التكتيك كإجراءٍ وقائىّ محكومٍ بالتوازنات وردود الفعل، والاستراتيجية كإنجازٍ نهائى ذى طبيعة تنافسية؛ ومن قلب الضبابية المُهيمنة على تصوّراتها، تخلط بين الآنى وطويل المدى، وتتعامل مع ما يجب أن يكون مُؤقّتًا وعابرًا، بوصفه مُتّصلاً ومُقيمًا، وحاكمًا نهائيًّا للأفكار وبرامج العمل.
 
كانت فلسفةُ الرئيس فى الدعوة للحوار الوطنى نابعةً من احتياجٍ راهن؛ يتأسَّس ربّما على رغبة تجميعيةٍ تقتضيها المرحلة، وعلى نظرة نقديّة لتضرُّر البيئة السياسية من أثر حقبة ما بعد «30 يونيو»، وما فرضته من استثناءات ذات طبيعة تأمينية وتحوّطيّة، ضمن شروط الاستجابة لمواجهاتٍ خشنة ومفتوحة مع الإرهاب. معنى ذلك أن اللجوء إلى الطاولة ليس مطلبًا نهائيًّا يُمكن أن يُرتَّب المجال العام بناءً عليه، أو يحلّ بديلاً عن السلطة وتركيبها المُؤسَّسى الراسخ بالدستور، أو الصاعد بآليّات الديمقراطية التمثيلية؛ إنما فُرِض المسار بغرض تجفيف آثار سوء الفهم واهتزاز الثقة بين مُكوّنات الطبقة السياسية، وإعادة ترميم تحالف الثورة المدنية الذى تكوَّن فى مواجهة الرجعيَّة الدينية، وإرساء ركائز صالحة لإدارة صراعٍ سياسى سلمىّ يستجيب للتحدِّيات، ويفتح الأبواب للمُتصارعين على آخرها، تحت سقف الثوابت القيميّة والبنية القانونية للدولة الجديدة. وخلاصة ذلك؛ أن منصّة الحوار كانت تكتيكًا إجرائيًّا لإعادة بناء الإجماع على القضايا الوِفاقية، وفرز حدود الاختلاف فى غيرها من تمايزات الأيديولوجيا، وفى الانحيازات المذهبيّة لتنظيم علاقة السلطة بالمجتمع المدنى، ويتبع ذلك بالضرورة أن يعود المُتحالفون للقواعد التقليدية الناظمة للاشتباك السياسى؛ إنما فى ملعبٍ مكشوف، وبخطوط تنظيمٍ واضحة ومُتّفَقٍ عليها.. يقع الفراق عن ذاك التصوّر التأسيسى الجاد؛ حال اعتبار الورشة المُنتدَبة لمهمَّةٍ مُحدَّدةٍ مصنعًا دائمًا، تنبع شرعيته من داخله، لا من السياق المُحيط والمقتضيات التى أفضت إليه؛ والمأخذ على هكذا تبسيط أنه يُمكن أن يُعطّل نموَّ الذهنية السياسية للطليعة الحزبية، ويحبسها فى دائرة التمايزات الأوَّلية؛ ليمضى قطار المجتمع من أمامها، بينما تعجز عن مُلاحقته أو حجز مقعدٍ بين ركَّاب الرحلة.
 
ما أحرزه الحوار الوطنى إلى الآن، يعود الفضل فى جانبٍ كبير منه لأطياف المعارضة المدنية بتنوُّعها؛ إذ على إيقاع احتضانها للدعوة، وانخراطها بالمُشاركة الجادة، فتحت الباب لتقريب الرؤى، والتماس المُشتركات، وتحكيك الأفكار وتجويدها، وصولاً إلى أرضٍ مُستقرَّةٍ يُمكن الانطلاق منها نحو مناخ إصلاحى، جوهره الاتفاق على الأُسس الثابتة، ثم التنافس لا الإقصاء، وتطوير البدائل بدل الاكتفاء بنقد القائم؛ لكنّ ذلك الأثر الفاعل فى تنشيط المُختبَر الحوارى، واستحصال باقةٍ من المُقترحات وبرامج العمل، لا يعنى التغافل عن أن الحالة بكاملها فى صُلب التكتيك؛ أى أنها خُطوة ضمن سياق عريض لدفع العربة إلى الوجهة المأمولة، وبهذا تُقيَّم فاعليّته بمقدار ما يُتيحه من تضافر القوى، وما يُوفّره من فرصة انتقالٍ سلسٍ وتضامنى للخطوة التالية، وليس بمُعادلة المكاسب المُباشرة لتيّارٍ على حساب آخر، أو المواجهة الصفرية بمنطق المُكاسرة وفرض الإرادة.. من هُنا يُفترَض ألا يكون «الحوار» هيكلاً مُقدَّسًا تعتكف فيه القوى السياسية، بل أن يُتَّخذ قاعدةَ انطلاقٍ لتدشين مزيد من الفعاليات والمساقات الكفيلة بصَقل القدرات الذاتية، وتوطيد الاتصال بالدولة، وسدّ ثقوب العلاقة الطبيعية بين الأحزاب والشارع.. مُقابل احتضان الدولة/ سُلطة الحكم، للمعارضة والموالاة على المنصّة الحوارية، كان واجبًا أن تستحدث القوى جميعًا محاضن مُوازية للتثقيف والتأهيل وتوسعة مجال النقاش، تكون أقرب إلى مُنتدياتٍ نخبويّة وقنوات اتصال شعبية ومفارز للرؤى والكوادر؛ وللأسف لم يُضبَط حزبٌ واحد مُتلبّسًا بورشة عمل ذائعة أو ندوة تأسيسية مُعمّقة أو فعاليات جادّة مع النُّخب والعوام.
 
بحسبة العائد المُباشر، أثمرت التجربة نشاطًا لم يكن مُعتادًا فى بيئة السياسة، وعالجت جانبًا من أثر الهشاشة الذى أنتجته فترة الاحتجاب الطويلة؛ إمَّا لعجز الأحزاب عن الوصول للناس، أو لاصطدامها بجدار الأولويات الذى شيَّدته اعتبارات صدِّ الإرهاب واستعادة الأمن وتثبيت الدولة. نُوقِشت إلى الآن أغلب قضايا الحوار البالغة 113 موضوعًا فى تسع عشرة لجنة، وتتبقَّى آحاد الموضوعات على الأكثر، بين الطرح الابتدائى أو استكمال جولات سابقة، وشارك أكثر من 3 آلاف يُمثّلون نحو 60 حزبًا وعديدًا من دوائر المهنيِّين والنقابيِّين والتكنوقراط، ورُفِعت حصيلةٌ أوّلية من المُخرجات إلى الرئاسة فتلقَّاها الرئيس باستحسان، مع تكليف الحكومة بفرز ما يقع منها فى نطاق الولاية التنفيذية، وما يحتاج تدخُّلاً تشريعيًّا، وجدَّد قبل أيامٍ إشادته بالجهد المبذول وما أنتجه من أوراقٍ ناضجة، تأكيدًا لالتزامه السابق بإنفاذ كل ما يقع فى نطاق اختصاصه الدستورى «دون قيدٍ أو شرط». يُبشِّر ذلك بمآل الجولة الثانية من نقاشات اللجان والجلسات التخصُّصية، وبأن الحصيلة ستأخذ مسارها نحو التطبيق الكلِّى أو الجزئى وفق ما تسمح به اعتبارات الواقع والقانون، وبالتأكيد سينعكس الأثر على حالة البيئة السياسية مُستقبلاً؛ لكن على هامش ذلك تظلّ هناك أسئلة مهمة ومفصليّة عن قصور الأدوار الحزبية خارج أروقة الحوار، وعن نحو 40 حزبًا غابت تمامًا عن الحدث، ما يُفقدها جدارة الوجود، إمّا لعجزها عن إيصال أصوات من تُمثّلهم، أو لافتقارها إلى جمهورٍ يُنيبها عنه أصلاً، ولا يخلو الأمر من علامات استفهام على بعض مُمارساتٍ انتهجت الشعبوية أو غاب عنها النضج.
 
طوال شهور الانعقاد، سعت عدّة تيّارات إلى توظيفه ورقةَ ضغطٍ سياسية؛ كما لو أنه احتياجٌ للسلطة ومناطُ قوّةٍ لمُعارضيها؛ بينما فى واقع الأمر يظلّ «الحوار الوطنى» فرصةً سياسية واجتماعية للبلد بكامله، ومصلحةً مُباشرة تنتفع بها المُعارضة مثل الموالاة، أو أكثر؛ ليس لأنه يُفسِح لها مُتّسعًا فى واجهة المشهد فقط، أو يُمكّنها من منبرٍ ثقيل الوزن لإبراز أيديولوجيّاتها وبدائلها، بل ومُمارسة النقد السياسى فى أسخن صوره أحيانًا؛ بل لأنه بجانب كل ذلك يُبدِّد الهواجس التى تحيك بصدور العامّة عن العمل السياسى، ويغسل وجوه بعض القوى والتيَّارات التى انزلقت سابقًا إلى مُستنقع التحالف مع الرجعيّة الدينية، أو تورَّطت بالأصالة أو ببعض رموزها فى أنشطةٍ غير مُستقيمة تحت لافتات «دكاكين أهليّة وحقوقية»، ويُنهى حالة الريبة والتزيُّد من بعض الذين يرمون المُعارضة بالخيانة؛ لا سيّما أن الرئيس نفسه أكَّد فى غير موضعٍ ومناسبة أنه لا شكَّ فى وطنية أحد، ولا فى أن جميع أبناء تحالف 30 يونيو يعملون لصالح مصر، والاختلاف فى الرأى لا يُفسِد للوطن قضية. من هذا المدخل، لا يكون التلويح بالانفصال عن مسارٍ تضامنىّ جامعٍ لدراسة الواقع واستكشاف المستقبل، إلا رِدَّة عن التوحُّد تحت اللافتة الوطنية، بانسجامٍ مع توافقات الثوابت والأصول، واتِّزانٍ فى خلافات المُتغيّرات والفروع، كما قد يبدو نُزوعًا إلى الابتزاز واختلاق معارك صغيرة؛ بغرض تحقيق مكاسب شخصية أو تنظيميّة ضيِّقة.
 
يكاد «الحوار» أن ينتهى، وأُنجِزت أغلب موضوعاته بالفعل، ويُمكن أن يقف المشاركون فيه على تلٍّ من الأوراق والاقتراحات وبرامج العمل ومشروعات القوانين، وعلى مئات الساعات من الجلسات المُوثَّقة والمُذاعة عبر قناة تليفزيونية خُصِّصت لغرض تسويق المنصّة ووضع الجمهور فى قلب الحالة الانفتاحية، لذا كان من المُفارقات أن يُعلن أحد الأحزاب تعليق مُشاركته، ويتبع ذلك أن يعتذر مُقرّر إحدى اللجان عن استكمال الأمتار الأخيرة من السباق التزامًا بموقف حزبه. كان التبرير أن الحزب يُريد التفرّغ للانتخابات الرئاسية، رغم أنه لم يطرح مُرشَّحًا ولم يُؤيِّد أحدًا حتى الآن ممَّن أعلنوا رغبتهم فى المنافسة. صحيح أن لدى رئيسه «رجل الأعمال» طموحًا لأن يدخل السباق؛ إلا أن مساحات الاشتباك والتنازع وصدام المواقف مع بقيَّة الشركاء فى دوائره الائتلافية، تُقلِّص فرص وُصوله لغايته، وربما تحت سقف ارتباك الحيثية وغياب القبول، أعلن بلسان تحالفٍ آخر يُهيمن عليه شِبهَ مُنفردٍ، أنه لن يُرشِّح أحدًا باسم المجموعة، وذلك فى المُمارسة السياسية أقرب لمشهد شخصية الخواجة بيجو الكوميدى من اسكتش فى فيلم «عروس النيل»، عندما ذهب لمُسابقة توظيف قائلاً: «ما تعملوش حسابى فى الوظيفة دى». الطبيعى أن يُعلن الراغبون ترشُّحهم، لا أن يُعلن غير القادرين على تحصيل التوافق زُهدَهم فى المنافسة. ما يستتر وراء خِفَّة الموقف أن بعض السَّاسة لا يتعاملون مع الحوار الوطنى بتوصيفه الدقيق، من زاويةِ أنه وسيلةٌ لا غاية، أو تكتيك لا استراتيجية، وكذلك المسألة فى سباق الرئاسة الذى يقع، مرحليًّا على الأقل، فى نطاق التكتيك، لحين تقوية الكيانات السياسية وإنضاج برامجها، وتحصيل قُدرة موضوعية على الوصول للناس أوّلاً كشرطٍ لازمٍ لقنص أصواتهم تاليًا. القطيعة مع جولات الوَصل والاشتباك، معناه الانقطاع عن التراكم بأثر التجربة والخطأ وتكرار المحاولات، ولعلَّ فى ذلك إشارة إلى استراتيجية صِفريّة تستحبُّ اللعب من حيِّز المظلومية؛ بدلاً عن التبدُّل بين التكتيكات، والترقِّى الصاعد نحو بناء الذات وإرساء التوازن الجاد.
 
كان لافتًا أنَّ أغلب الأحزاب ركّزت فى الحوار الوطنى على قضية الانتخابات ونظامها، أكثر ممّا ركّزت على الحياة الحزبية وسُبل ضبطها وتطويرها. التطلُّع إلى السُّلطة طموحٌ مشروع، بل واجب عليها، وهو لُبّ العمل السياسى وما يُميّز التحزُّب عن غيره من بقيّة الأبنية الأهلية؛ إنما الوصول لذلك من مساراتٍ فاعلةٍ ومُستدامة، يقتضى البحث أوّلاً عن العافية وترتيب بيئة صحية للمُمارسة السياسية داخل الأفنية الصغيرة قبل طلبها فى الفِناء الوطنى الواسع. إنّ فقدان ثقة الشارع فى الأحزاب إنما يعود لهشاشتها أوّلاً، وإلى ما شُوهِد عليها من ارتباكٍ وتخبُّط وقت يناير، وبعدها، ومع الإخوان، ثم ما خالط مواقف بعضها من رماديّة عقب ثورة 30 يونيو، ولا نُنكر أثر حالة الانسداد التى وقعت بحُكم اختلاف الرؤى والأولويَّات؛ لكنّه لا سبيل لعلاج ترسُّبات العِلَّة من دون تقديم نماذج إيجابية للاستقامة، واحترام السياسيِّين للشعارات التى يرفعونها فى وجه الحُكم؛ أى أن يرى الناس حالةً ديمقراطية حقيقية، وحوكمةً للأداء والتمويل وتداول السلطة، وتفكيكًا لتسلُّط العائلات وبعض دوائر المصالح على لافتاتٍ وكيانات من بابها. كان وضع مسألة التمويل من المُوازنة العامة، قبل مسائل الدمج والرقابة وتنظيم غابة العناوين والبرامج المُتشابهة، قفزًا من الالتزامات إلى المطالب، ومن تشخيص المرض إلى تلطيف العَرَض، وتعمّق الشعور مع اقتراح تسعيرةٍ عن كل نائب برلمانى، بدأها البعض بعشرة آلاف جنيه وأوصلها آخرون إلى مائة ألف. المطلوب أن تُساعد الأحزاب نفسَها قبل أن تطلب مُؤازرة الآخرين، حتى لو كان الآخر الدولة التى تُظِلُّنا جميعًا، ولو كانت بعض التطلُّعات فى حيِّز الحقوق المقبولة.. ما لم تعِ الأحزاب أنها فى مُنافسةٍ داخليّة أوّلاً، ثمّ بينيَّةٍ مع أصدقائها قبل خصومها، ومع شُركائها فى المُعارضة قبل مُعاكسيها فى السُلطة؛ فقد تُخفق فى بناء الاستراتيجية التنافسيّة المُبادِرة، ولا تُفلح فى التشافى من تكرار الإخفاقات، وإدمان النظر تحت الأقدام، ولا فى الإفلات من عبادة التكتيك والأطماع الصغيرة.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة