محمد حبوشه

رحيل عم شوقى حجاب.. الطفل الكبير المحب للحياة

الجمعة، 04 أغسطس 2023 07:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فارق الحياة قبل 10 أيام، الشاعر الغنائي المصري المخضرم "شوقي حجاب" شقيق الشاعر الكبير "سيد حجاب"، وذلك بعد صراع طويل مع المرض، عن عمر يناهز 77 عاما، ليترك الشاعر الكبير صدمة شديدة وحزنا بالغا في نفوسنا نحن محبيه، وفي نفوس زملاؤه من الوسط الفني ومعجبينه من الجماهير، كان الشاعر الكبير تعرض خلال الفترة الأخيرة إلى أزمة صحية، ألزمته البقاء فى غرفة العناية المركزة بأحدى مستشفيات 6 أكتوبر، ثم ساءت حالته الصحية هناك حتى رحل عن عالمنا مستريحا من عناء المرض الذي شهورا قبل الرحيل، وهو الذي ظل متكأ على أريكته المفضلة بشقته في الدور الأخير (10 شارع نجيب الريحاني)، تلك الشقة التي تركها له شقيقه الأكبر الشاعر سيد حجاب منذ أكثر من 30 عاما، وهى ذاتها الشقة التي كانت استراحة خاصة للملك فاروق في وسط البلد، حيث شهدت سهراته في الزمن الجميل.
 
ساقني القدر قبل رحيل العظيم "شوقي حجاب" للقائه مع بعض الأصدقاء، قبل أن يذهب في رحلته الأخيرة بشهر ونصف تقريبا إلى المستشفى، وعلى الرغم من الحزن النبيل الذي كان يكسو جبهته كان لقاءا حميميا، فبدا كعادته بشوشا لاتفارقه ابتسامة طفولية وهو نفسه الطفل الذي بلغ من العمر عتيا، صحبنا لأكثر من 6 ساعات في أحاديثه المفعة بالشعر والحكي اللذيذ، عن حياته المتسعة بطول الأرض وعرضها، وراح يحكي لنا مغامراته وتجاربه الثرية في الفن والثقافة ولايخلو الحديث من أن يعرج على السياسة، تلك التي قرر ألا يخوض في غمارها في نهاية العمر، وظل "عم شوقي" يحدثنا عن صداقاته في الفن والشعر والسينما والدرما، ولاحظت بريقا خاصا عندما كان يتوقف بين الحين والآخر عند عالم الطفولة الذي صنع فيه صروحا من خياله عبر شخصيات نحفظها جميعا عن ظهر قلب.
 
في البداية حدثنا عن الشاعر العراقي الكبير عبد الوهاب البياتي عندما زاره في نفس الشقة، فور قدومه إلى مصر كلاجئ سياسي وكيف فتح له أبوبا للنشر في كبريات الدوريات العربية التي كانت تجزل العطاء في ذلك الزمن الجميل، وفي فكاهة معهودة من جانبه حكى لنا "عم شوقي" عن سهراته وجولاته في القاهرة مع البياتي الذي كان يهوى السير في شوارع القاهرة ليلا متأملا النجوم في سماء مصر الصافية آنذاك، وكيف كانت مخيلتهما تداعب القمر في الليالي الجميلة وهما يتناجيان ويتنافسان على قرض الشعر، البياتي بالقصيدة الفصحى وحجاب بالعامية المصرية التي كان يعشقها البياتي من فرط تلقائيتها التي كانت تأسر قلبه وهو يسمع عم شوقي بينما النيل يجري في عذوبة ودعة.
 
في تلك الليلة  توقف الفضول الصحفي عندي جراء متعة الحكي من آخر حكائي المعتبرين في مصر، فقط سألته سؤال بحكم انتمائنا سويا للدقهلية: كيف كانت النشأة ياعم شوقي ومن الذي أثر في وجدانك الشعري، قال وبريق عينيه يذادا تألقا كأنما أرجعته إلى زمن دافئ بالمشاعر الفياضة،عزيز على قلبه، ولمحت دمعة تسكن الجفن المتعب، أسند عم شوقي حجاب يده على ثلاثة من الوسائد القطنية المتراصة فوق بعضها - هكذا كانت جلسته المفضلة - حيث يرى الآمان والطمائنية في الركن الأيسر من الأريكة العتيقة، وقال: ولدت في محافظة الدقهلية كما تعرف عام 1946 ومع شقيقي الشاعر الراحل الشهير سيد حجاب، عشنا في كنف أب أزهري كان يكتب الشعر ويقتني الكتب ويعشق الثقافة، وأم متعلمة تقرأ وتمتلك خيالا خصبا وتراثا من الأمثلة الشعبية والحواديت والحكايات، وعلى يد أبيه تعلمت عروض الشعر وتعرفت على مكتبته، وقد ساعدني بالطبع على الاتجاه لكتابة الشعر كل من أبي وأخي الأكبر الشاعر المعروف سيد حجاب.
 
ويضيف عم شوقي: "كان منزلنا دائما به الكتب والجرائد والمجلات التي يحرص الأب على توفيرها، كما تأثرت بأمي السيدة البسيطة التي تحمل ملكات فطرية كثيرة مثل الحكي والتقليد واستحضار الأمثال الشعبية في المواقف المختلفة، إضافة إلى قدرتها الفائقة على إدارة منزل به 9 أطفال، هم أنا وإخوتي، حيث كان ترتيبي السابع بينهم، وكتبت عنها قائلا: (أمي دهي اللي عيونها بتسقي العالم محيطات شربات.. وحنانها يفرش كوكب فيه نهرين وسبع قارات)، وكان كل أهالي القرية متذوقين للشعر والغناء بالفطرة من خلال الأغاني الشعبية المصاحبة لكل الأحداث، مثل الزواج والإنجاب والسبوع والحج، فكنا أغنياء جدا فلكلوريا إضافة إلى فلكلور ألعاب الأطفال، حيث كنا نلعب في القرية ألعابا ذهنية وحركية بسيطة، فأحمل طفولة ثرية جدا.
 
ومن المفارقات التي ذكرها "عم شوقي" عن طفولته قوله: إني قد ولدت في عام 1946 وكان يطلق عليه زمن الكوليرا، وكانت وباء قاتلا قضى على كثيرين، كما شهدت تلك الفترة نهاية الحرب العالمية الثانية وإرهاصة حرب فلسطين عام 1948، ومن بعدها قامت الثورة في يوليو (تموز) من عام 1952 فكانت هذه الفترة مليئة بالأحداث السياسية وثورة 1952 كانت انطلاقة كبيرة لجيلنا، لأنها أدخلت ما يسمى مجانية التعليم وبدأت في إنشاء مدارس ومستشفيات وأحدثت نهضة كبيرة، وهذا لا يمكن إنكاره سواء اتفقنا أو اختلفنا مع ثورة يوليو، فالديمقراطية كانت قبل الثورة للأغنياء والمتعلمين فقط، ولكنها ليست لعامة الشعب.
وبسخرية ممزوجة بالضحك القادم من القلب حدثنا بغير خجل عن تجربة الاعتقال في سن صغيرة والدخول في معترك الأحداث السياسة، وقبل أن يبدأ في الحكي قلت له هنا لابد لنا أن نعرف كيف يمكن أن تؤثر تجربة في الكاتب أو الشاعر وهل تثقل تجربته الشعرية؟، أسند ظهره للأريكة متخليا عن الوسائد الثلاثة، وقال: عندما تم اعتقالي أثناء دراستي بالمدرسة الثانوية وكنت رئيسا لاتحاد الطلبة في ذاك الوقت كنت أكتب الشعر ليلا حيث كنت معتقلا في حجرة ناظر المدرسة بعد أن تم التوسط لي حفاظا على مستقبلي ودراستي فكنت أحضر صفوفي الدراسية نهارا وأعود إلى غرفة ناظر المدرسة ليلا واستمر هذا الوضع قرابة الثلاثة أشهر، وكنت أستغل هذه الفترة في كتابة الشعر الذي أقرأه على زملائي صباحا في طابور الصباح، ومن المفارقات أني اعتقلت بتهمة الانتماء للشيوعية، وهى تهمة باطلة تماما إلا أنها أزعجت والدي كثيرا، فكيف للرجل الأزهري أن يتهم ابنه بالانتماء إلى اتجاه لا يعترف بالأديان من الأساس، وبلا شك فإن أي تجربة يمر بها الشاعر تضيف له خبرة حياتية وتثقل تجربته الشعرية.
 
وكأنني نأكت جرحا قديما في القلب الذي شغله شغف الريف والخضرة والوجه الحسن - بحسب تعبيره - طوال حياته من شمال الدلتا إلى القاهرة، فقد ظل يسرد علينا حكاياته عن نشأته الأولى، وكيف كان الريف في أربعينيات وخمسينات القرن الماضي مصنعا للرجال والخيال الخصب الندي، تعلم على يد أبيه عروض الشعر وتعرف على مكتبته، وقد ساعده على الاتجاه لكتابة الشعر كل من أبيه وأخيه الأكبر الشاعر المعروف سيد حجاب، ورغم كتابته الشعر والأغنية للكبار، وسرعان ما وصل إلى محطته المحببة إلى القلب قائلا: إلا أن الكتابة للطفل لها النصيب الأكبر في اهتماماتي، ومع ذلك تميز إبداعه في مجال البرامج والدراما التلفزيونية وكذلك في مسرح الطفل، درس أيضا الإخراج بمعهد السينما ومارسه.
 
لكن يبقى الطقل شاغلا لخياله فقد ابتكر شوقى حجاب العديد من شخصيات العرائس للأطفال والتى لاقت نجاحا كبيرا، منها شخصية "أرنوب" وهو قفاز أصفر مصنوع من التريكو وله أذنان ويجسد شخصية الأرنب كثير الأسئلة، فهو يسأل الناس من حوله ببراءة شديدة ويتكلم بصوت الفنان "طلعت عطية"، ثم قدم شخصية "دبدوب" وهو قناع كامل يرتديه الفنان سيد محمد ويجسد به شخصية دب طيب القلب، يفاجئ المحيطين به بأفعاله وأفكاره وكان هذا الدب يحمل معه دائما صندوقا يضع به أشياء متنوعة، وشخصية "دقدق" وهو خيال مآته لشخصية غير مصرية ابتكرها شوقي، تحلم دائما وتكره أن يعاملها الناس كخيال مآته، وتتمنى أن يتعاملوا معها ككائن له قيمة وشخصية محترمة.
 
وشخصية "ضاضا العضاضة" وهى فارة قراضة تخطف أى شيء من حولها وتحاول أن تبدو فى منتهى البراءة، وشخصية "الغزالة لا لا"، بطلة لمسرحية تحمل اسمها، وهى عبارة عن عروسة من القفاز، تعيش فى مجتمع متخلف لقبيلة متزمتة، تحرم السهر والغناء والتعليم والكهرباء، والشخصية الأشهر في عالمي الطفولي "بقلظ" وهو شخصية لطفل يشبه الطفل الإيطالى بينوكيو الذى تمدد أنفه ويزداد طوله كلما كذب، صنعه على هيئة أراجوز مصري، وغيرها من الشخصيات مثل "بسبس هو، فركش وفرفوشة، كوكى كاك".
 
كانت تجربة الشاعر شوقي حجاب في الكتابة للطفل واحدة من أبرز تجارب الكتابة للطفل وأكثرها تنوعا، حيث تضمنت القصة والأغنية والمسرح وابتكار شخصيات من أكثر الشخصيات التي لاقت نجاحا عند جيل السبعينيات حتى التسعينيات، والتي شكلت ذكريات الكثيرين، وربما يمكن أن نقول إنه لم يأت من بعدها من حقق نفس النجاح والانتشار، إضافة إلى مشاركاته في بعض البرامج العالمية التي حققت نجاحا كبيرا وأنتجت بالعربية، مثل "عالم سمسم".
 
وعن هذا الأمر قال لنا عم شوقي: عندما جئت للقاهرة كنت في عمر 18 سنة وقريبا من الطفولة ولديّ ثقافة ثرية بالفن والفلكلور والخيال، ولم يكن دخولي لهذا الأمر مخططا له، فتعرفت على إبراهيم عبد الجليل، مسؤول برامج الأطفال بالتلفزيون المصري، وقدمنا برنامج "عصافير الجنة" مع أهم مذيعة في التلفزيون المصري في هذا الوقت "سلوى حجازي"، ونجح الأمر نجاحا كبيرا كما ساعدني صديقي الشاعر مجدي نجيب في الكتابة لمجلات "ميكي، وسمير"، وحقق الأمر نجاحاً، وفي البداية كانت مجرد تجربة ولكنها بعد ذلك أصبحت الطريق والقضية الأساسية، لا بد أن ندرك جميعا أن الطفل هو أساس أي وطن وهو التصنيع الثقيل لأي دولة لأنه تصنيع الإنسان.
 
وفي حديث ذو الشجون أكد لنا عم شوقي أن الطفل هو الطفل في أي زمان ومكان، فالأطفال يولدون لديهم فضول ورغبة في الاستكشاف والمعرفة بحسب زمانهم ومكانهم، ولكن ما يختلف هو الظروف التي يوجد فيها الطفل ومدى اهتمام الأم والأب باحتوائه واستكشاف مواهبه وتنميتها أو وأدها منذ البداية، وهذا يعيدنا مرة أخرى إلى نقطة الوعي، فكم من مواهب دفنت نتيجة لإهمال آباء وأمهات وعدم اهتمامهم، وكثير من المواهب ظهرت نتيجة وعي سيدة فلاحة بسيطة ربما تكون لا تقرأ وتكتب ولكنها تملك الوعي، فكثير من المبدعين في مصر جاءوا من خلفيات بسيطة، وبشكل عام الظروف الآن أفضل بفضل وجود التكنولوجيا الحديثة التي من المفترض أنها تسرع من عجلة المعرفة.
 
رحم الله عم شوقي حجاب، الذي سنفتقد داعباته وألقه الطفولي البرئ، وهو القائل: (أنا إيه أكون من أول الدنيا.. لآخر الآخرة؟.. أنا طبعا البسمة والطبع والرسمة!.. وإن كنت شيء في الدنيا له لازمة.. الدنيا مش فانية".. فعلا الدنيا مش فانيا ياعم شوقي طالما زينها أمثالك بإبداع لايفني بمرور الزمن والأيام، ويبقى أثر هذا الراحل العظيم من خلال استعراضات شعبية وأخرى للأطفال وبرامج عديدة كانت من علامات التليفزيون المصرى، فهو أحد كبار شعراء العامية المصرية، ومخرج مسرحى عظيم، وفنان شامل محب للحياة.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة