حازم حسين

العقل والعاطفة فى الحوار الوطنى.. بين الفنى والدعائى والتزامات بناء التوافق

الأربعاء، 09 أغسطس 2023 02:19 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
هل كشف الحوار الوطنى تناقضات قوى السياسة أم سترها؟ بعد 16 شهرًا من الدعوة و5 أسابيع من الجلسات، نبدو أمام تجربة تواصلية واضحة المعالم، لم تخلُ فى بعض جوانبها من مُناكفات تُخلِّقها رواسبُ الماضى؛ لكنها تجترح مساراتٍ لم تكن مطروقةً من قبل، أهمّ ما فيها استكشاف الآخر وحدود التمايز عنه، والوقوع على لغةٍ مشتركة، وبحث المسائل الخلافية تحت سقف الصراعية المُنضبطة، ومن دون فوائض الحماسة وخطابية الأيديولوجيا الزاعقة. أغلب المُوالين باتوا مُقتنعين تمامًا بأنهم لا يحتكرون الحقيقة، وبأن إطفاء الحرائق يقتضى تضافر الجهود، ولا بديل عن فَسْح مجالٍ ليتشارك الجميع طاولةً واحدة، ناضجةً ومُتوازنة. كثيرون من قوى المُعارضة تحلّلوا من طهرانية العناوين الإجمالية غير المشفوعة بحلولٍ أو برامج قابلة للإجراء، واستوعبوا الحاجة للنزول من مُعتكف القطيعة، إلى ساحة التجاوب واختبار الذات والآخر فى مِرآة المُمارسة. تلك الصيغة لن تستر الشقاقات العميقة، كما لن تُعرِّيها؛ بمعنى أن تصبح عائقًا عن استكشاف المُشتركات والتداول فى نقاط الشِّقاق؛ إنما ستسمح بشدِّ حبلٍ متين يربط الضفّتين، ويسمح بالعُبور الآمن لمن يمتلكون المهارة، وحساسية السير فى غابة القضايا المُتشابكة، دون أن يفقدوا الطريق أو يصطدموا بجيران المسيرة.
 
 
العصمة تتأتَّى من إدراك مشروطية الاختلاف، وأنه غير قابل للجّبْر على وجهٍ نهائى، يُشبع حاجة طرفٍ على حساب آخر. هنا تكون العِبرة بالتزام ضوابط الوكالة الناضجة عن الأفكار والبدائل، والجاهزية لخوض جدالٍ طويل يًمكن أن يكون مُنتجًا من جهة التوافق، أو مُؤسِّسًا لحالةٍ صراعية تتقدَّم فيها الأفكار على الشخوص، والبرامج على الأيديولوجيا، وتتساوى فُرص السَّبْق مع التأخُّر مشفوعةً بُمنافسةٍ عادلة، وبتقبُّلٍ وإقرار واسعين للنتائج، ولو لم تصبّ فى صالح فريق بعينه. الانخراط فى «الحوار» يعنى الإقرار بالاختلاف وأننا آتون من بيئات مُتغايرة، والعبور الآمن به يفرض الانتصار للموضوعية؛ بقدر التشبُّث بالذاتيّة، وأهم من ذلك القناعة بأنه لن يكون مُثمرًا، ما لم يُحسن تشخيص المشكلات، ويتوخَّى تجريد الحلول. بمعنى أن يُدار التشابك على قاعدة من القراءات الخاصّة لملفّات النزاع، وتُستخلَص المُخرجات وفق تصوُّرات عمومية، يتساند فيها الرأى مع المُواءمة والاعتبارات الفنية. إنَّ أحاديث الإنشاء والبلاغة الطربيّة تصلح لإثارة الحساسيّات واستنفار الانتماءات الأوّلية، وقد تُحفّز استصلاح بيئة التواصل التى كانت مُتصحِّرة؛ إنما استنبات البذور واستحصال الثمر لن يتحقَّق إلا بحديث العقل والمنطق، وبالمُقاربات الشمولية الرصينة والمُقنعة.
 
 
المثال الأبرز، ما جرى فى جلستى «الدَّيْن العام» ضمن فعاليات الجولة الخامسة للجلسات العامة بالأسبوع الماضى. دارت النقاشات عن واقع المديونية وحدودها الآمنة، وعن مسار تطوُّرها الخَطِّى خلال السنوات الأخيرة، ونسبتها إلى الناتج القومى، وفى مُقابلة الصادرات والاحتياطى النقدى وفجوة العملة، وما يخصّ صافى الأصول الأجنبية وأعباء خدمة الدَّيْن وأثرها على المُوازنة. قال فريقٌ إنها تُوجب القلق وتستدعى كبح التمويلات الجديدة إلا للضرورة، وردَّ آخرون، ومنهم مُمثّلون عن المُعارضة، بأنها تحت سقف الخطر، وفرَّق تقنيِّون من الطرفين بين الأعباء بالعملات الأجنبية ونظيرتها بالجنيه. إجمالاً، لم يكن الخلاف شاسعًا أو حدّيًّا بين المُتحاورين، باختلاف التيَّارات والأجيال والمرجعيّات وأجندات الأيديولوجيا والسياسة؛ ولعلَّ الفضل فى ذلك أن استقراء العنوان الساخن، الذى لا يخلو من تناقضاتٍ ظاهرةٍ ومعروفة بالمنطق بين شركاء الطاولة؛ إنما جرى على أرضيّة فنيّة، تقدَّمت فيها الأرقام والمُؤشِّرات الحسابية وحقائق الظرف الزمنى والالتزامات النوعية، وتراجعت «الخطابية الإنكارية» التى طالما كانت تدخل دائمًا إلى فضاء التواصل مُتسلِّحةً بالتبرئة أو الإدانة وفق انحيازات مُسبقة. أفرزت الجلسة المشحونة فيوضًا من القراءات والتحليلات والأفكار؛ لكن أبرز ما أفضت إليه أننا على مرمى حجرٍ من اللقاء؛ لا سيما لو رفعنا العقلانية فوق العاطفة، والتشاركية فوق الاستقطاب، وسلكنا طريقًا مُشتركةً يُسيِّجها العلم والإلمام الحصيف بالمسائل، ولا يُخالطها حصى المُزايدة والمُناكفة والاستعلاء.
 
 
إزاء تلك التجربة.. يكون السؤال الراهن، وفى قادم الملفات: كيف ننتقل بالقضايا من حيِّز المُشاحنة والشعبوية، إلى مدار التلاطف والدرس الجاد والعميق؟ ما يصلح فى سباقات الصناديق وصراعات الانتخابات، قد لا يصلح فى حلقات النقاش، وقد لا يكون مطلوبًا بينما نتلمَّسُ السُّبل صوب مُقاربات جامعة، تُرمِّم الشقوق بدلاً من توسيعها، وتُمهّد التُّربة لموسمٍ جديد من الزراعة، بمناخٍ واحتياجات غير ما تعوَّدنا فى سابق المواسم. بإيجازٍ؛ ربما تكون أُولى مهام المُتحلِّقين حول الطاولة أن يُعيدوا برمجة الأجندة الخلافية، وينتقلوا بالموضوعات من الدعائى إلى الفنِّى؛ أوّلاً لأن منصَّة الحوار معنيّة بإرساء حالة إجماعية تجاه سياق استثنائى، وليس ترسيم ميدان المُنافسة على السُّلطة أو الشعبية؛ وثانيًا لأن المُكاسرة خارج المنطق قد تُهلك أبدان الأيديولوجيات لكنها لن تُنضج خطاباتها؛ ثمَّ إنّ تأطير الموضوعات بسياجٍ من الفلسفة والإقناع والطَّرح المُتماسك، أيسرُ فى إنتاج حالة التوافق، أو فى إحراج الرؤى الخفيفة وأصحابها، والأهمّ أنه أضمن وأوثق فى استخلاص مُخرجاتٍ قابلة للإجراء، بغرض الاستفادة من إلزاميّة التعهُّد الرئاسى يإنفاذ المُقترحات التوافقية، فى نطاق سُلطة التنفيذ أو مسارات التشريع، دون قيدٍ أو شرط.
 
 
طبعًا ليس المقصود التخلِّى عن الثوابت الفكرية، ولا مُناورة الأحزاب لأيديولوجيّاتها والالتفاف على قواعدها؛ إنّما أن يتحوَّل الخطاب من النفى والاستبعاد المحكوم بصدام الأجندات، إلى التعمُّق المُحايد فى البرامج، والردّ الهادئ بالبدائل. شريطة أن يكون المسار مضبوطًا بمعايير الصَّنعة ومُحدِّدات العلم والتخصُّص. إبراء الذمة بالرفض لا يكفى لإنضاج حضور فاعل، والشَّطب على السياسات والإجراءات بعناوين انفعالية تُغازل العوام وتستهدف تعميق الاصطفاف الجبهوى؛ لن تُرتِّب الفضاء العام على الوجه المأمول. إننا نحتكم إلى حوارٍ وطنى تحت سقف الدولة، وفى رعاية رأس سُلطتها التنفيذية، ولسنا بصدد مُؤتمر انتخابى غايته الحشد وترصيص الصفوف؛ وحتى من ذلك الوجه؛ فإن خُلاصات النقاش وأوراقه يُفترَض أن تُنتج برنامجًا عمليًّا صالحًا للحكم، أو جاهزًا للمنافسة، وقادرًا على إقناع الناخب حال طُرِح أمامه من داخل القاعة أو خارجها. صحيحٌ أن الغرض الأساسى أن تتلاقى النُّخب والفاعلون على أرضٍ مُشتركة؛ لكن لا يصحّ أن يكون ذلك بمعزلٍ عن إرضاء الطموح العام، بمعنى أنه لا يجب أن يحمل كل تيَّار خطابين: واحدٌ للشركاء، والثانى للجمهور.. وحدة الخطاب تتطلَّب أن يكون منظومًا وفق رؤية فنيّة، وأن تتوارى فيها الشعارات قليلاً لصالح البرامج والحلول المنطقية؛ ومن دون ذلك ربما يرى المُتحاورون أن بعض المطروح شعبوى دعائى، أو يرى الناس أن الأحزاب وطلائع السياسة لا يملكون إلّا خطابًا مُستهلكًا، ووعودًا مجانيّةً لا تنتصب على ساقين.
 
 
يفرز الناسُ رموزَهم وطلائعهم. المجتمع المدنى فى أحد تعريفاته يتقصَّد ملء المساحة بين الدولة والمواطن، ما يشمل الأحزاب والنقابات والجمعيات الثقافية ومُؤسَّسات الفِكر والبحث. تتشكَّل النُّخبة من تلك الضفيرة العضوية؛ لتُمثّل المجموع وتنوب عنهم، وتكتسب قيمتها المعنوية وفاعليّتها المادية من حجم اتصالها بالقواعد، لا من مُفارقتها إلى أبراجٍ عاجيّة مُنعزلة. هكذا لا تكون الريادة وجاهةً، ولا تحلُّ الوكالة بديلاً عن صاحب الحقِّ الأصيل، ويُصبح التزام الفاعلين فى البيئة السياسية والاجتماعية، على تنوُّعهم، أن يتلقّوا رسائل الشارع، ويرفعوا إراداته إلى مُرتقى ينقلها من الخِفَّة للجدّية، ومن العاطفة للعقل. تحت سقف تلك المسؤولية، قد لا تكون موهبة الخطابة بديلاً عن شرط التفكير، ولا يُكتَفَى برفع الشعارات من دون برامج حقيقيّةٍ صالحةٍ لحَسْم النقاشات النخبوية، تمهيدًا للنزول إلى الناس من جديد مُغلّفةً برسالة استجابة لشواغلهم. لن يشعر الشارع بجدّية الخطاب ما لم يستقبل رسائلهم باهتمام وإنصات، ولن يستشعر استقامة المُمارسة ما لم ترتدّ الرسائل بأفكار مُخلصة، وخُطط عمل مُتقنة، وحياكة حصيفة لا يتفسّخ النسيج فيها، ولا يغيب عنها التدرُّج التنفيذى المُنضبط والمحسوب.
 
 
فى جدال «الدَّين العام» لم يخلُ الأمر من مُفارقات.. مُمثّلون عن المُعارضة قالوا كلامًا من قاموس الحكومة، ومُؤيِّدون ووجوه من الأغلبية طرحوا رؤىً أكثر تشدُّدًا وانتقادًا. ذهب البعض فى تفسير ذلك مذهبًا سطحيًّا، فقالوا إنه ينطوى على تناقضٍ صارخ، أو سيولة أيديولوجية، أو مُراوحة بين التهوين والتهويل بشىء من ادعاء البطولة وحُبّ الظهور. الحقيقة، وبعيدًا من جوهر الآراء نفسها؛ كان التعارض تعبيرًا عن حالة ناضجةٍ، تتقدَّم فيها المُمارسة الفنيّة الواعية على اندفاع المشاعر، وحركيّة التموضع بين الخيارات على الترسيم التقليدى للمواقف السياسية. لا يشير ذلك فقط إلى مُشتركاتٍ قابلة للتَّوسعة نحو التوافق، ولا إلى تحلُّلٍ من قيود النظريات والصراعات الصفرية بين الانتماءات الحزبية ومدارس الاقتصاد؛ إنما من دلالاته المُهمّة أنَّ عقلاً سياسيًّا جديدًا يتشكَّل فى فضاء الحوار، وبات فيه من الديناميكية والتحرُّر ما يسمح ببناء التفضيلات على قاعدة معرفية، وليس وفق التزام أيديولوجى جامد، وكان مُعتادًا فى تراث السياسية وأدبيّاتها أن يفرض شروطًا مُسبقة على حدود التقارب مع الآخر، أو التسامح فى المسائل الخلافية. حتى لو لم تُثمر الحالة وِفاقًا جامعًا فى مسألة الديون والاقتراض، أو غيرها من المسائل؛ فإنها تُبشِّر بنهجٍ صالح للتعميم فى بقية العناوين، ما يقود إلى تخفيض حرارة التشابك السياسى، وتعبيد مساراتٍ ضامنة للتعايش الهادئ والتنافس الشريف.
 
 
فى الوقت الحالى، تنتظم أجندة الأسبوع الثانى من الجلسات النوعية؛ بعدما جرى التوافق على السَّير المُتوازى بين النقاش العام، وإفساح مجالٍ للخُبراء والفنِّيين من أجل صياغة المُقترحات وتنظيم المُخرجات. شهدت الجولات السابقة توافقات نهائية سهلة فى قضايا حيويّة، لعلَّ أبرزها مسائل الوصاية والهُويّة ومنع التمييز وغيرها، وما تزال موضوعات أخرى مثل المحلِّيات ونظام الانتخاب وعمل الأحزاب محلَّ جدل. ليس مطلوبًا أن تُفضى اللقاءات المُوسَّعة أو التخصُّصية إلى برامج نهائيّة جامعة؛ وإن كان الغرض من الحوار أصلاً بناء الإجماع المطلوب لتصفير تشقٌّقات الماضى، والذهاب صوب مُنازعة سياسية مُنضبطة بالقانون والتكافؤ واعتبارات المصلحة العامة؛ لكن يظل أثمن ما يُقدّمه المُتحاورون للدولة والمجال العام والمجتمع بصورته العريضة، الخروج من حالة «حوار الطرشان» واعتزال القوى والتيَّارات لبعضها، إلى مناخٍ مُنفتح يُعزّزه التفاعل المُؤسَّس على قبولٍ مُتبادلٍ، وتسامحٍ حقيقى مع تنوّع الانحيازات والأولويّات. حتى اللحظة، تُنجز المنصَّة الحوارية ولجانها وجُموع المنخرطين فيها مهامّهم المطلوبة بتوازنٍ واقتدار. مَن يرون المشهد من زاوية صحيحة يدفعون العربة على طريقها الطويل الشاق، ومَن يختزلون تعقيدات الواقع والتاريخ، ويتهرَّبون من مسؤولياتهم، قد يتورَّطون فى رؤى صراعيّة لم يحن أوانُها بعد، ولن تُدار مُستقبلاً بمنطق التشنيع والشَّطب المُتعسِّف على الخصوم. لعلَّ التجربة شاقّة؛ لكن رسالتها المُتجدِّدة أن العقل ما زال قادرًا على حماية موقعه داخل كل التيَّارات، وأن من استثمروا قديمًا فى الجنون والفِتنة وتقطيع الوشائج، قد لا يجدون منفذًا إلى المستقبل الذى يطمعون فيه، ولا قناة خلفية لإغراق الشارع فى حساباتهم الضيِّقة، وصراعاتهم المُستجلَبة من سياقٍ قديم، لا بديل عن أن يتجاوزه الزمن.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة