حازم حسين

عبء الانقسام وكُلفة الحرب الفاشلة.. عن صراع السلطة والجنون فوق أطلال غزّة

الخميس، 28 ديسمبر 2023 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أسوأُ من اندلاعِ الحروب، أن تكون فاشلةً. إذ تزدادُ وقتها التكاليفُ، ويتشدَّد الخصمان، ويغيبُ الأُفق السياسىّ، بما يُهدِّد بإبقاء الجَمر تحت الرماد؛ وإن تقطَّعت ألسنةُ اللهب. وما فى «غزّة» قد آلَ إلى الفشل فعلاً، ذلك أن المُعتدى لا يفرضُ شروطَه كاملةً فى التسخين والتهدئة، والضحيّةُ تنغلق عليه المخارج؛ فلم يعُد قادرًا على التوقُّف أو الاستمرار. صار الأمرُ إلى استنزافٍ مفتوح، وأقوالٍ تتصادمُ مع الأفعال، وتُعلن عكسَ ما تُصرِّح به حقائقُ الأرض أو تُبطنُه. وإن كانت إسرائيلُ مسؤولةً بعُدوانها الوحشىِّ عن الشطر الأكبر من الأزمة؛ فإنَّ كثيرًا من مُمارسات الفصائل لا تشى برغبةٍ جادّة فى تطويق العدو، أو قَطع الطريق على خطابه الحارق، وإفساد سرديَّته الظالمة والمُلوَّنة.. كأنّها معركةٌ كُبرى تتناسل منها معاركُ أصغر، أخفُّها على البيوت والبشر، وأشرسُها على الأرض والقضية، وأردأها تتكفَّل بها المُكوِّنات الفلسطينية، فى صراعٍ خائب على سُلطةٍ مُعطَّلة، وعلى دولةٍ لم تُوجَد بعد.
 
لم تكُن عملية «طوفان الأقصى» نتاجَ الانسداد بين المُحتلّ والمُقاوم فقط؛ إنما كانت دليلاً على انفصال الضفّة عن القطاع، والقطيعة بين السياسى والمُقاتل. ما نسَّقت حركاتُ غزّة مع «فتح» ومُنظَّمة التحرير قبل الهجمة، ولا بعدها، ولليوم تُفاوِض فى كلِّ العواصم إلَّا رام الله. ويقعُ التلاسُن صارخًا بين الطرفين: القيادى الحمساوى فتحى حماد يصف «أبو مازن» بالخيانة، وحسين الشيخ يقول إن حماس أدارت ظهرها للإجماع، ومُحاولات التقريب يُفسدها صقورُ المنافى عَلنًا، أو حَمَلةُ البنادق سِرًّا. وعلى تلك الفوضى لا تبدو الساحةُ مُؤهَّلةً لترميم شُقوقها، والاستفادة من حصاد الحرب أو التجهُّز لالتزامات التسوية. لكن أخطر ما فى المشهد أن التناقضات الداخلية صارت مُركَّبةً: داخل فتح، وبين مُكوِّنات المُنظّمة، ومنها إلى الحركات الغزِّيّة، وفيما بين الفصائل، وداخل البيت الحمساوى الذى يتقاسمه وجهاءُ الخارج ومُسلَّحو الداخل. وتقفُ إسرائيل على التخومِ مُنتشيةً بالتشظِّى، وغياب التصوُّر الجامع، والافتقاد لآليَّة نضالٍ مُوحَّدةٍ ومحلّ اتفاق.
تحقَّقت نجاحاتٌ عسكريّة ظاهرة؛ لكنها بُنِيَت على خسائر مادية وبشرية تفوق الاحتمال. ومهما كانت جَردةُ الحساب مُرضِيةً للذين حدَّدوا موعدَ الحرب؛ فالواقع أن النصرَ المُؤزَّر أبعدُ ما يكون عن «حماس» وحُلفائها. ولعلَّهم يُراهنون على أنّ خسارة إسرائيل تتحقَّقُ بزيادة ضحايا فلسطين؛ إذ تتعرَّى أخلاقيًّا، ويَنفَضُّ عنها الداعمون، وتنزلقُ عميقًا فى بِركَة الدم. وهكذا يُمكن أن يتحوَّل ما تراهُ الصهيونيّةُ الجارحةُ نصرًا تكتيكيًّا إلى هزيمةٍ استراتيجية. إنّه تصوُّرٌ صائبٌ فى أحد جوانبه؛ لكن لا معنى له دون فاعليّةٍ سياسية تُترجمه لمكاسبَ ملموسةٍ للقضية، وإلَّا فقد يصيرُ نكبةً ثانيةً، على الحقيقة لا بالمجاز؛ حتى لو ظلَّ الفلسطينيِّون جالسين على أطلال بيوتهم.. إنَّ الامتحان الواجب على الجميع أن يبحثوا عن مسارات الخروج بالدولة، مهما بدت بعيدةً وضيِّقة، وليس عن ترقيةِ فَصيلٍ أو إخراجِ غيره من المُعادلة.
 
قِيْلَ الكثيرُ عن انفتاح القسَّاميين والجهاديين على التفاهم، وعن جاهزيَّة السلطةِ لهيكلة بنيانها ليكون توافُقيًّا وجامعًا. لكن مُقابل المقالات البيضاء تَتْرى مُمارساتٌ رمادية، فما كانت الهُدنةُ محلَّ نقاشٍ داخلى، ولا مُحاولاتُ تكرارها، ويتحدَّثُ فتحاويِّون عن مُحاسبة حماس، وحمساويِّون عن حقِّهم فى القيادة، وتُثَار دعواتٌ للتظاهُر ضد السلطة فى الضفّة، بينما يتلطَّى الجميع علنًا وراء شعار «لا صوتَ يعلو فوق صوتِ المعركة»، وتفرضُ المِحنةُ أن تتقدَّم الورشةُ الوطنية على ما عداها. إذ لا مُبرِّرَ لتأجيل انتشال «تحويشة العُمر» من جَوفِ النار؛ بدعوى أن الأولويَّة لإطفاء الحريق. كما أن جبهة الحرب أنسبُ الأماكنِ لتقييم الخطط وتطويرها؛ لو كان المُرادُ نصرًا مُقنعًا أو هزيمةً مُحتمَلة، وليس بطولاتٍ مجّانيةً ومَرَاثى عاطفيّة، أو تحيُّن الفُرص لتحميل الفواتير على أكتاف الآخرين، بدلَ الاجتهاد فى شَطبها أو تحويلها أرصدةً إيجابية.
 
تردَّدَ مُؤخَّرًا أن مُبادرةً طُرِحَت على الفصائل الغزِّية، تتراكُبُ من ثلاث حلقاتٍ: هُدنةٌ موقوتة وتبادُل أسرى، ثمّ طاولةٌ حواريّة وحكومةُ تكنوقراط، تليها تهدئةٌ طويلةُ المدى تمهيدًا للتحرك صَوب «حلّ الدولتين». وقيل إن «حماس والجهاد» رفضتا، وتشدَّدتا فى أنهما لن تتخلَّيا عن السلطة فى القطاع، وأقصى تنازلٍ مقبولٍ أن تُدرَس مسائلُ مُبادلة المُحتجزين وشروطُ وقف النار. وصحيح أن الحركتين سارعتا بالنفى الشامل، وبأنهما لا تعرفان شيئًا عن الصفقة المذكورة؛ إلَّا أن الظاهر من الوقائع والمحكَّات العمليّة، أن ما أُثير ليس خيالاً صافيًا، ولا من تخليقات الصحافة والذين يُراقبون المشهد؛ إنّما هو طابعٌ يختم وجهَ البيئة الفلسطينية، ويبدو صعبًا فى مُفاوضاته، بقدر صُعوبة التفاوض مع سارق الأرض.
 
قد يكونُ مفهومًا فى الظَّرف الطبيعىِّ أن يُحاول فريقَا السلطة والمقاومة الانفرادَ بالقضية، وأن يرفض كلٌّ منهما شراكةَ الآخر؛ لكننا إزاء لحظةٍ استثنائية، تفرضُ الرجوعَ عن تكتيكات الماضى، وابتكارَ أدواتٍ جديدة للصراع والمُسالَمة. كانت بدايةُ الانقسام من «حماس»، وكان ضعفُ السلطة سببًا لتعميقه؛ إنما لا فائدةَ من البكاء على الأطلال؛ وقد صارت الجغرافيا مُهدَّدةً بالسحب من تحت الأقدام. ولِذا قد يكون الأجدى للقضية، وللفصائل بالتبعية، أن يتقدَّم الأصلحُ للقيادة مُكلَّلاً بالشرعية والإجماع، ويتأخَّر المُلاحَقُ بالوَصْم والعجز عن مُوازنة السياسة والخشونة. وإن كانت الحمساويون شقّوا طريق الانقسام؛ فعليهم المُبادرة بالعودةِ منه، كما عليهم استكشاف مقدار ما يُضفونه على القضية من وهجٍ، وما يخصمونه من مشروعيّة؛ ليُحسَم الموقفُ بتصوُّرٍ عَمَلىٍّ ناضجٍ، لا يُضحِّى بالأُمّ انتصارًا للجنين؛ ثم يُفاجَأ باضطراره لدفنهما معًا.
 
لا خلافَ على أن المنظومةَ الأُمميَّة مُنحرفةٌ وفاسدة، وأنَّ المُتسلِّطين عليها ينحازون للقاتل بفجاجةٍ وصَلَف؛ لكنه واقعٌ يتعيَّن أن يستوعبه الفلسطينيِّون، وأن يُناوروا فى شُروطه ومصاعبه. والمُزعِجُ أن الاحتلال يطلبُ نصرًا كاملاً، والمُقاومة أيضًا؛ فتبدو الحربُ خيارًا لا يحيدان عنه ولا يُريدان سواه؛ بينما هزيمةُ أىٍّ منهما أو انتصارُه تُهدِّد بتعميق الانقسام وإذكاء الفتنة. إسرائيلُ الفائزة لن ترتضى شريكًا، عاقلاً أو مجنونًا، والخاسرةُ لن تتوقَّف عن التقتيل والتخريب. وكذلك الفصائل إن هُزِمَت لن تقبلَ بالتنحِّى، وإن انتصرت لن تُرحِّب بأن يُقاسمَها أحدٌ منصَّةَ التتويج. ومن هُنا فإن الهروب من سَحق «غزّة» ضرورة، والخوفُ من جنون الصهاينة مشروعٌ، والبديل أن ينتهى الصدام عند نقطةٍ مُتوازنة، تحرسُها واجهةٌ فلسطينية جديدة، ومُتحرِّرة من رواسب الماضى، وعشوائية الحاضر، وأطماع المستقبل، وأن يتحرَّر القطاع قبلها من التحالفات التى تُقامِر به، أو تعزله عن مجاله الحيوى وحواضنه الأصيلة.
 
المشكلةُ أن العالم سريعُ النسيان، ذاكرتُه صدئةٌ ومثقوبة، وضميرُه لا يبقى طويلاً على حال اليقظة والصفاء. والصرامةُ التى أبداها فى تقييم العدوان مُرشَّحةٌ للرخاوة والانطفاء. وعليه فلا بديلَ عن استثمار اللحظة المشحونة، وطَرقِ الحديدِ ساخنًا وقبل أن يصير عَصيًّا على التشكيل. أمَّا التصوُّر الجاد؛ وبعدما يتّفق الجميع على هشاشة السلطة ومُكابرة الفصائل؛ فيقضى بأنَّ من صالح الحالة الوطنية أن يقود الأهدأُ وصاحبُ الشرعية؛ ولو كان ضعيفًا، وينقادَ الذى يُلاحقه الوَصْم والرفضُ الدوليَّان؛ مهما بدا قويًّا، على أمل أن ينجو الجميع معًا، وأن يُعاد بناءُ الصفِّ الوطنى لاحقًا، وفق شروطٍ وتوازنات جديدة، وأكثر اتّصالاً بالحضور والتأثير والإرادة الشعبية.
 
على المعنى السالف؛ فإنّ فلسطين الجريحةَ تحتاج من أبنائها أن ينزلوا عن شجرة الخِلاف والمُناكفة والإلغاء. فتُعاد هيكلةُ السلطة وتنشيطها، وتنخرط «حماس والجهاد» فى مُنظَّمة التحرير، وترفع التركيبةُ المُستحدَثة رايةَ السياسة فوقَ طُبول الحرب؛ لامتصاص فائض اللوثة الصهيونية، وسَلبِها جاذبيةَ «الصراع الوجودى»، ثم يُسَار إلى إدارةٍ مدنيّة بعيدةٍ من الأيديولوجيا والاستقطاب، تتولَّى إنضاجَ بيئةِ التسوية الداخلية؛ تمهيدًا لانتخاباتٍ تُنتج مرافقَ أكثر حداثةً وكفاءة، وذلك بعدما تُصاغ كلُّ المواثيق على صورةٍ غير ماضويّة ولا عقائدية، ويتَّفق الشركاءُ على ثوابت النضال، وحصص الدبلوماسية والسلاح منه، وعلى فكرة الدولة المأمولة وتشابكاتها الطويلة، من قرار التقسيم إلى صيغة يونيو، ثمّ أوسلو، ووضعية القدس وبيت لحم، وتقاطعات الحركات فيما بينها، ومع الإقليم والعالم.
 
ربَّما كانت الحربُ ضرورةً على قَول البعض، أو مُغامرةً غير محسوبةٍ كما يرى آخرون؛ لكنها وقعت، وصار المحكُّ أن يتعامل الفلسطينيون مع ما أفرزته، لا أن يتجمَّدوا عند البحث عمَّا تسبَّب فيها. والتجرُّد العاقلُ يقول إنها لم تكن «حرب تحرير» مثلما يُتاجر بها أغبياءُ الرجعية الدينية، ولا حتى «حرب تحريك»؛ بالنظر إلى أنها أيقظت القضية ثم أدخلتها فى نَفَقٍ مُظلم. إنما الأوقعُ أنها اندلعت بحُسنِ نِيّةٍ، ثم آلت إلى ختامٍ سيِّئ؛ فكانت «حرب تطيير» صارت تُهدِّد الكُتلة البشرية الضخمة فى غزَّة، وترسانة السلاح التى تحتمى بها بدل أن تحميها، والخيط الواهن الرفيع بين الضفّة والقطاع، بل وآخر ما تبقَّى من «أوسلو» البائسة، فى صيغة حكومةٍ مُعترَفٍ بها، وإدارةٍ ذاتيّةٍ عند حدِّها الأدنى. والمُخيف أن القليلَ الذى لم يكن مقبولاً ولا مُرضيًا، ما عاد مضمونًا وقد جاهر الصهاينةُ برفضه، وتفجَّرت موجةٌ يمينيّةٌ شديدةُ الشراسةِ تحمى ذلك الرفض، ولا يتمايز فيها القوميِّون عن التوراتيِّين وبعض من كانوا تقدُّميِّين. 
 
وإن كانوا فى إسرائيل يُؤمنون بأن ما لا تُنجزه القوّة؛ فقد يتحقَّقُ بمزيدٍ من القوّة؛ فالفصائل عليها أن تنتقل من تحدِّى الغُشومةِ إلى تقويضها. إذ العارُ الأخلاقىُّ ليس فعّالاً فى اختصام الاحتلال، ولطالما تهرَّب من جرائمه، ولهذا قد يكون التوقُّف والتدبُّر أعقلَ وأجدى. أمَّا التمسُّك بالهيمنة على كومةٍ من الخراب؛ فإنه لا يبنى ولا يحكُم، ولا يُنتج سوى مزيدٍ من الدمار والنزيف. وكلّما تأخَّر الحوارُ البَينىّ وترميمُ البيت من داخله؛ فكأن أهلَه يُمسكون بعضَهم ليطيبَ الذبحُ لعدوِّهم المشترك. إنها فريضةٌ لا فَضيلة، ومسؤوليةٌ تاريخيّة لا يشطبُها وَهْمُ القُدرة ولا يُغطِّيها ظِلُّ السلاح؛ إنّما تُؤخَذُ بحَقِّها من التعقُّل والبراجماتية، وهو يبدأُ من إنكار الذات، وينتهى حصرًا عند الذوبان فى فلسطين؛ وليس تذويبها فى أنفاقِ حركةٍ، أو مذهبيَّةِ محورٍ، ولا اختصام الضعفاء فيما بينهم على مَنْ يرثُ الدولابَ المُعطّلَ ويحرسُ البُستانَ المُحروق، أو مَنْ يتصدَّرُ الصورةَ فوق تَلّةِ الجُثَث وعند نهرِ الدم.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة