أكرم القصاص - علا الشافعي

عباس شومان

فلسفة العقوبات فى الإسلام

السبت، 25 يوليو 2020 08:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى كتاب الله وسنة رسوله الأكرم منهج كامل ينظم علاقة الإنسان بخالقه من اعتقاد وعبادة، وتنظيم علاقات الناس فيما بينهم فى كل مناحى الحياة، ولو أن الناس ساروا على هدى شريعتهم فيها لكانوا مجتمعا مثاليّا، لا ظالم فيه ولا مظلوم، ولحلّ الود والأمن والسلام محل الكراهيّة والإرهاب، لكن طبيعة البشر تجنح جراء حب النفس للتملك والسيطرة والتعالى إلى المخالفة، فتتعارض المصالح وترتكب الجنايات بكل أنواعها، وقد تكون فى حق الخالق جل وعلا كفساد الاعتقاد وارتكاب جرائم الحدود، وقد تكون فى حق البشر كالقتل، ولذا كان من الضرورى لتكامل المنهج الإسلامى تضمنه باب العقوبات على الجرائم، والعقوبات هى محل عناية واهتمام أيضا فى القوانين الوضعية بداية من المخالفات الموجبة لغرامات ماليّة أو حبس بسيط وانتهاء بالجنايات، التى قد تكون عقوباتها الإعدام، فإذا نظرنا نظرة عابرة فى العقوبات الواردة فى شريعتنا الإسلاميّة نراها تنقسم إلى قسمين: عقوبات محددة لجرائم بعينها لا يمكن للقاضى أن يسقط منها شيئا، وهذه العقوبات قليلة جدا تنحصر فى عقوبات الحدود وعقوبات القتل بأنواعه، غاية الأمر أن عقوبات القتل لأولياء الدم الحق فى العفو عنها أو التنازل عن العقوبة الأكبر وقبول الأدنى، ففى القتل العمد يمكنهم العفو عن القصاص وقبول الديّة أو العفو مجانا، وكذلك يمكنهم التصالح على البدل المادى فيقبلون أقل أو أكثر من الديّة المقدر بالتراضى بينهم وبين الجانى، أما عقوبات الحدود فلا يقبل منهم عفو أو استبدال للعقوبة المقررة شرعا، لأن الحق فيها خالص لله وليس للمجنى عليه، سواء أكانت على نفس الجانى كشرب الخمر أم على طرف آخر كالسرقة.
 
أما النوع الثانى فهو عقوبات غير محدّدة تسمى بالتعزيريّة أو التأديبّية وهى فى المخالفات التى لم يرد لها عقوبات محددة فى شريعتنا كإهانة الغير أو غصب ماله أو إتلافه ونحو ذلك، وهذه تركها الشرع للقاضى يجتهد فيها ويحكم بالعقوبة المناسبة للاعتداء والكافية لردع الفاعل حسب الزمان والمكان، وعقوبات التعزير يجوز للقاضى زيادتها ونقصانها ولصاحب الحق العفو عن الفاعل حتى بعد اختصامه عند القاضى، لأن الحق فيها للمعتدى عليه، والعقوبات التعزيرية أشبه بعقوبات القوانين الوضعيّة، من حيث قبولها للتعديل زيادة ونقصانا وقبولها للعفو لتناسب تغير الأزمنة وثقافات الناس، وتبقى العقوبات الثابتة والمحددة متفردة فى العقوبات الشرعيّة، حيث إنها مع ثباتها تناسب الأزمنة والأمكنة مهما تغيّرت أحوال وثقافات الناس، وهذا إعجاز لا يمكن لحكماء التشريع الوضعى الإتيان بمثله. 
 
ويلاحظ أن عقوبات القوانين الوضعيّة من نوع واحد، فهى عقوبات دنيويّة يقصد بها الزجر عن معاودة ارتكاب الجريمة إن لم تكن العقوبة إعدام الفاعل، أو زجر الغير حين يعلم أن ارتكاب هذه الجريمة يوجب تلك العقوبة، بالإضافة إلى الانتصاف للمجنى عليه أو أولياء الدم، إن كان الاعتداء قتلا، فإذا أفلت الجانى بجنايته المقدرة فى القانون نتيجة عدم إثبات ارتكابه للجريمة، أصبح فى عرف القانون بريئا لاعلاقة له بالجريمة، وقد يكون هو الفاعل فى حقيقة الأمر، ولذا يمكن لكثيرين فى ظل القوانين الوضعيّة الإفلات من العقاب، أما العقوبات الشرعيّة فلا إمكان لمجرم من الإفلات بجريمته ،لأن للجانية عقوبة دنيويّة وعقوبة أخرويّة، ويلاحظ أن العقوبات الدنيويّة الواردة فى الشريعة الإسلاميّة يمكن لكثير من المجرمين الإفلات من عقوباتها كما فى القوانين الوضعيّة وربما أكثر، ليس لقصور فى إمكانيّة الإثبات أو لثغرات يمكن أن يستغلها المحامون - حاشا لله - ولكن لأن إثبات هذه الجرائم أحيط بضمانات مشددة كاشتراط عدالة الشهود وعددهم، ويلاحظ أنه كلما زاد قبح الجريمة زادت ضمانات إثباتها، فمثلا تثبت جريمة القتل العمد بشهادة اثنين بينما يشترط لإثبات جريمة الزنا أربعة ،لأن الزنا فى حقيقته أكثر ضررا من القتل مع أن قتل نفس واحدة كقتل البشريّة، لأن شرعنا نظر إلى الجريمة من زاوية أخرى، وهى اختلاط الأنساب والمعرّة لطرفى الجريمة وأهلهما أجمعين، ويلاحظ أن الشريعة منعت انتهاك حرمات البيوت لضبط المخالفات الشرعيّة التى ترتكب داخلها، واعتبرت المقتحم أو المتلصص على أهلها معتديا لأهل البيت الحق فى رده ولو بالقوة، وذلك لتفعيل الرقابة الذاتيّة فى نفوس المؤمنين، حيث يجب أن يكون رادعهم عن الجريمة الخوف من الله المطلع عليهم وليس الخوف من سلطان البشر، وإمعانا فى حماية حريات الناس وعدم انتهاكها بحجة ضبط المخالفين، وهذه الضوابط المشددة التى قد تمكن الجانى من الإفلات من إثبات الجناية عليه لعدم اكتمال الشهود مثلا، كأنه مقصود فى شريعتنا، وكأنها أرادت ألا يعاقب بعقوبة الدنيا إلا من يستحق التخفيف وهو الذى يقر على نفسه بارتكاب الجريمة، لأن عقوبات الدنيا، وإن وصلت إلى قتل الجانى، كما فى زنا المحصن، حيث يرجم حتى الموت أو الصلب فى جريمة الحرابة، الإرهاب، هى أخف بكثير إذا ما قورنت بعقوبة الآخرة، كما أن العقوبات الدنيويّة على خفتها مقارنة بعقوبات الآخرة مكفرة لإثم الجريمة، فلا يسأل عنها المعاقب فى الآخرة، وهذا يفسر حرص مرتكبى الجرائم فى عهد رسولنا على نيل عقوباتها الدنيويّة، كما فعل ماعز والغامديّة حين أقرّ كل واحد منهما على نفسه بالزنا، ورفضا التراجع عن إقرارهما الذى يمكنهما من الإفلات من العقوبة الدنيويّة، لأن الرجوع عن الاعتراف مقبول، حيث لا مشكلة فى سقوط العقاب الدنيوى إذا لم يعترف على نفسه أصلا أو اعترف ثم رجع عن اعترافه، حيث يفر من السهل وهو عقوبة الدنيا إلى الصعب وهو عقوبة الآخرة، فكأن الشريعة فى حقوق الله تخير الجانى بين عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة، ولذا استحب الستر على الفاعل وعدم الإبلاغ عنه من قبل الشهود، ليبقى إثباتها موقوفا على إقرار الجانى نفسه، إن أراد الاطمئنان إلى التخلص من الإثم فى الدنيا أو يتوب عنها وأمره على الله.
 
 والشريعة الإسلاميّة لا تعتمد فى الأساس على العقوبات وحدها لضبط سلوكيات الناس، بل هى فى المرتبة الثانية، إذ يتقدم عليها ترسيخ ثقافة الواجبات والحقوق من خلال منهجها المتكامل الذى جاءت به، وتطبيق هذا المنهج يجنب الناس العقوبات التى جاءت بها الشريعة حيث لا مخالفة، ولذا فإن التذرع لفساد أخلاقيات كثير من الناس وارتكابهم للمحاذير التى تخضعهم للعقوبات بعدم تطبيق العقوبات الشرعيّة كالحدود فى غير محله، وهو أشبه بتبرير التحرش مثلا بتبرج النساء، صحيح أن العقوبات ضروريّة ومفيدة جدا فى استقامة الناس وبعدهم عن ارتكاب المخالفات، وقد ورد فى الأثر «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن»، ولكن غياب العقوبات لظروف معينة لا يسوّغ أبدا ارتكاب المخالفات، وعدم احتشام النساء لا يسوّغ التعرض لهن، وعدم معاقبة المقصرين عن أداء الفرائض لا يسوغ تركها، لأن حكم الشرع فى الحلال والحرام وما يترتب عليهما من عقاب وثواب معلوم، وينبغى أن يكون هذا هو المحدّد لاختيار الناس وسلوكياتهم وليس الخوف من العقاب الدنيوى الأخف والغفلة عن الأخروى الأشدّ.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة