حازم حسين

قمّتا الرياض وسؤال غزّة.. فاعلية الإقليم رهينة المرور من سماء القاهرة وعمّان

الخميس، 09 نوفمبر 2023 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
بعيدًا من حِلف المزايدة، ولا أحد فيهم يُقدّم لفلسطين إلّا الفتنة والانقسام والشعارات الجوفاء؛ ليس فى جعبة المنطقة غير الدبلوماسية وحلول السياسة، البديل عن ذلك أن تتّسع المُواجهة إلى حربٍ شاملة، مع ما فيها من صدام مُباشر بالولايات المتحدة وتابعيها الأُوروبيين؛ وليس بإسرائيل وحدها، والقمة العربية المُرتقبة خلال يومين خطوة على الطريق؛ تبنى على قمّة القاهرة للسلام قبل نحو ثلاثة أسابيع، وبيان الدول التسع اللاحق عليها، وتحرُّك المجموعة العربية فى الأُمم المتحدة، وما أفضى إليه من قرار مُضاد تماما للسردية الإسرائيلية بأغلبية 121 عضوًا، تُؤكّد عواصم التعقُّل عمليًّا أنها البديل الأكثر أمانًا وصدقيّة عن محور الحناجر وفوائض الأدرينالين، وقد أثبت لأكثر من شهرٍ أنه غير مشغول بمسألة غزّة؛ إلّا بقدر ما تتقاطع مع مصالحه فى بقيّة الساحات، ومع مُفاوضاته السرّية وتوازناته الحرجة قبالة واشنطن.
 
القمَّة الطارئة فى السعودية كان مُفترضًا أن تتزامن مع أخرى «عربية أفريقية»؛ إلا أن الأخيرة تأجّلت فجأة وكان الأوفق انعقادها؛ إذ لعلَّها تُثمر ضمن جُملة نتائجها بيانًا مُشتركًا يُمثِّل نحو مليار ونصف المليار من القارتين، الورقة المُنتظَرة من العرب ستتضمَّن مسائل: التهدئة والإغاثة والتهجير القسرى، والمسار السياسى المُستقبلى على شرط «حلّ الدولتين»، ورغم أنها قد لا تكون حاسمةً فى إيقاف اللوثة الصهيونية، وما وراءها من احتشادٍ غربى يتشدَّد فى إبقاء الحرب مُستعرةً؛ فالأكيد أن الأُطروحات المُنضبطة بالقانون والشرعية الدولية أنجع الوسائل لحصار كُرة النار، وتكتسب فاعليتها بالزخم والتكرار وتقديم بدائل موضوعية عن الدعايات الدموية الزاعقة. وعلى قسوة الصراع مع ماكينة الاحتلال؛ فإن صراعًا أكبر يتمدَّد فى البيئة الفلسطينية، وعموده الصُّلب أنه لا رؤية جامعة للفصائل، ولا اتفاق على الحلول المُمكنة، والأخطر أنّ فريقًا من اللاعبين يقبض على رؤى شديدةِ الراديكالية، ويختنق بتحالفٍ لم يعد فى مقدوره الفِكاك منه، يتطلَّب ذلك تصحيحًا عاجلاً للأجندة الوطنية، وإعادة بناء فلسفة التحرُّر على ركائز منطقيّة وبراجماتية، قابلة للتسويق والإقناع.
 
لا يزال الحضور الشرعى الوحيد لفلسطين محصورًا فى مُنظّمة التحرير والسلطة، خاض «عرفات» حروبًا دامية لانتزاع الصفة، ثمّ تحوَّل من السلاح إلى السياسة، أمَّا حركة «حماس» فلا تعترف بالمُنظّمة وبرنامجها، وتنطلق من الحقّ التاريخى فى كامل الجغرافيا وإنهاء إسرائيل؛ لهذا لم تكن مُقنعةً عندما أعلنت عن وثيقة سياسيّة تعترف بصيغة الدولتين قبل ستّ سنوات؛ لأنها أضمرت إنكار الخَصم العبرى، واعتبرت الدولة الفلسطينية المأمولة مُنطلَقًا لتطوير الصراع من حيِّز الاحتلال إلى التحرير الكامل.. على هذا المعنى يُمكن أن تكون السلطة شريكًا سياسيًّا؛ لكنّ «حماس» لا تُريد الذهاب إلى التسوية تحت رايتها، مع علمها أن المحتلّ وداعميه لا يقبلون بها فى مشهد المستقبل، إنْ دفعَ العربُ باتجاه العودة إلى طاولة التفاوض؛ فليس مضمونًا أن تحترم الفصائل المُسلَّحة مسارات التمهيد ومُخرجاتها، لا سيّما أن عقيدة الدائرة الشيعية التى تسكنها لا تقبل الاتفاق مع «تل أبيب»؛ هذا لو افترضنا أن الأخيرة جاهزة لإنجاز الحلول الصعبة.
 
يختلف الحمساويون والصهاينة فى كلّ شىءٍ تقريبًا؛ لكنهم يلتقون على كراهية السياسة وسدِّ كل المنافذ المُحتمَلة لتصفية النزاع، المُقاومة تُريد الحكم أوّلاً، ثم استخلاص الدولة دون اعترافٍ بإسرائيل، والأخيرة لم تمتلئ معدتها بالأرض الفلسطينية، وتطمع فيما وراء حدودها؛ لهذا لن تتخلَّى عن شبرٍ واحد ممّا فى حوزتها بالفعل، صدامُ الأُصوليّات على الناحيتين مصلحةٌ مُشتركة هنا وهناك، ولا سبيل لتجاوزه إلّا بتذويب الجلطات العقائدية وتفعيل السياسة، الدائرةُ العربية لديها تصوُّر مُتماسك يُمكن أن يُدار من خلال رام الله؛ لكنّ العمائم السوداء معها «غزّة» والسلاح، وقادرة على نسف أيّة مُقاربة عاقلة، وبينما تتوهَّم إنعاشَ القضية؛ فإنها تُطلق الرصاص عليها، وتخدم الجنون التوراتى بجهالة مُفجعة.
 
الفلسطينيّون فى موقف ضعفٍ؛ وليس أضعف من أن تكون أسيرًا لآلةٍ غاشمة بإسنادٍ غربى كاسح، لا نتحدَّث عن حمائم ولا حتى صقور فى إسرائيل، إنّما عن كيانٍ استيطانى إلغائى لا سبيل إلى مُقارعته بالقوّة، والعُقدة أن مفهوم الصهيونية عن التعايش رُكنه إذعان الآخر دون قيدٍ أو شرط، وقد اختبرت المقاومةُ الرصاصَ ولم تُغيّر المُعادلة، لقد تأكَّد أن الاحتلال يُحسِن تجارة الفوضى، ويعيش على الاستثمار فى التوتُّر؛ لذا فإن انسدَّت قنوات السياسة قد يفتحها السلاح، وإن انتعش العدوّ مع القوَّة فلا بديل عن خنقِه بالدبلوماسية؛ لكن لا حصافة فى تفعيل خيارٍ وتغييب الآخر تمامًا، الغايةُ أن يُوقن النازيّون الصهاينة أهمية الوصول إلى تسوية، وأنه «لا طريق للسلام؛ فالسلام هو الطريق» كما قال غاندى.. الفصائل تتصوَّر أنها قادرةٌ على تعديل سلوك المُحتل بمفردها، وتتجاهل أنها عاجزةٌ عن تثمير محصول السلاح بمعزلٍ عن الحاضنة السياسية، أى عن صوامع السلطة ودُولابها الشرعى.
 
الانقسام الذى ضرب روافعَ القضية قبل سبع عشرة سنة، كان أخطر ما أصاب الفلسطينيِّين منذ النكبة الأولى؛ بل إنه أفدح وأكثر دموية من عدوان «غزّة» الأخير. ذلك أنه فصل المُخّ عن العضلات، وسمح للعدو أن يخنق الحكومة فى الضفّة الغربية، وينفرد بالفصائل الفاعلة فى القطاع المُختنق. يتحصّل من تلك الصيغة أن الورقة العربية المُتعقِّلة لم تعد فاعلةً مع سُلطةٍ مهدورة، والخنجر الشيعى الساخن لم يعد حارقًا وقد حُوصر فى الشريط الضيِّق على البحر، الحاجةُ مُلحّةٌ اليوم أكثر من أىِّ وقتٍ مضى لاستعادة مُعادلة الحوار والردع، أو السندان والمطرقة، ما يستلزم انضباط المُقاومة بالأجندة الوطنية الجامعة، والعمل مع العواصم السُّنيّة الوازنة بدلاً من الارتهان لمُناكفات المحور الشيعى، والغالب عليها أن رصيدها يُصرَف لقلب التحالف رأسًا، أو لفائدة «دُرّة تاجه» فى جنوب لبنان.
 
كان حسن نصر الله مشغولاً فى خطابه قبل أسبوع بتبرئة القيادة العُليا من تداعيات «طوفان الأقصى»، وإبقاء المناوشات مع إسرائيل تحت سقف الاشتباك المقبول، الرسالة أن «غزّة» قد تُباد دون تفعيل وحدة الساحات، والخطير أنه لا برنامج سياسيًّا لإدارة ما بعد الحرب، تبدأ محنة محور المُمانعة على ما يُسمِّى نفسه عندما تسكت البنادق؛ لأنه سيرث جغرافيا مُدمَّرة وميليشيا كسيحة، ولا سبيل إلى ترجمة تضحيات الغزِّيين منفعةً مُباشرة للقضية؛ بينما لا يعترفون بالعدوّ أصلاً، وهو من جانبه أحالهم إلى «خانة الإرهاب»، وشطبَ مقعدَهم من أيّة جلسة تفاوض مُحتمَلة. القمَّة العربية ستُواصل ضغطَها السياسى، ومع التراكُم قد تتحرَّك الأُمور قُدمًا؛ لكنّ الأزمة أن السلاح لن ينسجم مع فكرة الهدوء، ولن يُمرِّر أيّة مُعادلة لا تضمن له السيادة واحتكار العنوان الفلسطينى.
 
التعقيدُ المُخيِّم على فلسطين آخر ما تحتاجه القضية الآن، وأكبر ما يخدم الاحتلال، عندما طُرِحت مسألةُ اليوم التالى، وأبدى «أبو مازن» قبولًا أوَّليًّا مشروطًا لإدارة القطاع، يترافق مع سلطات حقيقية فى الضفّة والقدس تفعيلاً لحلّ الدولتين؛ كان يُعبّر عن مُراوحةٍ ناضجة تصلُح للتداول والبناء عليها، فالخياراتُ البديلة أشدّ سوءًا: بين بقاء الجيش الصهيونى فى غزّة، أو تنصيب إدارة جديدة بإشرافٍ أُمَمى، أو الاستعانة بقوات فصلٍ تحت رايةٍ دولية أو إقليمية، «حماس» حكمت الساحل المقطوع عن بقيّة «الدولة الحلم» قُرابة العقدين، ولا تُحب أن تخسره، وهو شرط وجودها ورافعة قوَّتها وتأثيرها؛ لكنّ التطورات الناجمة عن الاشتباك الأخير لن تسمح بإبقاء الصيغة التى كانت قائمة. ربما تحتاج السلطة إلى هيكلةٍ جديدة، مع امتداد الأمر لإعادة بناء «مُنظّمة التحرير» وهياكلها وأجندتها فى السياسة والنضال؛ لكن حُلولَها بديلاً أفضل وأقل عبئًا من بقيّة الترتيبات المُقترحَة.. هذا من زاوية المصلحة؛ إنما هناك عاصمةٌ بعيدة ستظلّ حانقةً ومُتشدِّدةً فى إفساد أيّة هندسة تحرمها من ذراعٍ فى فلسطين.
 
الحكاية باختصار: أنت أمام عدوٍّ يتهرّب من السلام، وأنجح وسائله السلاح؛ وعليك مُنفردًا عبء الدأب الدائم؛ لأنك الضعيف المُضطرّ وصاحب المصلحة، المطلوب حصار مُراوغته، وحرمانه من عنصر قوّته، وابتكار الموازنة الخلّاقة بين المظلومية والبأس؛ أى البحث عن جنّة التسوية دون السقوط فى جحيم الحرب.. سيعلو سقف القمّة، فى المُداولات والبيان، وبجانب الدعوة لوقف النار عاجلاً، قد تقترح هُدنةً طويلة. سيدرس المُجتمعون وسائل الضغط، وهم يعلمون أن السياق مُختنق وكل الأطراف فى أزمةٍ قاسية، ونتنياهو يُفتّش عن كرامته وراء سراب الخلاص من حماس، وقد قسَّم القطاع جزأين ويبدو أنه سيُغلِّظ الخط؛ لأجل السيطرة الأمنية الدائمة؛ أى رفض تسليم القطاع بشكلٍ كامل، ما يُسرّبه أنه باقٍ خارج القواعد، والرسالة للداخل أنها «حربٌ طويلة» وعليكم احتمال الألم، وللخارج أنها «مقتلةٌ مُنفلتة» من أىّ ضابط، ولا اعتبار للإنسانية والأخلاق، مهما تشدّد نازى تل أبيب فقد يُفلِح العرب فى تفكيك الجدار المُلتهب؛ لكن افتضاض الإجماع الفلسطينى يظلّ خنجرًا حارقًا فى قلب أيّة رؤية سياسية جادّة.
 
هكذا قد لا تُشكِّل القمّة العربية فارقًا يُذكَر، ولا قمَّة التضامن الإسلامى فى اليوم التالى لها، الأُولى ستكون أكثر دبلوماسيّةً واحترافًا، والثانية ستغلُب عليها النكهة الدينية؛ على ما فيها من منافع تُحسِن إسرائيل توظيفها لصالحها. لكن تظلُّ المعضلةُ أن الفلسطينيين غير مُتّفقين، والعرب الذين يرعون «حماس» أو يُموّلون قادتها لا ولايةَ لهم على قرار الحركة؛ بينما تملك السلطة الشيعية إفسادَ أيّة مُصالحة بضغطةِ زناد.. الشقُّ الأهم فى المسألة تكفَّلت به مصر، وقد أبدت موقفًا مبدئيًّا صُلبًا فى مُواجهة أُطروحة التهجير و«الوطن البديل»؛ لكن الفاعلية الكاملة لا تتحقَّق من دون ثبات أصحاب القضيّة على ثُغورها، ولا ثبات من دون اصطفافٍ داخلى وتموضوعاتٍ مُتّزنة بحسابٍ دقيق. 
 
وإلى ذلك، يجب ألّا تتضارب ورقة القمَّة الإسلامية مع سابقتها العربية، وألا تُوغِل فى تديين المسألة أو شدِّ ساعد الطرح الأصولى، وما عاد ثمّة شكّ فى أن الأسلمة المُفرطة مقتلةٌ للحقوق الفلسطينية العادلة.. خطاب القاهرة وعمّان الأكثر نضجًا وجدّية، والأكثر تجرُّدًا أيضًا، وليست لهما مصلحةٌ فى سُلطةٍ أو سلاح، ولا فى تطبيعٍ أو اقتصاد.. إن مرَّت قمة الرياض الأولى من أجواء مصر والأردن؛ فقد أفلتت من فخّ الانحراف والتحريف، وأنجزت شرط الصفاء وتخليص الملف من عوالق المحاور ومُشايعة المصالح الضيّقة، وإن جرجرت النسخة الإسلامية معها إلى سماوات الضاحية ودمشق والأناضول وفارس؛ فقد شطبت على عملية «غلاف غزّة»، فاستبعدت الأقصى وأبقت الطوفان، وخنقت فلسطين كلَّها بأكثر ممّا تختنق به طوال ثمانية عقود.
 









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة