أكرم القصاص - علا الشافعي

أحمد إبراهيم الشريف

صندوق الرمل... الألم والجمال معاً فى كتابة عائشة إبراهيم

الأحد، 05 فبراير 2023 10:41 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أجمل الروايات تلك التي تلبس روحك فلا تتركك أبداً، تلك التي بعدما تنتهي منها تضحك أو تبكي، تلك التي تصدقها تماماً فتدعو لأبطالها أن ينجو من نكباتهم، وتكره أشرارها وتتمني أن يأخذهم الله ويموتوا شر ميتة، وقد فعلت بي رواية «صندوق الرمل» للكاتبة الليبية عائشة إبراهيم ذلك وأكثر، فقد جعلتني أسير في الشارع محتقنا بالدمع عاجزا عن الكلام، بعدما تمنيت أن تنجو «حليمة» من نكبتها ومرضها، وأن تأتي صاعقة من السماء فتقتل كل جيش الاحتلال الإيطالي لكن ذلك لم يحدث.
الألم والجمال معاً، هذا ما شعرت به بعدما انتهيت من قراءة الرواية المرشحة في القائمة الطويلة لجائزة الرواية العربية (البوكر) وهي جديلة استطاعت عائشة إبراهيم أن تقدمها بحرفية شديدة، تحكي الرواية عن جيش الاستعمار الإيطالي الذي جاء في بدايات القرن العشرين كي يحتل طرابلس، تلك التي أطلق عليها أحد المفكرين الإيطاليين بأنها «صندوق رمل»، لكن القيادات هناك كانت تبحث عن شيء خطير عن تمدد استعماري، فالأمة الإيطالية كما يطلقون على أنفسهم راحت تفتش في ماضيها الاستعماري فتذكرت «طرابلس» وتحركت من منطلق أنها «الفردوس المفقود»، تعامل الإيطاليون على أساس أن طرابلس امتداد لهم، وأنها ليست حقاً لأهلها، وما أدراك ما نظرتهم لأهلها يكفى أن أنقل لك قول أحد كتابهم في تلك اللحظة كما ذكرته الرواية «إن العرب مثل طفل شقي أعطه قليلا من الحلوى واجلده بالسوط».
أحسنت الرواية كثيرا إذا نقلت لنا وجهة نظر الإيطاليين كيف كانوا يفكرون في طرابلس والعرب أو «السكان الأصليين» حسبما كانوا يطلقون عليهم، إنها نظرة مقيتة تذكرنا بنظرة الاستعمار إلى السكان الأصليين لأميركا، جاء الإيطاليون كي يقتلوا الجميع، ولعل ما حدث في «مذبحة المنشية» من أوجاع وآلام من قتل مجاني ونفي لمن تبقى وهو ما نقلته الرواية بكل ألم كاشف عما حدث، كل شيء انتهى حتى أن أم حليمة قالت لها وهي تموت مقتولة على يد جندي إيطالي «حليمة، حليمة، الموت هي الستارة» أي أن الموت هو الستر في ظل هذا الخراب.
لا تأتي قوة الرواية من قصتها فقط، لكن من بنائها الفني أيضاً، فقد منحت عائشة إبراهيم مساحة كبيرة لشخصية إيطالية هي «ساندرو» وهو جندي إيطالي تتبعت حياته منذ البداية، وحتى بحثه المضني عن «حليمة»، ومن خلال شخصية «ساندرو» استطعنا أن نعرف الكثير عن إيطاليا في بدايات القرن العشرين وما قبلها، عن الصراعات الداخلية، عن النزعات العنصرية، عن الفقر والعوز وفي الوقت نفسه عن البزخ والترف، عن كيف تفكر الأنظمة في إلهاء الشعوب بإحياء أفكار دموية قاتلة، وصناعة الوهم حيث أرسلوا مائة ألف جندي وقالوا لهم ستذهبون للحقول والبساتين في طرابلس لكنهم لم يجدوا سوى الرمل والرمل، تكشف لنا شخصية ساندرو رؤية الغرب للشرق، إنهم لا يروننا أبدا، هم يظنون وجوهنا تشبه وجوه الكلاب كما تقول الرواية، عن القتل بدم بارد للأطفال والنساء، عن حفلات الإعدام، ولك أن تتخيل أن الجنود في الصباح يغنون أغنية عنصرية تقول «أماه صل ولا تبكي، بل اضحكي وتأملي/ ألا تعلمين أن إيطاليا تدعوني؟ وأنا ذاهب إلى طرابلس فرحا مسرورا/ لأبذل دمي في سبيل سحق الأمة الملعونة/ ولأحارب الديانة الإسلامية/ سأقاتل بكل قوتي لمحو القرآن» ومع ذلك قدمت الرواية «ساندرو» ضحية لكل ذلك، إنه يتألم ويريد الخروج من ذلك الوحل لكنه لا يستطيع.
ومن الناحية الأخرى تحدثنا الرواية عن «حليمة» رحلة من الطفولة والمحبة إلى الألم والمرض والموت في المنفى، إنها «ليبيا» نفسها، حيث النقاء والجمال والمعاناة أيضا، فمن خلال حليمة تعرفنا على الشخصية الليبية بقوتها غير المتوقعة وبطيبتها وتحملها، عن عدم تخليها عن مسؤوليتها حتى النهاية، وعرفت عائشة إبراهيم كيف تحببنا في حليمة وتحولها إلى رمز.
كان للقدر في الرواية أن يلعب دوره القاسي فساندرو الذي أعجب بحليمة في البداية هو الذي أجبره الضابط الإيطالي على قتل أمها، وأخذها وشقيقها الطفل «حمد» للمنفى في سجون قميئة في مشهد مهم جدا يدل على ما تفعله الحرب في العلاقات، إنها تدمر كل شيء، وتكشف عن همجية الغرب وقساوة قلوبهم، لذا ظل ساندرو مثقل القلب حزينا للنهاية، وظلت حليمة لا تسامحه أبدا عندما رأته وهي تحتضر غمغمت في حشرجة خشنة «لقد جاء... جاء» تشبث فاليرا بطوق كلماتها وسألها بتفاؤل «من هو؟» غمغمت «الطلياني الذي قتل أمي».
إن الرواية حافلة بالمشاهد الكبيرة فعلا، حتى أن مشهد ولادة امرأة حامل تحتضر في سفينة النفي لم يغادرني حتى الآن، النساء يساعدنها على الولادة كي ترتاح من العذاب وتموت، وعن نفسي لم أتخيل ما حدث للشعب الليبي من معاناة، وقد أجادت عائشة إبراهيم في استنطاق التاريخ وإعادته مرة أخرى للحياة.
إن «صندوق الرمل» رواية مهمة من حيث المبنى والمعنى، فقد جاءت في لغة رشيقة جميلة شيقة تجعلك تشعر بالألم والجمال معا.








الموضوعات المتعلقة

الدكتور محمد عبد المطلب والسياق

الأربعاء، 01 فبراير 2023 09:48 ص

علام عبد الغفار

الثلاثاء، 24 يناير 2023 01:21 م

المدفع .. أو طريقة التفكير العلمي

الخميس، 19 يناير 2023 12:05 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة