أكرم القصاص - علا الشافعي

ناهد صلاح

دفاتر مايا.. آن وقت الحساب

الأربعاء، 15 ديسمبر 2021 12:39 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

 أكثر من 40 عامًا ومازال المشهد السينمائي اللبناني، يطرح حكايات الحرب الأهلية في لبنان ويثير أسئلتها القاسية، ربما خوفًا من النسيان أو التراكم أو حتى التأقلم، وربما لأن حكايات الحرب منقوصة؛ لم تكتب كاملة، أو لأن الجرح لم يلتئم وأن الواقع الحالي كالحرب، يزداد قسوة ويحتاج إلى نوع من التأمل.. لعل غموض الماضي والحاضر ينكشف في أفلام لم تتعامل أغلبها مع الحرب كغيمة عابرة في الفضاء السينمائي، إنما وثقت بشكل وآخر لمعاناة بشرية في واقع كابوسي لم ينته بعد.

 فيلم "دفاتر مايا - Memory Box"، من إخراج جوانا حاجي توما وخليل جريج (حصل مؤخرًا على جائزة سعد الدين وهبة لأحسن فيلم في مسابقة آفاق السينما العربية بمهرجان القاهرة السينمائي الـ 43) يعد واحدًا من هذه الأفلام التي تناولت الحرب الأهلية، لكن بمعالجة مختلفة ومميزة.

 إنه ليس فيلمًا سياسيًا أو تحليليًا يرمي إلى نقطة معينة، فارتكازه على الحرب يأتي من زاوية إنسانية محضة، تقدم في سرد بصري لافت، علاقة اللبناني بالماضي، بالحرب وذكرياتها، حيث يشتغل على الحاضر المأهول بتفاصيل كثيرة من الماضي، وبمعادلة أن هناك واقع قديم أفضي إلى النتيجة الحالية، وأن القصة تسكن الذاكرة وتأبى أن تغادرها.

 لا يقول الفيلم ما هي بيروت، أو ما هي الحرب، لا يعطي تفسيرًا، بل رواية تحتوي استفهامات كثيرة عن المدينة ونبضها والسِيَر الذاتية التي يتضمنها، فهناك أكثر من سيرة: الجدة والأم والابنة، أجيال متعاقبة وكل جيل يختلف عن الأخر بمقدار حساسيته تجاه الحرب وخبرته بها، الجدة عاشت الحرب وشجعت العائلة على الخروج من لبنان، وبالتالي فإن الأم صارت في كندا، وابنتها المراهقة لا تعرف الحرب ولا حتى تتحدث اللغة العربية بشكل جيد، إنها تنتمي إلى جيل تائه بين ماض لا تستوعبه في بيروت، وقلق وعدم إدراك تعيشه في حاضرها بكندا.

 الابنة هنا هي إشارة الانطلاق التي يستعيد الفيلم بسببها الذكريات حتى لو كانت هذه الذكريات مؤلمة، ترفض الأم وهي المصدر الأساسي للحكاية، استرجاعها وعيشها مجددًا، تريد التعافي، ولكن كيف يحدث هذا التعافي بينما الواقع يفاجئها دومًا بكارثة جديدة، حتى أن مخرجا الفيلم، حسب تصريحاتهما الصحفية، قدما هذا الفيلم إثر انفجار مرفأ بيروت، لأنهما اعتزما هذه المرة المحاسبة وليس إظهار الصدمة أو المطالبة بالصمود.

 المحاسبة هنا جاءت من جيل جديد يرغب في الحياة والحب، يحيا في جغرافيا مختلفة وزمن مختلف، ليلتقي الماضي والحاضر في صياغة سينمائية ذكية ومتبصرة، أتقنها الثنائي الموهوب، جوانا حاجي توما وخليل جريج، هي إضافة إلى رصيدهما الحافل بأفلام مثل: أسميرنا (2016)، النادي اللبناني للصواريخ (2012)، بدي شوف (2008)، طفولة (2006)، يوم آخر (2005)، رماد (2003)، خيام 2000-2007 (2008)، البيت الزهر (1999)، وغيرها من أفلام متنوعة بين الطويل والقصير، الروائي والوثائقي. 

 ولد "دفاتر مايا" من سطور رسائل وأشرطة كاسيت، كانت المخرجة أرسلتها في سنوات مراهقتها إلى صديقتها "ليز" في الثمانينيات القرن العشرين خلال الحرب اللبنانية، لنكتشف من خلال أحداث الفيلم قصة حب عاشتها الأم على خلفية الحرب المتوحشة، تلك الحرب التي قضت على حبها بعد أن انضم حبيبها للكتائب وأصبح طرفًا في الحرب اللعينة، فـ"مايا" لبنانية هاجرت إلى مونتريال بكندا منذ أكثر من 30 عامًا، يصلها الآن بعد أن صارت أمًا لفتاة هي "أليكس"، شحنة غير متوقعة من صديقة قديمة تعيش في فرنسا، الشحنة هي عبارة عن صندوق يحتوي بعض شرائط الكاسيت والصور، بينما ترفض مايا والجدة فتح الصندوق الذي وصل في يوم ثلجي ناصع البياض، كأن بياض الثلج يشير إلى النسيان الذي تصورت الجدة أن تسلل إلى ابنتها، لكن الحدث يتطور، حين يقود الفضول الحفيدة لتفتح الصندوق وتكتشف خفايا لم تكن تدركها في حياة أمها، إذ يتبين حالة التوتر بين الأم والابنة، الناجم عن تركيبات متباينة للشخصيتين، الأم تخشى الماضي وتحرص على إخفاء قصة حبها القديمة، والابنة تستمد شجاعتها من عصرها الحديث وتُفضل الإفصاح والمواجهة.

الابنة/ الحفيدة "أليكس" هي من يخاطبها الفيلم وهي من تصنع الحدث، بعد أن تصور بهاتفها محتويات الصندوق وتحول الصور إلى لقطات متحركة، وهنا تعثر على إجابة عن سر حزن أمها الخفي في عيونها، وهنا يتحول الحدث من كندا وثلوجها إلى لبنان ونار الحرب الأهلية في ثمانينيات القرن الماضي.

من تفاصيل القصة نتوقف عند الملامح الفنية والجمالية والدرامية، التي صنعها الثنائي في فيلم وقف عند الحد الفاصل بين ذاكرة الماضي وأسئلة الحاضر، فهو ليس فيلمًا لبنانيًا آخر عن الحرب، بل عمل إبداعي يغوص في متاهة العلاقات المرتبكة بالذات الموزعة بين السابق واللاحق. إنه فيلم مصنوع بشفافية ومرارة وقسوة: شفافية الانخراط الصادق في تفاصيل إنسانية، ومرارة الخيبات والانكسارات التي صنعت جيلًا (أو أكثر) من اللبنانيين، وقسوة أن يكون المرء عالقًا في فراغ وطن أو في ارتباك مسار حياتي.

لا يخوض مباشرة في الحرب اللبنانية، لكنها حاضرة بقوة ليس في البنية الدرامية للفيلم فقط، لا يصنع الثنائي جوانا حاجي توما وخليل جريج مرافعة سينمائية ضد الحرب، بل يقدمان فيلمًا تتنوع فيه ما بين كتابة النص القوية والعمل البصري السلس في اعتماده إيقاع هادئ، تعتمل فيه حالات الغضب المكبوت والعصبية وملامح الارتباك والخيبات، ثم الأمل في غد أفضل، كل هذا حضر في أداء تمثيلي وهنا أخص بالذكر منال عيسى وحضورها بحساسية فنية وإنسانية ملحوظة، ومدركة لما تحتويه الشخصية من ثقل درامي وإنساني.

على هذا الأساس، فثمة اهتمام كبير برسم الشخصية وإبراز دورها وحالاتها النفسية والمناخات التي تعيش فيها، ما أسهم في إضفاء الحيوية على الفيلم إجمالًا، ليبقى واحدًا من الأفلام اللبنانية المترعة بالجماليات فنيًا وتقنيًا ودراميًا، استخدامه للتحريك وتقنيات الانترنت الحديثة، عمل على إثراء جماليات الصورة، إضافة إلى انشغاله دراميًا بهموم الفرد وهواجسه وكذا بالتحولات النوعية في المجتمع بكل حيرته وتشوشه، وجنوحه إلى ضرورة الحساب، بل وأن هذا وقت الحساب في حرب هي جريمة أنهشت جسد بلد متهالك، منخرط في لعبة الموت والانشقاقات.










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة