حازم حسين

تمصير الحُكم وإنهاء شرعية الدماء الزرقاء

الأربعاء، 06 ديسمبر 2023 01:42 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
قضى المصريون قرونًا لا يختارون حُكَّامهم؛ والأنكى أنهم لم يكونوا من أبناء البلد أصلاً. وقع انقطاع طويل بين القصر والشارع، وطُمِرَت الإرادةُ الشعبية تحت غبار العابر والمُقيم، من إغريق وفُرس وبطالمة ورومان ونجديِّين وفاطميِّين ومماليك وعُثمانيِّين وغيرهم. وإن كان لا يُمكن إنكار المصرية على مَن تمصَّر منهم؛ فإن مناط سيادتهم كان معقودًا للسطوة والسلاح، وإنفاذ إراداتٍ وافدة من خارج الحدود. بل إن تجربةً مثل «الأسرة العلويَّة» على ما أنجزته أو أخفقت فيه، لم تنجح أو لم تهتمّ بأن تصير مُكوِّنًا عضويًّا من نسيج مصر؛ حتى أنَّ واحدًا من أواخر مُلوكهم لم يكُن يُجيد لغةَ الناس، وينتسب إلى الشركس بأكثر من انتسابه لبيئة العرش التى يحكُمها. وعلى هذا المعنى لم يكن إنجاز ثورة يوليو فى إنهائها وضعًا فاسدًا، ولا الإجهاز على المَلَكيَّة المَعيبة فحَسب، بما فيها من تملُّكٍ للأرض والبشر؛ إنما أنها كانت تحرُّكًا جادًّا وحيويًّا نحو تمصير السُّلطة، ربّما لأوَّل مرَّة منذ أُفول نجم مصر القديمة وانتهاء عصر الأُسرات.
 
لم يكن الانتقال إلى الجمهورية تحوُّلاً شكليًّا. فالمرحلة السابقة استنفدت كلَّ فُرصها فى إنتاج صيغةٍ رشيدة، والنُّخَب الوطنية التى سحقتها قُرون الغزو والاستعمار تورَّطت فى العمائم والطرابيش؛ فصار التاجُ ثقيلاً على أعناقها. لقد كانت التجربة مَعيبةً منذ أرسى الباشا محمد على ملامحها، بصيغةِ «الأوتوقراطية العائلية» المُشرعَنة من مُحتلٍّ آخر، والمُتمرِّدة عليه؛ وحتى بعدما فكَّ الوثاق مع إسطنبول، وأوقفَ مصر على أولاده وأحفاده، اصطدم بشكلٍ جديد من الوصاية فى مُؤتمر لندن، تمدَّد إلى أن صار احتلالاً مُباشرًا من منتصف الطريق العَلَوى ولسبعةِ عقودٍ تالية. وما يتباهى به أراملُ الليبرالية المُشوَّهة ويبكون عليه؛ كان استلابًا مُحسَّنًا يُلهى الفلاحين برائحة السلطة ويحرمهم من مذاقها. طعنَ سعد زغلول فى دستور 1923 وأسمى كتبتَه «لجنة الأشقياء»، ولم تخلُ الانتخابات من ألاعيب المال والدعاية الدينية وتضليل الفقراء، بل إن «الوفد» الذى حاز الأغلبية طوال الوقت تقريبًا، حقيقيةً كانت أو مُصنَّعة، لم يحكُم إلا تسع سنوات أو أقل. كانت الملكيَّة تسرقُ الوقت من العوام، والطبقة السياسية تُعاونها، قصدًا أو بلاهةً؛ لذا كانت القطيعة مع المشهد بكامله خيارَ الضرورة الذى لا بديل عنه.
 
لا ينفى ذلك عن ثورة 1919 أنها كانت تأسيسًا رصينًا لما تلاها، وفى قلبه «حركة الضبَّاط» نفسها.. الشارع الذى انتفض قبل قرنٍ من الآن كان يستكشفُ هُويَّته الجامعة، بأكثر ممَّا يصيغ تصوُّرًا نهائيًّا للنظام السياسى. ومن تلك الأجواء بزغت نهضةٌ معرفيّة وإبداعيّة مُهمَّة، كانت الحاضنة التى تربَّى فيها بُناةُ الجمهورية بعد ثلاثةِ عقود. هكذا يُمكن النظر إلى «يوليو» كامتدادٍ لسابقتها، وإنهاء الملكية باعتباره التجلِّى الأحدث والأنضج لِمَا طالب به المُتظاهرون القُدامى. وإن كان النحَّاس باشا قد احتاج قُرابةَ العقدين لاكتشاف هزليَّة مُعاهدة 1936 والرجوع عنها؛ وذلك بعد قرنٍ ونصف القرن من قُدوم الوالى المُؤسِّس؛ فإن النظام الناشئ من رَحم المهنيِّين والعُمَّال كان أَولى بالصبر والدعم؛ بدلاً من العداء والمُحاربة.
 
إن اعتمدنا وصولَ تاجر الدخان الألبانى فى 1805 ميقاتًا لتأسيس الدولة الحديثة؛ فقد استغرقت قُرابة ستَّة عقودٍ للوصول إلى شكلٍ بسيط من التمثيل الشعبى مع الخديو إسماعيل، وإن ظلَّ مُقتصرًا على الأعيان وحاشية القصر، بنكهة التعيين وبأداءٍ موسمىّ شكلانى؛ ثم ستَّة عقودٍ أُخرى للاقتراب من مَلَكيّةٍ دستوريّة غير كاملة. وفى تجارب العالم؛ احتاجت بريطانيا نحو 8 قرون من النزاعات قبل أن يتقدَّم الشعب على العرش، واستهلكت الولايات المُتّحدة تسعة عقودٍ بين حرب الاستقلال والحرب الأهلية؛ قبل أن تتشكَّل معالمها ويصفو نظامها، وتداعت 4 جمهوريات منذ الثورة الفرنسية لتنضج التجربة فى المحاولة الخامسة. والمفارقة أن عُمْر الجمهورية المصرية أقلّ من كلِّ نماذج الانتقال فى الداخل والخارج، ويُحاسبُها البعضُ طوالَ الوقت بأثرٍ رجعىّ، رغم ما تعرَّضت له من خَضّاتٍ مُتوالية؛ كلّ واحدةٍ منها كانت كفيلةً بإسقاط الدولة، لا إرهاق نظام الحُكم فقط.
 
حُبِسَت مصرُ طويلاً فى شرعيّة الدم الأزرق، ثمّ شرعيّات الإخضاع بالسلاح، وعادت مُجدَّدًا إلى توريث الأرض بمَن عليها. والواقع أن الصيغة الملكيّة لا تُناسِب المصريِّين؛ وإن أُجبِروا على قَبولها فى الماضى فإن تحوُّلات الوعى والبيئة الدولية كانت تفرضُ التمرُّد عليها عاجلاً أو آجلاً. كلُّ مصرىٍّ يرى نفسَه سيّدًا بالفطرة، ويقبلُ أن ينوب عنه آخرون فى الأُمور التشارُكيّة، لكنه يستنكف أن يكون عبدًا مملوكًا بشروطٍ مُحسَّنة. وما تُوفّره الجمهورية يتلاقى مع ما فى النَّفْس؛ إذ تُناط الشرعيّةُ أوّلاً بالعَقد الاجتماعى، والأمل القائم دائمًا فى أن يصل العامّةُ إلى رأس السلطة، ثم أن يكون بمقدور الأصيل أن يزيح الوكيل متى أراد.. وربما لهذا كان يتعذَّر تمصيرُ الحُكم تحت أيّة صيغة أُوتوقراطية مُحصَّنة بالنَّسب أو الطائفة، والضمانةُ لما يُقنِع الجُمهور ويردمُ الهُوَّة مع القصر تتحقُّق بصيغتها المُثلى فى «الرئاسة» وحسب.
 
لا إنكارَ لأن الجمهورية تعثَّرت على الطريق أحيانًا. يعودُ الأمر فى زاويةٍ لحداثة العُمر وقلَّةِ خِبرة الضبَّاط الأحرار، وإلى عداءٍ مُستحكمٍ من طُغمة المنتفعين بالملكيَّة، وكذلك تحرُّش الأُصوليِّين ودعاياتهم الدينية التى افتتحها الإخوان بالكَيد، وطوُّروها مع آخرين إلى اغتيالٍ وإرهاب. وقد ظهرت الجماعةُ بأيدٍ خَشنة فى محطَّاتٍ مفصليّة: صَدرُ الثورة وكانت تتحسَّس خُطاها، وحادثةُ المنشيّة على مسافةٍ ضئيلةٍ من كتابة الدستور وإرساء صيغة اختيار الرئيس، ومُنتصف الستينيات وقتما اشتدَّ عُود التجربة وصار الظرف مُلائمًا لتطويرها، ثمّ آخر حقبة السادات بعدما أطلق المنابرَ وكان فى سبيله لإنضاج التعدُّدية الحزبية، وولاية مبارك الأولى التى افتتحها برسائل إيجابيَّة سرعان ما تعطَّلت، وأخيرًا مشهد 25 يناير وسَنة حًكمهم السوداء. كأنَّ الجماعةَ فى كُلِّ المحطَّات كانت تطعنُ الجمهورية فى خاصرتها؛ حتى بعدما اختطفت الرئاسةَ وهيكلَ السُلطة. ولعلَّ فى ذلك ما يُشبه أداءها قبل يوليو، وقد خدمت الإنجليز وتحالفت مع القصر، وشنَّت حُروبًا سافلة على الحركة الوطنية بكاملها.
 
سُؤال التطوُّر محكومٌ بالفضاء الذى تتفاعل فيه مُكوِّنات التجربة، ومرهونٌ بالوقت. فى البداية كان الرئيس يستندُ لشرعيّة الثورة، وهى طويلةُ العمر ولا تنتهى صلاحيَّتها إلّا ببديلٍ أقوى، وقد تحقَّق مع السادات بالاستناد إلى نصر أكتوبر، وهو من الشرعيَّات الباقية أيضًا. وعندما أراد مبارك الانتقال لشرعية الانتخاب والإرادة الشعبية تشوَّهت المُحاولة، ثم حلَّت 25 يناير لتُعيد الصراع السياسى إلى نُقطةٍ بدائيّة، تسلَّطت عليها الشعبويَّة والاستقطاب والمُزايدة الرخيصة وسَطوة الإسلاميين المُتطرِّفين، ومن هذا المناخ نفذ الإخوان للحُكم مُحاولين إنتاج شرعيَّة الثورة، بينما يدَّعون أنهم إصلاحيِّون ولم يكونوا شركاء حقيقيِّين فى المشهد؛ إلا بالفوضى والتوتُّر وترييف الوعى وتزييفه؛ ولأنهم ركبوا حصان الثورة دون درايةٍ بالفروسيَّة فقد أسقطتهم الثورة أيضًا فى 30 يونيو، وجاء السيسى مُستندًا إليها فى بادئ الأمر؛ لكنّه لم يركن لهذا الخيار المُريح وسعى لاستبدالها بما يُمكن تسميته «شرعية الإنجاز»؛ ولعلَّه التحوُّل الأكثر نضجًا فى سُؤال الرئاسة طوال سبعة عقود؛ إذ معناه أن علاقة الحاكم بالجمهور تعودُ إلى سياقها الطبيعى؛ لتتأسَّس على رُؤى وبرامج وتوافقاتٍ عملية، وتقبل التقييم والمُساءلة، وتتجدَّد بقدر ما تصون المُشتركات المُتّفق عليها؛ وليس بصورةٍ آليّةٍ ولا بابتزاز العاطفة أو الدين.
 
الوقوعُ على الوصفة السليمة بدايةُ الطريق لا نهايتها. كل ما فات كان تجريبًا من أجل استكشاف المسار وضَبط المقادير والخطوات؛ أمَّا الإنجاز الكامل فيتحقَّق بالمُمارسة والتراكم. القول إن 2014 مُفتتح التأسيس الحقيقى لجمهوريّةٍ ديناميكية قابلة للتطوُّر؛ لا يعنى أنها ستُنجزُ غاياتها الكاملة بالضربة القاضية، ولا من تلقاء نفسها؛ إنّما بالتفاعلات الحيويّة المُستدامة بين البيئة السياسية، وبِنية النظام من الفرد إلى المُؤسَّسة وبينهما المجتمع المدنى، أحزابًا ونقابات وكيانات أهليّة. لكنّ المُؤسف أن النخبةَ الحزبية سجَّلت أداءً باهتًا فى الجولتين السابقتين، وبدت الهشاشة على هياكلها والتضاربُ بين قادتها؛ وإن كانت الدولة قادرةً على السَّير من دون مُعاونة المُؤدلَجين، أو برغم مُعاندتهم؛ فإنهم الخاسرُ الأكبر من تفويت الفُرصة لإرساء ركائز وطيدة، والبناء عليها بما يُمهِّد للمُستقبل المأمول، ويفيدهم أوّلاً وقبل كلّ شىء.
 
فى أوَّل انتخاباتٍ بعد ثورة 30 يونيو ترشَّح أبرز رُموز الناصرية، وكانت شعبية السيسى طاغيةً؛ فلم يتيسَّر للقوميِّين تبريرُ الخسارة القاسية بعناوين الوَصم والابتزاز. وفى الثانية أبدى أحدُ وجوه اليسار رغبته فى المنافسة، ثمّ تراجع بعدما تعذَّر عليه استيفاء الشروط. الأخيرُ وفريقه زايدوا على الأوَّل فى 2014، والأوائل ردّوا المُزايدات على الأواخر فى 2018. أمَّا الاستحقاق الثالث الجارى الآن فقد شهد الأمرين معًا: أعلن أحد شباب الناصريين رغبته وفشل فى عبور العتبة الانتخابية، وترشَّح رئيسُ حزبٍ مُعارض، فانحازت «الحركة المدنية» للفاشل وهاجمت الناجح؛ وكلاهما وثيقُ الصلةِ بها، وقد تجاهلت فى موقفها الغريب شُبهات اتصال الشاب بالإخوان، وفجاجة خطابه الذى يُلامس حدَّ البذاءة، وقدحت فى رئيس الحزب رغم تاريخه الطويل معهم وقبلهم. لا أُورِد ذلك على سبيل الإدانة أو التشفِّى؛ بل لإبراز الخِفَّة التى يشتبكُ بها بعضُ السياسيِّين مع الشأن العام، مُتجاهلين أن المُشاركة هى الأصل، ولا سبيلَ لإنعاش المجال السياسى إلَّا عبر ورشةٍ جادّة، وعملٍ دؤوب، يكون مُهمًّا فى الأوقات الطبيعية، وأكثرَ أهميَّةً فى المحطَّات الاستثنائية.
 
إنَّ السياسةَ لا تُحبّ عبادةَ الأصنام؛ لكنّ شطرًا عريضًا من السياسيِّين فى وادينا الطيب أدمنوا «الدوجما» والبلادة. يُثارُ الحديث عن الديمقراطية بمعزلٍ عن غلافها الاجتماعى، وعن قابليَّتها للفعل فى مُمارسيها بقدر ما يفعلون فيها. يُردِّدون تعاريفهم الإنشائية كما لو كانت عِجلاً مُقدَّسًا، ومُعتقَدًا لا تجوزُ مُساءلته أو تصويبه. لعلَّ الصيغة الرومانية بظلالها الأوروبية لم تعُد مُقنعةً حتى فى بيئتها. النازيّة والفاشية كانتا إفرازًا ديمقراطيًّا، وجنون اليمين اليوم تُغذِّيه الصناديق، وإسرائيل الدامية تصدُق فيها تعريفات المُنهج المُعتمَد، وكذلك داعموها فى واشنطن ودول الناتو؛ لكنّ الصفةَ تغيبُ عن الصين «الشموليّة على قولهم» ولم يُعطّلها ذلك عن تجاوز المُنافسين والأعداء من العالم الأوَّل. المسكوكات القديمة فى حاجةٍ للمُراجعة، وكفاءة الوسيلة لا يحكُم بها إلَّا كمال الغاية.
 
من المُضحكات أنَّ مَن لعبوا مع الإخوان، وتمدَّدوا تحت عباءتهم أو حملوا راياتهم، ينتقدون ويلومون الذين يعملون تحت سقف الدولة. تاجرت الجماعةُ بشرعيّة الانتخاب، ودعمها هُواة اليسار واليمين ممَّن حالفوها أو وقفوا وراءها فى فيرمونت، ثمّ انقلبوا على ما أقرُّوه عندما تعارض مع نواياهم المُضمَرة. الحقيقةُ أن الديمقراطية تبدأ بالصناديق ولا تنتهى عندها؛ وإنْ شَقَّ عليها أن تُحصِّن ولايتها الدائمة على المجال العام فلا حاجة لها؛ بل كأنها لم تكُن. هكذا بقولٍ قاطعٍ لا يمكن اعتبار تسلُّل الإخوان إلى قصر الاتحادية حدثًا ديمقراطيًّا؛ لأنهم أكلوا بقيَّة بنود التعاقُد وأحرقوا السلالم التى تصلُ السلطة بالشارع. أمَّا فى النتيجة؛ فقد أنجزت دولة التنظيم الواحد مع عبدالناصر وشطرٍ من السادات، فى كلِّ سنةٍ من عُمرها، ما لم تُنجزه دولة الجماعة الإرهابية بمكياجها التعدُّدى. لقد أقالت ثورة يوليو بلدًا بالكامل من عثرته، وفتحت «الجمهورية» طريقًا يقبلُ التوسعةَ والتجويد، وإلى الجولة الأخيرة يتنفَّس المشهدُ السياسى بوتيرةٍ تُؤكِّد حياته وعافيته؛ حتى لو رآه البعض ساكنًا أو بطىء الحركة. كان تمصير الحُكم مكسبًا، وإنهاءُ شرعيّة الدماء الزرقاء تحوُّلاً جذريًّا عميقًا؛ ولعل بعض القوى السياسية تحتاج فى سبعينية الجمهورية أن تتمصَّر وعيًا ومُمارسةً واشتباكًا بالجمهور، وأن تُنهى تسلُّط دمائها السوداء المُتعالية على التجربة والامتحانات الواجبة.. بعبارةٍ مُوجزة: لن تسقطَ التفَّاحةُ فى حِجرِك إن جلست بعيدًا عن شجرة التفاح.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة