حازم حسين

رصاص المحتل وثقوب المقاوم.. أسئلة التحرر من الجنون والابتزاز فى مأساة غزة

الخميس، 07 ديسمبر 2023 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تبخَّرت الآمال التى بشَّرت بها هُدنة غزّة الموقوتة، وعادت الحال لأسوأ ممّا كانت عليه. تفجّرت الصفقةُ لأنّ طرفيها أرادا توظيفها خنجرًا فى الحرب؛ لا فاصلاً للتفتيش عن المخارج بنِيَّة صافيةٍ لتنقية غبار الميدان. لسنا بوارد الحياد بين القاتل والقتيل، ولا قسمة أباريق الدم بأنصبةٍ مُتساوية؛ لكنَّ عاطفة المحبّة العمياء، والكراهية ولو كانت مُستحقَّة، كافية دومًا لأن تطمس الدلالات التى تستوجب الفهم، وأن تُمدِّد مضمار الارتباك ومُطاردة السراب.. وقعت الواقعة، ولا فائدةَ من البكاء على الأطلال؛ إنما استيعاب لُغة الريح يظلّ شرطًا لاتّقاء العاصفة. والثابت أن كلَّ ما فات قد يكون مُجرَّد تمهيد، وأن الحوادث ربما تُكرِّر نفسها، وتستولدُ مزيدًا من الامتحانات القاسية؛ ليتفاجأ الجميع بأنهم على موعدٍ مع نزالٍ أحمى وطيسًا، وخيارات أقتم وأشدّ إثخانًا وضربًا للرقاب.
 
قيل كل ما يمكن أن يُقال بحق إسرائيل. إنها المحتل الغاشم، والسفاح النازى الوقح، والعصابة التى صارت دولةً بالاحتيال والمُؤامرة. أما وقد عرفنا العدو وأحطنا بإجرامه عِلمًا؛ يحقّ السؤال عن عُدّة المواجهة وسيناريوهات الكرّ والفَرّ. وممَّا يُؤسَف له أن كل الشبهات تُطرَح فى عَرض الطريق داخل تل أبيب، ولا تخلو مُداولات الرأى العام من نقدٍ يتجاوز الوَصم والتجريح؛ بينما يُرَاد فى البيئة العربية أن يُكنَس رُكام البيوت تحت سجاجيد الإجماع؛ فارسيَّةَ الصُّنع كانت أو مُوشاةً بنكهةٍ سُنيّة، دون اعتبارٍ لأن الخراب أكبر من الإخفاء، ولا أنّ قوالب الإرهاب شُموليّة الطابع، سواء تلبَّست عباءة القوميّة أو الأُصوليّة الدينية؛ إنما تخصمُ من التنوُّع، وتُبقِى الشروخ على حالها دون ترميم؛ والأدهى أنها تضع البيضَ كلَّه فى سلَّة الثعلب؛ فلا يعود فى حاجةٍ لسرقته أو الاجتهاد فى تهشيمه؛ بعدما تعهَّد الدجاج الساذج تيسيرَ المهمّة.
 
كانت القضيةُ جسدًا باردًا لعقدين على الأقل، وما فعلته الفصائل فى «غلاف غزّة» قبل شهرين أنها جدَّدت فيها النبضَ بصعقةٍ كهربائية؛ لكن المسافةَ ضئيلةٌ للغاية بين إنعاش القلب أو إسكاته. الحماسةُ التى تمايلت الجموع على إيقاعها كانت تستبقُ الأثرَ والتثبُّتَ من عودة العمليات الحيويّة. فى المُقابل كان مِرسال الموت يغرز إبرته الغليظة ويسحبُ جالونًا من الدم؛ وما زال الثلاثة فى غُرفة العناية المُركَّزة: طرفٌ يطلبُ الحياةَ ولا يستطيع إليها سبيلا، والآخر يُعاين الفرصة التى يراها تاريخيّةً لتشييع الجنازة، وبينهما فلسطينُ العاجزة حتى عن الأنين.
 
تعلَّلت آلةُ الاحتلال بالطوفان لتدُكّ غزّة على رُؤوس أهلها، وراهنت «حماس» على شراء الوقت تحت ظلّ المخابئ. المُتغيِّر الغائبُ عن حِسبة المقاومة أن حُكَّام الصهيونية كانوا فى مَزنقٍ خانق ويبحثون عن مَهْرب، وأنّ لديهم خططًا مُؤجَّلة يُوقنون أنها لن تمرّ إلّا فى الزحام، والغرب تَداعى إلى مجلس الحرب تَطوُّعًا؛ فما عاد الرجوعُ طَوع يديه ولو أراده. وسواء كانت الهجمةُ فى مِخيال «السنوار» كما جرت، أو كانت أضيق وأغراهم فشلُ العدوّ بتَوسعتها؛ فالنتيجةُ أنهم وُضِعوا على المذبحِ عُراةً من المظلوميّة وعناصر القوّة. صحيح أننا ندين لهم بالقٌربى واللغة والاعتقاد، ونحفظُ سرديَّتهم العادلة فيما بيننا على خريطة مأزومةٍ إلى النخاع؛ لكنّ الفاعلين بالقوّة وابتلاع المنظومة الدولية يرون غير ما نرى، ولا يقول المنطق أن نُسلِّمهم من الأوراق ما يُجهزون به على ما تبقَّى لنا من الأحلام!
 
تلاقت الإراداتُ الكاسرةُ على اختزال الصراع فى عملية الغلاف، وفصل غزّة عن جُغرافيا ما قبل عدوان يونيو 1967، وأن يكون السابع من أكتوبر ميلادًا جديدًا للمواجهة. ومن وراء ذلك رأى الغربيِّون أنّ الهجمةَ طالت أرضًا إسرائيلية، والقطاع ليس مُحتلاًّ ليكون مَوضع مُقاومة. وإذا أضفنا تصنيف أكثريّتهم لحماس فصيلاً إرهابيًّا؛ فلا يعود المشهدُ فعلاً تحرُّريًّا ولا حربًا مشروعة. إنه تكييف منحاز بالضرورة؛ لكن الضعيف مُطالَبٌ دومًا بإقامة الحجّة وتقديم المُبرِّرات. فماذا لو كانت الضفَّة موصولةً بالشريط الضيِّق على ساحل المُتوسط، ولم يُستَبعَد الوجهُ السياسى صاحب المشروعية والاعتراف، مُمثّلاً فى مُنظّمة التحرير ومرافقها، بكلّ ما عليها من مُلاحظات، هل كانت لُعبة المُحتل ورُعاته ستمضى إلى إحراز الأهداف بكل تلك السهولة والتبجُّح؟!
 
فاوضَ «نتنياهو» على التهدئة بنِيَّة الحرب. أراد أن يلتقط الأنفاس ويُقيِّم الأداء ويُعيد برمجة الخطّة العسكرية، وقبل ذلك أن يمتصّ سُخونة الجبهة الداخلية بإطلاق مجموعةٍ من الأسرى. الفصائل للأسف لم يكن لديها هدفٌ إلّا كَسب الوقت، وتعبئة مخزونها، وإفساح مُهلة إضافية لتحوُّلات المِزاج العالمى. وعندما عاد الاحتلالُ إلى عدوانه من نقطة الذروة؛ فإنه يسيرُ للمستوى الثانى من مُخطَّطه، باتّساع العمليِّات وفَرض منطقِه فى الحُوار تحت النار، ولم يخلُ الأمرُ من ضغطٍ على العصب المجروح فى الإقليم؛ بإعلانه عن سحب الفريق التفاوضى من الدوحة، والتلويح بالجاهزية لعامٍ كامل من التسكُّع فى شوارع القطاع. بدأ السيناريو بتقسيمه إلى جزأين، ثم استُئنِف بثلاثة أجزاء وزهاء ألفى مُربّع سكنى، وإفراطٍ فى صناعة الرعب بالجنوب الذى يقطنه نحو مليون وسبعمائة ألف مُقيمٍ ونازح.
 
يقولون إنهم سيبقون، ثم يستعيضون بحزامٍ عازل وسيطرة أمنيّة. كأنهم يُبشّرون بوضعٍ بائسٍ من أجل إنفاذ نُسخةٍ أقل بؤسًا، على طريقة «الحاخام والخنزير» فى الطُّرفة العبريّة الشهيرة؛ فيُحقّقون غايتهم ويشعر الخصوم بانزياح الهمّ الكبير ويرتضون بهمومٍ أصغر. فلسفة نتنياهو فى ذلك أنه فى لحظة تعاطُفٍ كُبرى، ولديه كلّ ما يحتاجه لابتزاز الحُلفاء، وقد تضرَّرت صُورتهم ولم تعد يقظةُ الضمير مُقنعةً، كما لم يعودوا الوسيط النزيه أو الضامن الجاد فى ميزان العرب. فضلاً على أن زعيم الليكود يرى «بايدن» ضعيفًا وعاجزًا، ويثق فى خبرته الكبيرة مع الإدارات الأمريكية واللعب على تناقضات مراكز القرار. ومن خُلاصات ذلك؛ يُؤمِّن الغطاءَ السياسى ويُحيّد البيت الأبيض وضغوطه؛ رغم كل ما يتردَّد فى خطاب الأخير من ثوابت بشأن الاحتلال ورفض التهجير أو تقليص مساحة غزّة.
 
على كلِّ ما يُساق من خطاباتٍ بيضاء فى فضل المُقاومة؛ فإن السياسة عقلُ السلاح الذى لا غِنى عنه؛ ولعلَّ الحمساويين أنفسهم قد يعجزون عن إنكار أنهم جانبوا التعقُّل أحيانًا. خبراتُ العقود الماضية لم تُترَجم عمليًّا فى أداء الفصائل الأُصوليّة؛ فخاضت معركة 2023 بوعى الانتفاضة الأولى، وربّما أقدم. إنّ الطبيعة المُركَّبة لحماس ووُجوهها المُتعدِّدة أكبر تحدِّيات الانسداد الراهن: هى حركةُ تحرُّرٍ يحقّ لها أن تُجرِّب كل الخيارات، وفصيلٌ سياسىّ يُخاصم اللغة التى يفهمها العالم، ويُريد دولةً من عدوٍّ لا يعترف بوجوده، ثمّ إنها جماعةٌ راديكالية تنفتح على محضنين كبيرين: الإخوان بحلمهم الأُممىّ وبرنامجهم العدائى مع الدول الوطنية بالمنطقة، والمحور الشيعى بما يحمل من نزوعٍ عِرقىٍّ يُغلّفه بغلالةٍ مذهبيّة. وفى غابة التناقضات؛ لم تُوفّر فُرصةً للتورُّط فى أجندات الآخرين، ولا لاستعداء العواصم الصالحة لأن تكون داعمًا أمينًا ومُتجرِّدًا.
 
كثيرون من الطيِّبين و«حَسِنى النيّة» يدعون إلى استيعاب حماس؛ وهذا حادثٌ بالفعل. فقد تجاوزت مصر عن أنشطةٍ عدائية سابقة، واحتضنت قادة الحركة، ورعت ورشةً مفتوحة لمُداواة الانقسام؛ كان إفشالها الدائمُ مُتّصلاً بتنازع الولاية بين غزَّة والخارج. كما أنّ الأردن لم يربطها بمُناكفات إخوان الداخل، وبعض الخليج أغمض عينيه عن الوشائج التى تجمعهم بالحوثيِّين أو حزب الله وبقيَّة ميليشيات الشيعة. بل إن النظام السورى الذى رعاهم وحاربَ بهم دُولَ الاعتدال لم يسلم من انقلابهم عليه، وقد تورَّطوا فى نزاعات الحرب الأهلية تحت ثلاث رايات. وإلى الآن لم يعتذر أىٌّ من أجيال القيادة الثلاثة، ولم تُجرَ مُراجعاتٌ جادّة، ولا قدَّموا إشاراتٍ مُطمئنةً عن النضج وتطوُّر الخطاب والمُمارسة.
 
رغم كلِّ ما فات؛ يحقُّ لهم الدعم ويتوجَّب علينا الإسناد. لكنّ من حقوقهم علينا أيضًا أن يكون النقد حاضرًا؛ بغرض استجلاء المواقف وسدِّ الثغرات. المُقاومة احتياجٌ أصيل ما دامت القضية فى مَسلخ الصهاينة، وهى خندقٌ مُتقدّم لدول الطوق ثم للعرب جميعًا؛ لأن استقرار المنطقة مرهون باستبقاء فلسطين، وبكَفّ الأطماع العبريَّة الساعية للتمدُّد بنفسها أو بإزاحة الفلسطينيين إلى الجوار؛ وإن تجاهل المُنصرفون عن المسألة، بالإهمال أو بأوهام الحلول الاقتصادية والتطبيع المجانى؛ فلن يمرّ عليهم وقتٌ طويل قبل اكتشاف أن جغرافيا الإقليم بكامله مربوطةٌ بالمسافة بين المُتوسِّط وشَرق نهر الأردن، وطالما تردَّد صَوتُ الرصاص فيها فلن تتدفَّق الموسيقى فى تل أبيب ولا فى أيّة عاصمة تتحضَّر للرقص معها.
النظرةُ الموضوعية لا تنفى أن حماس، باعتبارها قائدةَ المشهد الراهن فى غزّة، أخطأت فى التكتيك والاستراتيجية. إن لديها علاقاتٍ شديدةَ التوتّر مع عناصر عربيّة فاعلة، بالسياسة الآن أو بالوفرة المالية وبرامج الإعمار مُستقبلاً؛ ولم يكن الارتماء المُطلق فى الحضن الشيعى خيارًا صائبًا؛ مهما قِيل عن التسليح والتدريب ونقل التقنية. كما أنها ذهبت إلى مُواجهةٍ تتقصَّدُ إشعال جبهاتٍ عدّة فى وقتٍ واحد، ولم تستشر أو تُحذِّر أو تُبقِى قنوات الاتصال نشطةً؛ ثم سار بعضُ قادتها إلى الابتزاز والمُزايدة بمنطق الاستحقاق الكامل، لا الأُخوَّة والعَشَم. إن دولةً كُبرى كمصر يُمكن أن تتفهَّم ذلك، وتتغاضى عمّا فيه من انتهازيةٍ وشُبهات؛ لكنّ دولاً أخرى أصغر أو أقل نزاهةً قد تراه تعريضًا مقصودًا، أو سحبًا عشوائيًّا إلى التورُّط فى المُغامرة أو سداد كُلفتها. وإن كانت الحركةُ تُريد أن تظلَّ عنوانًا للسلاح؛ فعليها أن تترك السياسةَ لأهلها؛ أمَّا لو أرادت مُصادرةَ القضية فلا بديلَ عن التعلُّم، وأن تتصرَّف كسُلطةٍ مسؤولة، بكثيرٍ من الوعى والجدية والتعقُّل، وقليلٍ من الرعونة والنَزَق.
 
يُريد النازيّون الصهاينةُ إبادةَ المقاومة؛ وحبَّذا لو تيسَّر لهم إفناء القطاع بكامله. المحنةُ أكبر من المُكابرة وأدعى لخفض السقوف، والإقرار بأن النهايات المثالية قد تكون مستحيلةً أحيانًا. يتطلَّب الأمرُ مُبادرةً جريئةً لتحريك السياسة، ويتوجَّب أن يكون ذلك بالتفاهُم مع الوسطاء خالصى النوايا. ربما يكون اقتراح ورقة تسويةٍ تتواضع فيها الفصائل قليلاً، أو إبداء الجاهزية لإطلاق الأسرى على شَرط التهدئة الدائمة وانسحاب الغُزاة؛ مدخلاً لتقويض الجنون القومى والتوراتى فى تل أبيب، وإحراج البيئة الدولية بغَرض الاستثمار فى تعرية العدو ولَجْم أطماعه المُزعجة. أو غير ذلك من تصوُّراتٍ يُنتجها الفلسطينيّون فى حاضنتهم الأصيلة، وبعيدًا من ذهنية الإخوان ونفعيَّة الميليشيات والذوبان فى جحيم المحاور والاستقطابات. يتقمَّص نتنياهو روح شاؤل، ويستشهد بنبوءة إشعياء، وفى ظهره طوابير من المخابيل الذين يختلفون فى كلِّ شىءٍ، ويتّفقون على ذَبح الغزِّيين؛ ودراسة آفاق الصدام واحتمالات العودة العاقلة ليست ضعفًا ولا تخاذلاً؛ إن كان الشعبُ أولويّةً وفلسطين الغايةَ العُليا. وكلّ من يُعينُ اللوثةَ على الاتّزان، والعاطفةَ على العقل؛ إنما يتواطَأ على القضية ويُمكِّن السفَّاحين فى تل أبيب من رقاب الضحايا فى غزّة. والقول بنصرِ «حماس» معناه أن نطلبَ النضجَ وتنقيةَ الصفوف وإزاحة الأيادى السوداء عن عيونها. يُمكن أن يتكبَّد العربُ كلَّ عبءٍ واجب، والمصريّون تحديدًا لا يُقصِّرون فى ذلك أبدًا؛ لكن شريطة أن يُصرَف الجهدُ لأرض الزيتون، لا لأيّة أرضٍ بديلة ولا لشجرٍ لا يُثمر فى تراب فلسطين.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة