أكرم القصاص - علا الشافعي

محمد حبوشه

ياسر جلال .. روعة التقمص والمعايشة الكاملة للشخصية

الجمعة، 06 مايو 2022 04:35 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

إن على الممثل وفقا لمنهج "ستانسلافسكي" أن يؤلف فى ضوء ما لديه من معطيات سيرة كاملة للشخصية التى يؤديها، وأن يجعل فى ذهنه صورة حسية دقيقة لسائر ظروفها المرتبطة بما يجرى على الشاشة، ولو ارتباطا غير مباشر، وهذه مهمة صعبة ولكنها ممكنة إذا اكتملت فى الممثل شروط الإعداد المهني الجيد، والمعرفة الدقيقة لجوهر فن التمثيل الحقيقي، وعلى أساس هذه المعرفة يستطيع الممثل أن يكمل النص بشتى الوقائع بمخيلته وما تحفل به ذاكرته من صور وانطباعات، وقد تستلزم طبيعة الدور أن يخرج الممثل إلى المجتمع ليراقب عن قرب أناسا يماثلون بطله فى المهنة أو الوضع الاجتماعى أو الحالة الصحية وغير ذلك .

وظني أن النجم "ياسر جلال" الذي أعرفه عن قرب وأعلم حجم عناده المهني في قبول التحدى، قد درس شخصية الفريق أول عبد الفتاح السيسي من كل الجوانب ليقدمها في صورة طبق الأصل على المستوى النفسي والاجتماعي والثقافي، حيث تصدى بحرفية متقنة لشخصية تتمتع بكاريزما خاصة جدا، وكأنه يقول لنا: إن الهدف الأساسى الذى يهدف إليه فننا هو خلق الحياة الداخلية للروح الإنسانية والتعبير عنها بصورة فنية، ولكن التعبير عن حياة باطنية ولا شعورية دقيقة لابد أن تكون لك السيطرة التامة على جهازك الجسمانى والصوتى، ولا تستخدم القوالب الجاهزة التى تؤدى إلى الآلية، تماما كما فعل في لعب هذا الدور الذي يعد نقطة تحول في حياته المهنية، فليس أصعب على الممثل من أن يجسد شخصية معاصرة من روح ولحم ودم تعيش بيننا، وأن يجسد أحداثا تاريخية حدثت بالفعل فى عمل فنى، فأن تجسد شخصيات تاريخية قديمة أمر صعب، ولكن أن تجسد أحداثا تاريخية مع شخصيات موجودة بالفعل فى أرض الواقع أمر فى غاية الصعوبة، خاصة تجسيد شخصية (رئيس جمهورية مصر العربية) وهو فى موقعه.

ولكى تتحقق القرابة بين الممثل والشخصية التي يصورها، فعلى الممثل أن يضيف بعض التفاصيل الملموسة المستمدة من تجاربه وخبراته السابقة، ومجرد أن ترسخ تلك الصلة بين الممثل وبين حياة الشخصية سوف نجد أن هذا الدافع أو الحافز الداخلى الذي أضافه (جلال) يأتي ضمن سلسلة من الأغراض والأحداث الطارئة الناتجة عن التجربة الشخصية والحياتية التي يعيشها هو نفسه على مستوى الجدية والحزم والالتزام الذي وجده المخرج (بيتر ميمي) في شخصيته الطبيعية كممثل ما جعله من اليسير عليه أن يؤدى ما يمكن تكليفه بأدائه على الشاشة.

إن عين الممثل التى تنظر إلى الشىء وتراه تجذب انتباه المشاهد وتستطيع بذلك أن تكون علامة تحدد للمتفرج ما ينبغى أن يراه وما يسعى إليه الممثل، أما العين الفارغة فعلى العكس تماما من ذلك فهى تشتت انتباه المتفرج وتصرفه عن المشهد، فلابد أن يكون الممثل فطنا يقظا، ولهذا كان أمام (ياسر جلال) تحد كبير، في إما أن يعيش داخل نفسه أو خارجها، إنه يعيش إما حياة واقعية أو متخيلة، وهذه الحياة المعنوية تقدم موردا لاينضب من مادة التركيز الداخلى، لذا فقد تخلص من كافة التقلصات التى بلا داعى، وطور ذلك بالتدريبات حتى يصبح الاسترخاء عادة له من عادات عقله الباطن، وليس هذا فحسب بل إنه جعلها عادة مألوفة لا فى الأجزاء الأكثر هدوءا فى دوره، بل بصفة خاصة الأجزاء التى يبلغ فيها المجهود العصبى والجسمانى أقصى مداه، إذ لا ينبغى على الممثل أن لا يوتر عضلاته، فقط بل ينبغى أن يبذل مجهودا أكثر لارتخائها وذلك بالإكثار من تمارين الاسترخاء.

 

يحدد ستانسلافسكي مسبقا هدف البحث في المضامين وأفعالها من خلال التمرين مع الممثل، وكيف عليه أن يكون مقنعا مقبولا متلائما مع نفسه دوره بكامل شكلا ومضمونا وبمنطق لا يقبل الشك، لهذا يحتم عليه أن يعيش الواقع على الشاشة لا أن يمثله، هذه الحتمية ألزمت (جلال) أن يكون حيا، حيويا، يتنفس الحياة بصدق ويضفي على الشاشة حضورا حيا، ذو نظام يستند إلى القوانين الطبيعية في الحياة، بفضل امتلاكه التلقائية المطلوبة التي تجعل من الصعوبة عادة، وعادة سهلة تمتزج مع شروط التمثيل في (المزاج، الضبط، العدالة، الابتعاد عن الميكانيكية)، وهنا يكمن الإبداع في مفهوم ستانسلافسكي: (أن تكون طبيعيا) ذا موهبة للوصول إلى شخصية الممثل الناجح الذي يمتلك الشروط التي حددها والتي يعتبرها مهمة جدا في فن التمثيل.

ومن خلال مشاهدتي حلقات (الاختيار 3) أستطيع القول إن (ياسر جلال) التزم منهج ضبط النفس، انطلاقا من أن الممثل يشعر وهو أمام الجمهور على الشاشة تحت الأضواء بأنه ملزم سواء أراد أو لم يرد بأن يبذل قدرا لا داعى له من الجهد والحركات التى يفترض أنها تعبر عن مشاعره، ومع هذا يبدو له أن ما يبذله ليس كافيا ويترتب على ذلك أننا نرى فائضا من التمثيل الذى لا لزوم له، على عكس (جلال) الذي جاء أداؤه طبيعيا مركزا للغاية، غير مشحون بطاقة تزيد عن الحد بقدر ما يجنح دوما إلى منطقة الهدوء التام التي يتمتع بها الرئيس السيسي على مدار مشواره العسكري والمدني.

يقيني أن ياسر جلال قام بدراسة شخصية الرئيس السيسي منذ لحظة بدء تكليفه بتلك المهمة، وفي هذا الصدد أقول: إن الممثل الجاد لا يستطيع أن يستهين بحالة التمثل (الدراسة) التي تسبق لحظات التمثيل؛ إذ أن التمثل هو دراسة استبطانية للشخصية من الداخل والخارج في نفس الوقت، وترديد الحوار الذي تنطق به ليس هو ترديد كلمات فقط، وليس هو فعل أو شروع في فعل فقط، إنه حالة من التلبس كاملة؛ هى استعادة لتجسد ونبض حياة يستعين عليها الممثل بما في أعماقه من أحاسيس متجسدة؛ هى حالة ميلاد جديدة، ومن هنا نتذكر ملاحظة لأفلاطون يقول: (إنه يوقظ الإحساسات ويغذيها ويقويها ويعرقل حركة العقل)، إن رأي أفلاطون في الشاعر ينطبق تماما على الممثل في حالة التمثل أي دراسة الأبعاد المختلفة للشخصية.

ولأنه ليس من اليسير أن تخترق عالم الجنرالات، وتتعرف على طبيعة حياتهم العسكرية في عمومها، والتى عادة ما يغلب عليها الانضباط والصرامة والعزيمة القوية فى كافة النواحى، فإنه بالقياس يصعب جدا من أن تعرف أو مجرد أن تقترب من العالم الروحي الخاص بهم، فعلاقة الإنسان بربه تبدو غاية في الخصوصية، وربما تحتاج منك إلى مجهود خرافي حتى تقحم نفسك فى محاولة للوصول إلى الطقوس الروحانية لأى إنسان، لكن (جلال) استطاع أن يصل إلى أعماق روح (السيسي) وأن يرسم تلك الابتسامة التي لاتفارقه، والتي تؤكد على إنه العبد البسيط الفقير إلى الله دوما كما يسر بينه وبين نفسه، والذى إذا ذكر ربه أضاء وجه ولمعت جبهته، وارتسمت السماحة والبشاشة على جبينه الغض الندي، إن ابتسامة جليلة لاتفارقه مصحوبة بوقار وأدب جم، وهى ليست دلالات أو إشارات ترمي إلى الوسامة التى يعنيها البعض، بل إنها أنوار ربانية يصطفي بها المولى بعض عباده المخلصين والودعاء الطبيبن.

 

استطاع (ياسر جلال) أن يجسد بحرفية عالية شخصية رجل الأقدار (عبد الفتاح السيسى)، وعبر جيدا عن ذلك الرجل العسكري ذى المسحة الإنسانية، والمشاعر الدافئة التى تطغى فوق صرامة الجندي، كما يبدو من عوالمه الروحية الظاهر منها والباطن عبر لغة خطابه التي جعلت المصريين يلتفون من حوله، وحول (ياسر جلال) في أدائه، وهذا ليس فضل لأحد عليه، فالرجل استطاع أن يتربع على عرش قلوب المصريين فى فترة وجيزة، بعدما أعاد ضخ دماء الوطنية من جديد فى شرايين مصر والمصريين البسطاء، وأعاد نبض الحيوية لوطن وشعب من جديد، بعدما كان المصير المحتوم هو النهاية المأساوية والضياع والانهيار، بل الخروج من بوابة التاريخ الخلفية بلا عودة.

إذا نحن أمام شخصية (كاريزمية) يتمتع بها السيسي، وربما كانت (الكاريزما) وصف يطلق على الجاذبية الكبيرة لشخصية آسرة، أو إنها ذلك الحضور الطاغي الذي يتمتع به بعض الأشخاص دون سواهم من البشر، وهو ما يمنحه القدرة على التأثير على الآخرين إيجابيا، والارتباط بهم جسديا وعاطفيا، بل وثقافيا أيضا، وتلك الصفات جميعها تندرج تحت مايسمى بـ (سلطة فوق العادة) أو سحر شخصي، وفوق كل هذا ربما كانت شخصية تثير الولاء والحماس أكثر، وهو ما أوصل (ياسر جلال) إلى جوهر الشخصية التي جسدها ببراعة فائقة.

وقد اعتمد ياسر جلال في أداء شخصية الرئيس السيسي على أن الشخصية (الكاريزمية) هى تلك التي تمنح الآخر طبيعية خاصة وقدرة فائقة في القيادة والإقناع، وهو من شأنة أسر قلوب ووجدان الآخرين، كما أنها تمتاز بالقدرة على إلهام الآخرين عند الاتصال بهم، وجذب انتباههم بشكل أكثر من المعتاد، وليس هذا فحسب فإنه يبدو لنا شخصية مميزة تتمتع بعدة أساليب يستخدمها فى حواراته مع الآخرين للوصول معهم لمايريده هو وليس هم، وهو بدا لنا واضحا جليا من خلال (تون الصوت) الذي أتقنه (جلال) ووصل بحرفية عالية مناطق القرار (في حواراته مع المعزول محمد مرسي)، والجواب عند السيسي (في أثناء لقائه الشهير بخيرت الشاطر) عندما جاء مهددا جيش مصر العظيم.

التزم (ياسر جلال) الأسلوب الذي يميز السيسي: في أنه يتسم بالابتعاد عن الجدال غير المجدي وكثرة المحاورة، وعادة ما تكون كلماته دائما فى العمق، فأفضل طريقة لكسب الآخرين والتأثير عليهم أن تتجنب الجدال معهم، وأن تحاول اختصار الحديث كلما أمكن، لأن الجدال يضعف ثقة الآخرين بك، وبالتالي يضعف قوة تأثيرك عليهم، وبقدر من التأمل البسيط يمكنك أن تكتشف بأن كل ما مضى من استفهامات ودلالات يشير بقوة إلى شخصية (الرئيس عبد الفتاح السيسى) بتحليل لغة وطريقة أداء (جلال) الأسرة للقلوب، بل يبدو واضحا أن مقومات (الكاريزما) تتوفر لديه بقدر يمنحه الطاقة الخلاقة المبدعة في أحلك الظروف وأعقدها، ليبدو لك ذلك الشخص السهل الممتنع، الذي تحيطه هالة نورانية تكسوها نفحات روحانية مستمدة من صحيح الدين، ورحم العادات والتقاليد التي يرمي دوما لتأصيلها في نفوس الجماهير التواقة إلى ربط الماضي بالحاضر في ثوب يجمع بين الأصالة والتجديد.

بدت لي لغة الجسد التي تعني بتلك الحركات التي قام بها (ياسر جلال) في استخدام يديه أو تعبيرات الوجه وطريقة المشي بأقدام ثابتة ونبرات الصوت، أو هز الكتف والرأس، والتي من خلالها يفهم المخاطب بشكل أفضل المعلومة التي يريد أن يوصلها السيسي، رغم أنه يبدو لك بأنه من بعض هؤلاء الأشخاص الحذرين، أو الأكثر حرصا، أولئك الذين يستطيعون تثبيت ملامح الوجه ولا يريدون الإفصاح عما بداخلهم فهم المتحفظون، ولكن يمكن أيضا معرفة انطباعاتهم من خلال وسائل أخرى، ويبدو لي أن (جلال) لامس عن قرب أن طقوس السيسي الدينية التي يمارسها بطيب خاطر هى ملاكه الحارس الذي يلازمه في كل مساعيه، وهى التي تصنع له الرؤية الصائبة والقدرة على تحمل الأعباء والمشاق، ومن ثم فهى تحدد له دائما معالم الطريق الصعب في كيفية صناعة مستقبل أمة قوامها خير أجناد الأرض، لذا كتب لجلال النجاح الفائق في تجسيد الشخصية.










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة