حازم حسين

ورود كييف وقذائف غزّة.. سلطة النموذج الحضارى الأبيض تتلطّخ بأوحال إسرائيل

الأربعاء، 18 أكتوبر 2023 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
«نُقاتل حيوانات، ونتعامل معهم وفقًا لذلك».. هكذا وصف وزير الدفاع الإسرائيلى يوآف جالانت مليونى فلسطينى فى غزّة، صحيحٌ ليس غريبًا على الاحتلال؛ لكن الصادم أن الغرب المُتحضّر يُشارك فى المقتلة، صمتًا وإسنادًا؛ كأنه يُقرّ العنصريّة ويبصم على صناعة الموت. تتداعى سرديّة التفوُّق الحضارى والأخلاقى، ولا يبدو أن أصحابها معنيّون بالدفاع عن شرفهم؛ قدر انشغالهم بمُجاراة اللوثة الصهيونية. ضُرِب حصارٌ خانق على القطاع، ومُنِعت عنه الحاجات الضرورية، ولا يتوقَّف الطيران عن صبّ النار فوق رؤوسهم، وتُسدَل ستارةٌ غربية لتغطية الخروقات الدامية؛ بينما تُنسَج ببطءٍ فصولٌ إضافيّة للجريمة، ليس أخطرها الاجتياح البرّى، ولا أعنفها إزاحة المدنيين جغرافيًّا، ضمن مُخطّط تطهيرٍ عرقى كامل. حُرّاس الإنسانية الناضجة يشهدون على المأساة من أوَّلها، وبعدما كانوا يُراقبون فى صمتٍ مُغرض، يُشاركون اليوم بحماسةٍ ويُصفّقون باستحسان. مُفارقةٌ لا يُمكن تجاهلها: كلّ الذين يبكون على تراب أوكرانيا، صاروا يرقصون فى مآتم فلسطين.
 
عندما أبلغت «تل أبيب» الأمم المتحدة، فجر الجمعة، بإخلاء سكّان شمالى غزّة إلى الجنوب خلال 24 ساعة فقط، لم يستهجن حلفاؤها الغربيّون تبييض الأرض من 1.3 مليون دفعةً واحدة. المُنظّمة ترجَّت إسرائيل أن تعود عن قرارها؛ لكن وكالتها للاجئين «أونروا» بادرت بعد ساعةٍ بإعلان نقل عملياتها ومُوظّفيها الدوليِّين، تاركةً أهل المُدن وسبعة مُخيّمات تقريبًا فى العراء، وكان بإمكانها أن تُرخى عليهم غطاء الحماية الدولية، ليتّخذه «جوتيريش» وفريقه مُنطلَقًا لكبح أكبر عملية «كنس بشريّة» منذ أفران هتلر وقنابل ترومان الذريّة. يدَّعى نتنياهو أنه يسعى لمحو «حماس» وقادتها؛ ووجهاء الحركة فى منافيهم المُريحة، وأعضاؤها لا يتجاوزون 5 % من الغزِّيين الذين يُنكَّل بهم جماعيًّا. كان المُتوقَّع أن تشتغل واشنطن والأوروبيّون على التهدئة، وعلى فكّ الطوق الخانق عن الأبرياء، واحتواء الجنون اليمينى المُتسلِّط على جيش الاحتلال؛ لكن بعكس كل النوايا الحسنة، زاد الاشتعال بعدما أطلُّوا على المنطقة؛ كأنهم جاءوا بالبارود والزيت.
 
وقع الاختبار على رأس «الأبيض المُتفوّق». وقد أدمن الذهاب فى مُغامراته الوقحة دون حاجةٍ للتبرير؛ لكنّه اليوم أمام تناقضٍ صارخ: عندما تحرَّكت روسيا ضد ما اعتبرته مساسًا بأمنها، خلع الغربيّون مُسوح الرهبان وارتدوا بزّات الحرب، وضخّوا كلَّ وقودهم فى الشرايين الأوكرانية؛ لكنهم فى الشرق حلّوا ظهيرًا للاحتلال، وطالبوا الضحيّة بالموت الوقور. الانحراف هنا ينسف السرديّة هناك؛ فلا يبدو الانحياز إلّا لمصلحةٍ ذاتيّة، أو للوكلاء عن أُمثولته الحضارية. هكذا يُمكن أن نفهم بأثرٍ رجعىّ ما أحدثوه فى العراق وأفغانستان، وفى الهند والصين وفيتنام وأمريكا اللاتينية والجزائر وعموم أفريقيا. إنها العنصرية التى صِيغَت تحت ستار قصيدة كبلينج «عبء الرجل الأبيض»، لكنها عبَّرت عن نفسها بالقتل والسَّلب والاستعباد، بأكثر ممّا حملت من مدنيّةٍ وتنوير.. على المجاز الجغرافى، يرى الغرب فى إسرائيل امتدادَه المشرقى بين قطعانٍ من الهمج، أو الحيوانات بوصف «جالانت»، وعلى المُباشرة التاريخية هى فرعٌ منه وسط خزّانٍ طافح بالضحايا المُهذّبين، وقد أثبتت انتماءها الأصيل بالمُمارسة المُخلصة لكلّ ما يُحبّ من تعالٍ، وإزهاق للتجلّيات الثقافية المُغايرة.
 
يطيب لكلب الأنجلوساكسون الشرس أن ينبح على المُلوَّنين دون تفرقة؛ لكنّه يشمّ الدم اليهودى فى عروق الإسرائيليين. جاء بلينكن إلى «تل أبيب» ليتذكَّر هروب جدّه من أفران النازى، ويشهد على إلقاء الغزِّيين فى هولوكوست الأرثوذكسية الصهيونية. وقف مع نتنياهو فى مُنافسةٍ على أيّهما أكثر سُعارًا، وتخليقًا للأكاذيب، وبصقًا على جُثث الأبرياء. وكانت قد سبقته حاملة طائرات، وتتأهب أُختها، وهما تكفيان لقدح زناد حربٍ عالمية؛ وكل المهمّة أن تكونا شُرطيِّين على شاطئٍ لا جيش له ولا سلاح، وحُرِقَت قوارب صيده بصواريخ تكلَّفت أضعاف سعرها وما كانت تعود به للجائعين.. بريطانيا تبعت سيّدها منذ غزو العراق، وأرسلت قطعًا بحرية وطائرات؛ والمُقدّمة تحمل رائحة «الناتو» وتتجاوز صدام جيشٍ مُدجِّج بالسلاح مع حفنةٍ من العُزّل. لو كان الغرض ردعَ الساعين لتوسعة نطاق الصراع، على ما تقول واشنطن؛ فإنها حاضرةٌ فى الخليج، وفى العراق وسوريا وقبرص واليونان وقاعدة إنجرليك التركية وعلى مقربةٍ من اليمن. ربما الأوقع أنها إسنادٌ لعملية الاقتحام البرّى، ودوريّة أمنيّة لتخويف الداعمين.
 
فى مزابل الحاضر؛ تكون العودة للماضى فريضةً. وضعت لندن سنَّ المسمار على الخريطة، ودقَّت واشنطن رأسَه؛ فكانت إسرائيل المُلفَّقة رغمًا عن الجغرافيا والتاريخ. استفاد الحلفاء من اليهود فى حربهم الكونية، ثم أرادوا مُكافأتهم أو الخلاص منهم؛ فاخترعوا لهم دولةً وختموا على الفلسطينيين بالمُعاناة الأبدية. فى السياق الموضوعى، كان على الغربيِّين أن يتكبّدوا كُلفة وقف النزيف، وتعويض المُضارين، وتصحيح خطاياهم بحقّ المنكوبين؛ لكن الحادث أنهم يُجدِّدون الجريمة كلَّ يومٍ منذ ثلاثة أرباع القرن. كل ما تردَّد لشهورٍ عن شرخٍ بين الديمقراطيات الكبرى وحكومة اليمين المُتطرّف بنزعتها التسلُّطية، سقط فى سويعاتٍ باتّفاق على دماء الغزِّيين، وكان الأقرب للمنطق أن الخلاص من نتنياهو مصلحةٌ للشرق والغرب والساعين للسلام، ويبدو أن الفصائل ابتلعت الطُعم، ولم تتحسَّب لأن آباء المشروع الاستيطانى لن يُفرِّطوا فى أطفالهم الأشقياء. هكذا قد تُقبَض أرباح «طوفان الأقصى» فى جبهاتٍ أخرى، وتُعاد هيكلة توازن الردع بين دولة القلنسوات ومحور العمائم السوداء، بينما لن يبقى لأهل القطاع سوى سداد الفواتير، وإشباع شهوة الذئب الجريح لمزيدٍ من استعراض القوّة، وتوجيه الرسائل المُزعجة فى كل الاتجاهات.
 
تُفرّط الحظيرة الغربية للعبريّين فى أمورٍ من ثوابتها. صمتت عن أسراها أمام إعادة تفعيل «بروتوكول هانيبال» سرًّا، والذى يسمح بتصفية الخاطف والرهينة، وتبصم على الغزوة البرّية رغم مئات العالقين ومنهم 600 أمريكى. لم يعد الدم العبرى أغلى من العربى فقط؛ إنما يُقدّره الغرب بأكثر ممّا يُقدّر مواطنيه. تبدو علاقة الطرفين عطبًا نفسيًّا يستوجب العلاج.. كان يُشاع دومًا أن إسرائيل «جروٌ مُطيع» فى ذيل الغرب، اليوم يبدو التوصيف دقيقًا؛ لكنه معكوس. ربما كانت آلة الدعاية والابتزاز شديدةَ الفاعلية، أو كان تأثير اللوبى الصهيونى ضاغطًا بقسوة على الحكومات؛ لكنّ النتيجة أن سرديّة «ذروة الحضارة الإنسانية» تسقط فى امتحان البديهيات، ولا أثر فى التقويم النهائى لأيّة اعتباراتٍ سياسية أو شعبوية. ومن مفاعيل ذلك أن يتراجع نموذجها الثقافى والأخلاقى، لصالح صعود بدائل شرقية آخذة فى التبلور، وربما تصير إعادة التركيب معرفيًّا وقيميًّا حلقةً ضمن مُقدِّمات بناء منظومة عالمية جديدة.
 
عندما بدأ إخلاء المُستوطنين من غلاف غزّة، توزَّعت الاحتمالات بين التجهُّز للغزو أو الاقتراب من التهدئة، وأوحى الرسول القادم من وراء المحيط برجحان الثانى؛ ثم انكشف أنه خُدِع أو تورَّط فى التضليل عمدًا. التداعى الأخلاقى للولايات المُتّحدة وتابعيها تجاوز العسكرة والتسليح، ومهمَّة الشرطى أو كلب الحراسة؛ وانخرط فى بروباجندا تُمهّد للدم وتُبرّره. تحدث بلينكن من الأرض المحتلّة عن «دعشنة المقاومة» داعيًا لسحقها، ثم حضر «مجلس الحرب» مع عصابة نتنياهو المجنونة، كأىّ صهيونى مُتعطّشٍ لنهش الأكباد، وبعدما قُوبل برسائل مُحرجة من الوزير سامح شكرى وآخرين، عاد لخطاب السياسة فى جولةٍ عربية واسعة؛ بينما ملأ زميله لويد أوستن ما تركه من فراغٍ فى «تل أبيب». بات واضحًا أن جيش الاحتلال كان يترقَّب حدثًا كبيرًا؛ ليتحرّك نحو مُخطّط الإزاحة والتهجير، وقد سار خطوته الأولى بالفعل، ويستحيل أن يُرسَم ذلك أو يُنفّذ دون تنسيقٍ مع واشنطن. مُجدّدًا تسقط عباءة «الراعى الصالح»، فتنكشف المخالب والأنياب والسكاكين المربوطة على الخصر، ويُثبت أنه أقرب لذئبٍ لا حَمَل، وهذا كفيلٌ بتقويض صلاحية النظام الدولى؛ وقد صار حُماتُه يتقدّمون مواكب اللصوص.
 
يهبط بايدن فى إسرائيل؛ وسبقه إحباط دبلوماسيّيه لمشروع قرارٍ فى مجلس الأمن، فجر الثلاثاء. كانت الورقة روسيّةً وهدفها الهدنة الإنسانية، وقد سقطت بعشرة رافضين ومُمتنعين، بادّعاء أنها دُفِعَت بـ«الحبر الأزرق» دون تشاورٍ؛ وهم كانوا على وجهٍ ما يُصوّتون فى الحرب الأوكرانية؛ بينما يدعمون «مقلوب الصورة» فى فلسطين؛ وتبعوا ذلك بتعقيباتٍ بالغة البؤس والفجاجة.. تل أبيب لا تلعب دور كييف، ولا مُسوِّغ لقلب الموازين؛ لصالح الأيديولوجيا هناك والعنصرية هنا. إنهم مدينون باعتذارٍ لغزّة أو لموسكو؛ إذ لا يستقيم أن يُعلَّق الجرس بحسب الهوى. لعلّ الفصائل لم تحسب مُغامرتها فى العُمق؛ إلا أنها مارست حقًّا مشروعًا فى المُقاومة. كل القرارات الدولية المركونة على الرفوف تُدين واشنطن والغرب، وخنق أوسلو وإضعاف السلطة وبناء السدود أمام حلّ الدولتين تُدينهم، وعشرات آلاف القتلى والمصابين بهداياهم العسكرية المجانية، وصمةُ عارٍ تُلطِّخ تخليقاتهم الظالمة فى نظامٍ مُختلٍّ.. «وعد بلفور» كان ذروة انحطاط التاج البريطانى، ووعود بايدن اليوم تُعمِّد صورةَ «الغربى العارى» فى نهرٍ من الدم. كانت القضية اختبارًا دائمًا لمنظومة القِيَم الغربية، وكانوا يفشلون كلّ مرّة؛ ولن يكون التآمر على تصفيتها إلّا رسوبًا نهائيًّا، ونزولاً بكامل الجسد لقاع المُستنقع.. ليست أوّلَ سقطة، ولن تكون الأخيرة؛ إنما تظل الأفدح والأكثر تعبيرًا عن التوحُّش وانعدام الإنسانية، لأنها جريمةٌ من عُمر دولة، والذين صنعوها يُشرفون على فصولها بشراسةٍ لا تقل مع الزمن، ولأنهم يربطون أطراف الضحية ثم يضربون مع الجانى، ويشربون نخب الدم على شرف الأُمم المتحدة والقانون والمواثيق الدولية، ووَهم التفوُّق الأخلاقى والحضارى.
 
تُسوِّق إسرائيل أن تصفية حماس بداية الحل؛ على هذا المعنى سيكون السؤال الوشيك عن مآل القطاع؛ علمًا بأن أغلب الغزِّيين لا يُحبّون الحركة، وتضرَّروا منها، لكنّ مُعاناتهم من العدوِّ المُشترك أكبر وأكثر إرهاقًا للأبدان والأرواح.. لا سبيل لإزاحة عبء الكتلة البشرية الضخمة نهائيًّا، ومن دون ارتدادات؛ فالتطهير ليس مقبولاً من الغلاف العربى، والاحتلال الدائم فخٌّ لن يتحمّله الصهاينة؛ إذ تضرَّر الاقتصاد من أسبوعٍ ولا طاقة له بمُنازلةٍ طويلة، و«عباس» والسلطة وفتح ومنظَّمة التحرير لن يأتوا على ظَهر الدبّابة؛ وإن فعلوا لن يُرحَّب بهم، يتبقَّى أن تُلقَى غزَّة فى حِجر الأُمم المتحدة؛ لتصير المنظومة شُرطيًّا فى دولاب الدولة العبرية. كل الخيارات تُنذر بمزيدٍ من العنف، وباستفحال المقاومة بدلاً من استئصالها، والطمع فى ترسيم الشرق الأوسط وفق أهواء «نتنياهو» وشُركائه الحمقى والمخابيل، لن يمرَّ على مليونى جثَّة، وأضعافها ممَّن يقبضون على أراضيهم ولا يُفرّطون فى فلسطين، وهى ليست زنزانةً ستخلو من المساجين بمجرَّد فتح الباب، أو تفجيره.. التعقيد أكبر من خيالات الساعين لتكرار صولات «شتيرن والبالماخ والهاجاناه» فى زمن النكبة؛ لكنهم يُحاولون بدمٍ بارد ويقينٍ غشوم. الغرب إمّا أبرم اتّفاقًا من وراء ستار، أو ينتظر ما تُقرّه «تل أبيب» ليختمه بالنفاذ؛ ولأن ما يُرضى فلسفة الاستيطان، بما فيها من إلغاءٍ وإحلال، بالضرورة ليس فى صالح أصحاب الأرض، فإن مهمَّة «الرجل الأبيض» أن يكون شاهدَ زُورٍ، وأن يُحصِّن التزوير بسلاحه ومركزه المعنوى.. إنه انحلالٌ كامل من خطاب الحقوق والحريات، وتراكماته وعيًا ومُمارسة، لصالح ارتدادٍ عامدٍ إلى كولونياليّة وظيفيّة عمياء، وبالوكالة، ولا تخلو من مُقامرةٍ بسُلطة النموذج، على معنىً ليبرالىٍّ مُعولَم.
 
قال الوزير أوستن: «نقف مع إسرائيل كما فى أوكرانيا» دون شعورٍ بالتناقض؛ بل إن الرئيس الأوكرانى نفسه يدعم تل أبيب؛ كأنه بأسنان الشرق الأوسط يقضم أطراف سرديّته فى أوراسيا. يمنح الجميع «بطاقة بيضاء» لوحشيّة نتنياهو، وفى سبيل ذلك لا مانع من الكذب: كأن تُروّج CNN و«بايدن» لمزاعم الأطفال مقطوعى الرؤوس، أو ادّعاء أن القضاء على المقاومة لفائدة العدالة والأمن، وإعادة إنتاج حكايتى «داعش والهولوكوست» لاختراع مظلوميّة صهيونية غير مُتوافرة بالوقائع. الدعم المُفرط بالسلاح والإعلام، وحماسة الدعوة لدكّ البيوت وحَفر الأرض، ورفع أعلام النجمة الزرقاء على مرافق أوروبا، كُلّها من مفردات السقطة الأخلاقية. يعلم الجميع أن القضية سابقة على «حماس»، وأن العلّة فى تغييب حقوق الفلسطينيين؛ لا فى مُمارسات الفصائل، ولا يردعون حكومات اليمين عن مساعيها لسلامٍ غير مُكلّفٍ؛ إنْ باتفاقات التطبيع، أو بمحاولات القَضم والتطويع.. نزف الغزيّون دمًا وأرواحا لأيامٍ دون ماء أو كهرباء، وصار «الجوع» فجأة خفيفًا كالريشة على ميزان الأنجلوساكسون للإنسانية والمواقف الصافية. عصابة التنوير والمدنية تشدُّ على أيادى بعضها؛ ثم تقفز فى الوحل كمن ينتحر عمدًا.
 
الجنون الراهن يشى بأن «طوفان الأقصى» كانت حلمًا إسرائيليًّا، ولو لم تُحقّقه الفصائل ربما كان نتنياهو سيُلفّقه بشكلٍ أو آخر. النتيجة واحدةٌ، بالعملية أو دونها؛ صحيحٌ أنه لا يمكن إغفال أثر لعبة المحاور، وصَرف رصيد القضية لتوازناتٍ «فوق فلسطينية»؛ لكنّ تل أبيب نفسها هى التى أجهزت على أوسلو، وأضعفت السلطة، ورتَّبت البيئة السياسية ليكون البديل عقائديًّا، واعتبرت ذلك ذُخرًا لها، وضمانةً لإبقاء الجغرافيا تحت شرط الفُرقة والتشرذم ونزاعات المصالح. الدولة العبرية تحصد ما زرعته، والفصائل تُعاين أثر الانقسام والمُناكفات، والانفضاض من حول الصيغة الوطنية الجامعة، إلى دوائر أيديولوجيّة وتحالفاتٍ ظرفيّة تنضبط بمواقيت بعيدة. المحنة كلُّها على عاتق المدنيِّين؛ إذ يُسدِّدون قيمةَ بضاعةٍ لم يطلبوها، ويُواجهون الحجز على أملاكهم وحياتهم وفاءً بأعباء لم يتسبَّبوا فيها، ويُعاينون الموت كلَّ لحظةٍ، بينما يعيش المُختصمون فى بيئاتٍ رغيدة وآمنة؛ لكن كلّ ذلك ليس جديدًا، وقد صار طقسًا هيّنًا من طول ما اعتاده أهل غزّة. نزيف الأخلاق فى تلك المرّة يربو على نزف الشرايين: العالم المُتحضّر يحتضر أخلاقيًّا، ويرتدّ بدائيًّا كأن لم يمسسه شىءٌ من تمدُّنٍ أو إنسانية، وكأنه ضبعٌ لا يُحسِن إلّا صيد الجُثث. انكشف الغطاء عن خطاب الاستعلاء الأخلاقى، فاتّضح، على وهج القذائف فى سماء غزة والحرائق فى أرضها، أنه مُجرّد «قاتل مأجور»، كبرت دُولُه أم صغرت؛ كلّها لم تعد مرئيّةً من منظور القيم والإنسانية.. لا بؤسَ أكبر من أن يحتشد «العالم الأول» لتمرير العنصرية والبطش ومحارق النازية الجديدة، وأن ينحدرَ عن سبق إصرارٍ وجلافة، إلى رُتبة قُطَّاع الطرق وشبّيحة المافيا.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة