أكرم القصاص - علا الشافعي

محمد حبوشه

العقل الاستراتيجي الواعي للدولة المصرية

الجمعة، 18 ديسمبر 2020 12:35 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

عندما تفقد الدول بوصلة العقل الاستراتيجي تضل سفينة الاقتصاد في بحر السياسة، ويغرق المجتمع في دوامة عشوائية الهوية الوطنية، ووفق هذا التوصيف يمكننا صياغة قاعدة أساس لهذا الطرح بكون من يمتلك عقلا استراتيجيا يصبح قادرا على حماية سيادة (الهوية - الجغرافيا)، ويكون بالضرورة قادرا على استشراف الأزمات وإدارتها أولا، بل ومواجهة مصدرها ثانيا والتحكم في أطرافها الفاعلة ثالثا، مفاد الأمر أن العقل الاستراتيجي للدول حق ذاتي تمنحه لنفسها بقوة هويتها الوطنية، لا امتياز يمنح ويسلب على طاولة شبكة المصالح، هكذا قال الدكتور هيثم البشلاوي المدير الاقليمي لمركز الحكمة للدراسات والبحوث والاستشارات في مصر، في دراسة قيمة أعدت لغرض البحث في إشكالية (العقل الاستراتيجي للدول).

وعند الحديث عن العقل الاسترتيجي للدولة المصرية قديما سوف نجد أنه طبقا لنفس الدراسة أن ما بين الميلاد الأول للدول النظامية (مصر - أثينا) كان التوصيف الأول لمركزية إدارة الدولة المتمثل في السلطة الإلهية للحاكم والحصانة المقدسة لقراراته، وذلك وفق حسابات العصر واعتقاداته، فقد كانت مجالس البلاط وكهنة الدولة المصرية القديمة البداية لتوصيف مركزية خلايا عقل الدولة، وإن لم توصف كاصطلاح (لفظي) ولكنها كانت كذلك (بالمعنى)، فقد كانت الدولة المصرية تمتلك هيكلا نظاميا ودوائر لصناعة واتخاذ القرارات، حيث كانت هيكلية الدولة المصرية القديمة تعمل بشكل هرمي مركزي، متمثل في شخص الملك (العقل المقدس) والوزير الأول (اليد المنفذة)، ثم يندرج هيكل وظيفي للجهاز الإداري يرتبط من حيث المهام والمسؤوليات مكونا دوائر لدعم القرار المقدس لشخص الملك، وكانت تلك الدوائر تشكل غالبا من رئيس البلاط والمستشارين ونخبة من رجال الإدارة والاقتصاد (الأوامر الملكية - الأشغال والمباني - الخزانة - الضرائب - أمراء المقاطعات - ناظر الثروات - ناظر الصوامع - رئيس البحارة).

وكانت تعمل تلك الدوائر وفق منظومة تنبؤ الأزمات واستشرافها (حجم الفيضانات - الظروف المناخية - رصد حركة المناطق الحدودية)، وذلك من خلال نخبة من رجال الجيش والفلكين والمهندسين، وبذلك كانت تلك الدوائر تجسد ميلاد العقل الاستراتيجي لأول دولة نظامية موثقة الحضارة، لنجد خطط الدولة في مختلف القطاعات مسجلة على جداريات المعابد وأوراق الكتبة، لتشمل إعداد خطط تحصين حدود الدولة والمعارك خارج الحدود، والتخطيط لإنشاء الترع والسدود وطرق النقل والمواصلات للربط بين مختلف الأقاليم لتظل تحت سيادة الدولة النظامية الموحدة، بل ونجد شبه برامج إدارة الأزمات كما نطلق عليها اليوم، لنجد رصد ورقابة لعمليات تخزين الحبوب والبذور وبناء السدود وحفر الخزانات لتقليل حدة أزمات الجفاف والفيضان.

وظنى أن العقل الاستراتيجي للدولة المصرية لم يتغير كثيرا على الأقل في وقتنا الحالي، بل ظل منهجا على مدار التاريخ يتعبه نظام تلو الآخر، وهو ماكان سببا مباشرا في قيام حضارة عظيمة على ضفاف النيل ومازال أثرها ممتدا إلى اليوم، ولعل الدولة المصرية الحالية بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي تتبع في سياستها الحالية نفس (العقلية الاستراتيجية القديمة) في التفكير كمنهج وأسلوب حياة، كما يتجلى ذلك في خطط القسادة السياسية لإعاة مشروعات البنية الأساسية والمشروعات القومية الكبرى، والجهود الحثيثة في مجالات (التعليم، الصحة، الدواء، تسليح الجيش لحماية الحدود، الحفاظ على ماء النيل، العلاقات المتوازنة مع الدول والحكومات).

وظني أن كل ماسبق يتوافق تماما مع مفهوم سيادة الدولة النظامية الموحدة الذي تحدث عنها في السطور السابقة الدكتور هيثم البشلاوي، مشيرا في نفس السياق على أن كل تلك الإجراءات التي تعمل عليها مصر حاليا تؤكد وجود عقل للدولة يعتمد منهج التخطيط الاستراتيجي، تماما كما وجدنا أثرا له واضحا في نظام الدولة المصرية القديمة، وخاصة عند (بتاح حتب) في وصاياه عام 2700 قبل الميلاد، والذي كان يسجل ضرورة استشراف المستقبل لدى صانع القرار للدولة المصرية القديمة بقوله (على القائد أن يضع في اعتباره الأيام التي لم تأت بعد.

وهذه هى الاستراتيجية التي تعمل عليها الدولة المصرية انطلاقا من قول الدكتور البشلاوي: لم يكن ميلاد الدول صدفة في التاريخ، كما أن بقاءها وقدرتها لم يكن يوما رهن الصراع بقدر ما كان بالضرورة هدفا له، فمن الدفاع إلى التنمية كانت كل المجريات تدفع بضرورة صناعة عقل استراتيجي للدول لينتصر لها في الأولى ويحقق لها استدامة الثانية، فعلى الخط الوسيط ما بين صراع التاريخ وإحداثيات الجغرافيا الاقتصادية تتمركز الموارد البشرية لتشكل سيادة هويتها الوطنية، لتمدد لتصنع السيادة السياسية ثم تعمل على تأمين مجالها الاستراتيجي وفق إحداثيات التأثير في شبكة مصالحها؛ وبناء على ما سبق، فإذا كانت الدولة كائنا جغرافيا يولد في التاريخ، ويحيا بالاقتصاد، وينضج بالصراع، ويعجز بالجهل؛ فإن العقل الاستراتيجي للدول هو نتاج تفاعلات وتراكمات كل ما سبق.

ويتجلى مفهوم العقل الاستراتيجي للدولة المصرية في وضع الخطط والاستراتيجيات بهدف صناعة مستقبل أفضل للمصريين من خلال تعامل ذكي مع مختلف القضايا، و لعل الصراع الحالي الدائر بين الدولة وجماعة الإخوان الإرهابية يعد أكثر التهديدات الخارجية مكاشفة من حيث معدلات التأثير، رغم كون ارتباطها بل تكاد تكون نتيجة لاستهداف (الاغتيال الاقتصادي)، وذلك من خلال نسج شبكة من المصالح المتعارضة بين مجموعة من القوى الإقليمية أو الدولية تستهدف استنزاف الدولة المصرية كهدف من الصراع، ولعل مصر تكاد تكون هى أكثر الدول عالميا واقعة ضمن تلك الشبكة، وذلك من خلال تهديد (بقاء) متمثل في نهر النيل وتهديد (نمو) متمثل في اختراق مجالها الحيوي لنشر نفوذ أطراف محيطة تستهدف قطع الطريق على مصر بألا تكون مركزا إقليميا للغاز على سبيل المثال.

ولهذا أدارت الدولة المصرية هذا الملف بذكاء شديد عندما رسمت الحدود للحفاظ على ثرواتها وقلدتها كثيرمن الدول التي بدأت ترسم حدودها، وعندما أصبحت مصر قاعدة ومركز لأكبر منظمة لغاز الشرق الأوسط تهافت على الإنضمام لها كل الدول الكبرى حتى الكيان الإسرائيلى انضم ليها ليس طواعية بل مرغما لإنه وعى قدر ومكانة مصر الحديثة، وزيادة في التقرب إلى مصر استعانوا بها وظلوا يتنافسون على عمل تدريبات عسكرية مع جيشها، ونحن الآن نفيد ونستفيد، كما أنها أصبحت أول دولة تجذب المستثمر وبقيت بوابة عالمية للتجارة وجاءت كل الدول العظمى تتنافس على طلب ود مصر عندما شكلت أكبر مصلحة لبلادهم، بل إنها صارت الجائزة الكبرى، وعليه فقد انعكس  ذلك في وقفة كثير من تلك الدول في إيجاد حل لأزمة السد الأثيوبي بعدما أصبحت الشغل الشاغل للعرب والعجم، مع أننا يمكن أن ننهي المسألة بطريقة خاصة، لكننا لا نرضى بتسبب أي ضرر لشعب إفريقى حتى لو جاء على حساب مصالحنا .

ولقد ظهرت آثار استخدام هذا العقل الاسترتيجي الواعي للدولة المصرية جلية واضحة في الفترة الأخيرة من خلال طرح مجموعة من الخطط الاسترتيجية، كما تجلى ذلك في تنفيذ مشروع قومي لإنشاء مخازن استراتيجية عملاقة بهدف زيادة المخزون الاستراتيجي من السلع الأساسية وذلك في 7 محافظات وهى: الجيزة، بني سويف، وقنا، والقليوبية، والغربية، والإسماعيلية والبحيرة، الأمر الذي سيعمل على توفير كميات كبيرة من السلع تكفي احتياجات المواطنين طوال العام، وذلك بتكلفة استثمارية لإنشاء هذه المخازن العملاقة قد تصل إلى 21 مليار جنيه، وجار توقيع مذكره تفاهم مع شركة أجيليتي، والتي تعد سادس أكبر شركة على مستوى العالم متخصصة في إنشاء وتشغيل وإدارة اللوجستيات وإنشاء مثل هذه المخازن العملاقة.

وقد تزامن ذلك مع مع موجة أخرى من موجات العبور الثاني إلى أرض الفيروز، إلى سيناء العمق المؤكد للأمن القومي المصري، والتي شهدت في الأعوام التي تلت ثورة 30 يونيو نهضة شاملة من شقين: إعمار بشري، وبناء حجري، وكان الحدث الجديد في عبور المصريين للقناة من خلال افتتاح أنفاق سيناء

ويأتي هذل في وقت لم تعد القدرات الدفاعية ومعدلات التنمية للدول مجرد معايير تتم داخل دوائر للدول، بل أصبحت بمثابة معايير تنافسية، وربما أصبحت أزمات المستقبل ليس في المستوى السياسي أو العسكري فحسب ولكن حتى في تشكيل سيادة الهوية الوطنية وإدارة المجتمع، وذلك من خلال ممارسات الثقة كرابط وسيط بين السيادة السياسية وسيادة المجتمع، وهذا ما أدركه العقل الاستراتيجي للدولة المصرية الحالية بقيادة رئيس مخلص ظل على مدى 6 سنوات الجنرال المحارب على جبهات متعددة، كان الجانب الاقتصادي فيها حاملا ورافعة لمصر الحديثة، وغني عن القول أن نجاحات أي دولة على الصعيد التجاري والزراعي والصناعي، لا تنفصل بالمرة عن شبكة الطرق والمواصلات، وذلك ضمن مصفوفة من الأهداف لصناعة القرار، تعتمد على عنصر الاستشراف المبكر للأزمات، داخليا وخارجيا، لتحقيق الجاهزية المستدامة على مستوى الدفاع والتنمية بما يضمن استدامة قدرة مؤسسات الدولة المصرية الحديثة .. هكذا يفكر العقل الاستراتيجي المصري بوعي ويخطط لمستقبل الأجيال القادمة.

 









الموضوعات المتعلقة


مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة