كيف قاوم العالم "الموت الأسود"؟.. الطاعون فى العصور الوسطى جاء من الهند والصين واكتسح القارة العجوز.. أوروبا تخسر فى القرن الـ 15 حوالى 35 مليون إنسان فى سنتين.. والحجامة ظلت مسيطرة على محاولات مكافحة الوباء

الأحد، 09 أغسطس 2020 12:00 م
كيف قاوم العالم "الموت الأسود"؟.. الطاعون فى العصور الوسطى جاء من الهند والصين واكتسح القارة العجوز.. أوروبا تخسر فى القرن الـ 15 حوالى 35 مليون إنسان فى سنتين.. والحجامة ظلت مسيطرة على محاولات مكافحة الوباء الموت الأسود
كتب أحمد إبراهيم الشريف

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
عانى العالم القديم من كثير من الأوبئة، لكن "الموت الأسود" كان الأكثر خطرا وضررا، لقد كان الهاجس الذى أفزع الجميع سنوات طوال، وفى كتاب "الموت الأسود" للكاتب جوزيف بيرن الذى صدرت ترجمته عن مشروع "كلمة" للترجمة فى دائرة الثقافة والسياحة - أبوظبى، والذى ترجمه إلى العربية عمر الأيوبى حديثا مفصلا عن الطاعون، نتعرف على جانب منه.
 

الموت الأسود فى القرون الوسطى

تفشّى الطاعون فى وقت ما فى ثلاثينيات القرن الرابع عشر من موطنه المعزول فى أراضى آسيا الوسطى الشاسعة، ومع أنه ربما انتشر شرقاً فى الصين وجنوباً فى شبه القارّة الهندية، فإن السجلات الواردة من هذه المناطق لا تخبرنا إلا بالقليل.

بيد أن المرض انتقل شرقاً من دون شك، وظهر فى المناطق الشرقية من العالم الإسلامى فى أواسط أربعينيات القرن الرابع عشر. وامتدّ إلى الجنوب الغربى حول البحر الأسود أو عبره، فضرب القسطنطينية والأطراف الغربية للبحر المتوسط فى أواخر سنة 1447.

وفى ذلك الوقت بدأ المسلمون والمسيحيون يسجّلون ما عرفوه عن منشأ الطاعون ومساره المبكّر، والأهوال التى لم يعودوا راغبين فى أن يشهدوها.

الموت الأسود
 
انتقل الوباء مع التجّار والقوافل والجيوش والحجّاج والبعثات الدبلوماسية، وعلى متن السفن المحمّلة بالبضائع والمسافرين من موانئ المناطق التى ضربها الطاعون، فتفشّى فى صقلية ومرسيليا وبيزا وجنوا.
 
وعبر إلى المناطق الداخلية على متن القوارب والصنادل على طول الممرّات المائية، وعلى متن العربات فى الطرقات ودروب الجياد وعلى حيوانات الحمل. واجتاز جبال الألب والبيرينيه والأبنين والبلقان، والقناة الإنجليزية وبحر الشمال. ووصل فى نهاية المطاف إلى السهول الكبرى فى أوروبا الشرقية والمدن الروسية فى حوض نهر الدون وموسكو نفسها.
 
وقد وصف شهود عيان تطوّر المرض بين الناس وفى المجتمعات، ومعاناة الضحايا والناجين على حدٍّ سواء، والخراب الاقتصادى والاجتماعى الرهيب الذى خلّفه الطاعون بعد انحساره.
 
وسجّل الرحالة والأطبّاء والموظفون المسلمون الدمار الذى حلّ فى المدن الإسلامية من بغداد إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والأندلس. ويبدو أن قليلاً من الجيوب المعزولة نجت، وربما مات فى النهاية أربعة من بين كل عشرة أشخاص.
 
وأصيب آخرون بالمرض لكنهم عاشوا، وربما اكتسبوا بعض المناعة خلال هذه العملية، وفى النهاية فقد العالم الغربى نحو 35 مليون نسمة، سقط معظمهم فى غضون سنتين.

وتضرّع الأتقياء والتقيّات، وقدّم الكهنة والأطباء الرعاية للمرضى والمُحتضَرين، وانتقد الأساقفة خطايا البشر التى أغضبت الرب واستنزلت سخطه المتمثّل فى الطاعون. وبعد انحساره تاب قسم من الناس، واستغلّ آخرون الضعفاء بلا رحمة، وتنفّس الجميع الصعداء بانتهاء البلوى، لكن أهوال الفترة الممتدة بين سنتى 1347 و1352 لم تكن إلا البداية فحسب. ومع أن الطاعون لم يصل ثانية البتة إلى هذا الحدّ من الانتشار والفتك، فإنه ظلّ يتفشّى بين الحين والآخر بينما أشرفت القرون الوسطى على نهايتها فى الغرب، ويبدو حيث تكون السجلات موثوقة أن الطاعون كان يتفشّى كل عشر سنين تقريباً، وأن الوفيات تراوحت بين 10 و20 بالمئة بدلاً من 40 أو خمسين بالمئة.

 

ويبدو أن الموت كان أشد فتكاً بالفتيان من البالغين، وبالنساء من الرجال، مع أنه لم يكن أحد يتمتع بالمناعة.

 

وقد أدى هذا الوضع إلى عدم تزايد السكان لمدة قرن ونصف القرن، لكنه حثّ أيضاً على إدخال العديد من التغييرات على السياسة العامة التى ترمى إلى التقليل من احتدام الطاعون – أو حتى الوقاية منه، وتراوح ذلك من تحسين المرافق الصحية والرعاية الصحية إلى الحجر الصحى والإنذار المبكّر، وتكيّف الحكومات المحلية والملكية مع النظام الجديد الذى يتكرّر فيه تفشّى الوباء، حاولت مهنة الطب أيضاً التعامل مع المرض أيضاً، لكن نظرياتها ومعالجاتها كانت قديمة بالفعل وعديمة الجدوى.

 

ومع ذلك واصل كل جيل ثقته فى الأطباء وأنظمتهم الغذائية وأدويتهم وتدابيرهم. وعلى الرغم من فشل رجال الدين فى درء غضب الرب، فقد واصل الناس ثقتهم أيضاً فى المسيحية والإسلام. وللإصلاح الدينى الذى أدى إلى انقسام الكاثوليكية فى أوائل القرن السادس عشر جذور عميقة فى الاستياء الذى أعقب الطاعون، لكنه لم يتطوّر إلا بعد مرور قرن ونصف القرن على تفشّى الوباء لأول مرة. ولا شك فى أن البروتستنت الأوائل سعوا إلى تنقية الدين وكنيسته لا الحلول محلها.

الموت الأسود
 

الطاعون فى أوائل العصر الحديث

فيما كانت القرون الوسطى تفسح المجال لتغيّرات عصر النهضة وابتكاراته، والكاثوليكية تتصارع مع تحدى البروتستنتية، استمرّ الطاعون فى التفشّى بين الحين والآخر. لكن مع انبلاج أوائل العصر الحديث، لاحظ الناس أن هذا المرض أصبح محدوداً على نحو متزايد فى المناطق الحضرية، ومع نمو حجم المراكز التجارية والحكومية والإدارية والتعليمية والصناعية والثقافية وتزايد تعقيدها، واصل المسؤولون والحكام اتخاذ الإجراءات المضادّة لهذا المرض الوبائي، ووسّعوا نطاق أنشطتهم وحدّتها، فأنشأت حكومات المدن المجالس الصحية والهيئات القضائية للإشراف على أنظمة الإصحاح والحجر الصحى فى المدن والمناطق التى تديرها.

 

وموّلت مستشفيات الطاعون ومصحّات الأوبئة لعزل المرضى وأغلقت الموانئ والأنهار لوقف حركة المرور الملاحية المميتة. ووضعت السياسات والآليات لعزل المرضى – بل حبسهم – وعائلاتهم فى بيوتهم. ولأنها رأت أن جذور تفشيات الطاعون المحلية تعود إلى الأحياء الفقيرة، فقد كانت تغلق هذه الأماكن عند أول بوادر ظهور المرض، وتحكم على قاطنيها بملازمتها والمعاناة فى حين تحمى فى الظاهر المدينة على العموم.

 

وتبادلت الحكومات الصغيرة والكبيرة الأفكار وتعلّمت من بعضها بعضاً عندما أدركت جميعاً أن ليس فى استطاعة أى منها العمل بمفردها لوقف حركة الطاعون الذى لا يقرّ بأى حدود سياسية.

 

فى الوقت نفسه، كانت الجيوش الدولية التى تفشّى فيها الطاعون تعبر أوروبا الوسطى بكثرة، وتنشر الوباء مثلما تنشر السلب والدمار والقتل بالسيف. بل إن الطرق التجارية استمرّت، حتى فى زمن السلم، فى تسهيل نشر الطاعون ووجد المهرّبون الذين تزايدت حنكتهم سهولة فى تجنّب الحواجز التى وضعتها السلطات بنية حسنة. فلا عجب أن تكون آخر المدن الأوروبية الغربية الكبرى التى تعانى هى الموانئ التجارية مثل أمستردام ولندن ونابولى ومرسيليا، أو أن يستمر الطاعون فى التردّد على الموانئ العثمانية فى البحر المتوسط بعد مدة طويلة من اختفائه من أوروبا.
 
عندما ضرب وباء الطاعون أوروبا الجنوبية للمرة الأخيرة، فى مرسيليا فى سنة 1720، لم يكن الطبّ أكثر قدرة على التعامل مع المرض مما كان عليه فى سنة 1350، وعلى الرغم من النهضة والثورة العلمية، فقد ظلت نماذج وممارسات الطبيبين اليونانيين القديمين أبقراط وجالينوس تشوب التعليم الطبى والممارسة الطبية، وبقى إجراء الحجامة القروسطى لتخفيض "الأخلاط" المضرّة، وتوقيت هذه الجلسات وفقاً للخرائط التنجيمية، ممارسة شائعة حتى نهاية الجائحة الثانية.
 
ويصعب على المرء الإشارة إلى اختراق واحد فى المعرفة أو العلاج الطبى المرتبط بالطاعون، مع أن رجالاً ألمعيين واجهوه ما لا يقل عن ثلاثة قرون.
 
وفى إنجلترا التى أنجبت إسحاق نيوتن، نصح الأطباء، بقدر ما نصح رجال الدين، بالصلاة والتوبة قبل أى وقاية أو معالجة للطاعون،وعندما بدأ الأطبّاء المسلمون يستوردون الطب الأوروبى الذى يفترض أنه تفوّق فى القرن السادس عشر، فإنهم لم يحصلوا على صفقة رابحة.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة