"البومة" قصة لأميرة بدوى من مجموعة "ست زوايا للصلاة" المرشحة لـ"الشيخ زايد"

الخميس، 19 نوفمبر 2020 09:00 م
"البومة" قصة لأميرة بدوى من مجموعة "ست زوايا للصلاة" المرشحة لـ"الشيخ زايد" القاصة أميرة بدوى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
في شرْع قطَّاع الطُرق، القتل ممنوع في الأشهر الحُرم. سيدي عبد الرحمن، رئيس المجلس قضى بذلك، وأمرُه سيف على رقابنا جميعًا. كل أسبوع ينعقد مجلس قطَّاع الطُرق، يجلس سيدنا على دِكَّة في المنتصف، وبالقرب منه المستشارون، بينما يتناثر بقية الناس حوله ، يستمعون لنصحه وإرشاده، وينهلون من علمه الواسع. إذا أراد أحدهم أن يكسر رقبة إنسي، أو يسرق أجله، أو روح أحد أبنائه، يقدم طلبا إلى المجلس، ويرفق الأسباب الحقيقية وراء ذلك، الأسباب الحقيقية، لا شيء غيرها؛ لأن سيدنا، سيد العارفين، يستطيع بنظرة أن يفقسه، إن كذب، أو أراد فسادًا في الأرض. بعد انقضاء الأيام المباركة يتفضل المجلس بالحكم النهائي، في جلسة الفصل. لكن حسين لم يستطع الانتظار؛ دخل المجلس من الباب الكبير يحمل كفنًا. تعجب الحاضرون من فعلته؛ لم يجرؤ أحد على كسر القواعد، حمْل الكفن يكون في جلسة الفصل وليس قبل ذلك، وليس في الأشهر الحُرم. دخل حسين بخطوات ثابتة، عيناه على الدكة الكبيرة، لم يأبه لسباب الحاضرين، بصقة في منتصف وجهه أوقفته لثوان، لكنه أكمل الطريق حتى وصل إلى سيدنا، وركع أمامه في خشوع.
 
"أنت هتكفر؟"
 
"إيدك أبوسها يا سيدنا، استر علينا، ربنا ما أمرش بالفضيحة".
 
حسين لم يكن يريد قتل سَنية، أخته التوأم. لكنها وضعت وجهه في الوحل؛ لم يعد له وجه من الأساس، أكله الناس بأعينهم. أخته الأرملة في عز شبابها،"لهطة قشطة"، رفضت الرجوع إلى بيت أبيها، وقالت إنها ستربِّي صغيرتها في بيتها. لم تكتفِ بيبع الخضار والفاكهة على باب بيتها، بل اشترت عربة بحمار، أخذت ثمنها من حسين نفسه، وسرحت على حلّ شعرها، تنادي بصوتها الحلو، فيخرج الرجال قبل النساء، ليذوقوا خضارها المسكّر، الطازج. بالأمس سمع حسين همسًا يدور حول أخته، همسة تؤكد إنها امرأة عَزَبَة، كيف يتركها أخوها هكذا. وهمسة تؤكد إنها ابنة ليل، تستقبل الرجال في الظلام، عندما تنام ابنتها، ويهدأ نقيق الضفادع، وتسكن أعين القمر. اقترب حسين من سيدنا، وبكى بين يديه، يطلب السماح، والتخلُّص من هذا الحِمل. كيف ينظر الناس في وجهه، كيف يستأمنونه على أبنائهم في المدرسة، لا يريد وصمة العار هذه، يقول لسيدنا إنه سيربي الصغيرة، لن يجعلها تشعر بالفجيعة. "أرجوك يا سيدنا، اقبل الكفن، ربنا ما يرضاش بالفضيحة!". 
 
اجتمع سيدي عبد الرحمن بمستشاريه في غرفة القَول، هنا لا آذان، ولا ألسنة تبوح بسرٍ. قدرة المجلس مربوطة بتنفيذ الأحكام، من يحكم بقبض روح يقبضها بيده، يخنقها أو يذبحها. من يقضي بسرقة بهيمة يفك أحبالها. هذه شريعة المجلس، الكل يعرفها، ولا يشرك بها أحدٌ. 
في الغرفة بدأ أحدهم القول بأن الله يغفر الذنوب جميعا. قاطعه آخر: لكنها تغوي الرجال. اقترح ثالث: نزوِّجها يا سيدنا، وربنا أمر بالستر.
 
واستمرت المداولات ساعة كاملة، قضاها حسين وعيناه في الأرض، لا يستطيع رفع رأسه في المجلس، ولا أحد تفوَّه بكلمة معه. أيا كان قرار المجلس لن يعارضه. هناك شيء داخله ينهاه عن قتلها، ربما تكون مظلومة، لكن كيف تكون، وهي امرأة، تجلس وسط السوق بجلبابٍ ملون، لا تعصب رأسها بوشاح أسود، ولا تخجل من عينيها الزرعية، وقوامها الممشوق. لابد أن أحدًا رآها مع رجلٍ، ربما يكون جارها المسن، ينط على السطوح المستو ويتذوَّقها كل ليلة. وربما يكون حبيبها الأول الذي طلَّق زوجته منذ أسبوعين. ظن حسين أن سِلفتها وراء تدنيس سمعتها، تهيِّج الناسَ عليها؛ وتخاف على زوجها من حلاوتها. الأصوات! الأصوات تصرخ، مرة لها ومرة عليها، ومرة تعيده إلى قاعة الفرن في البيت، حيث لعبا مع إخوتهما البنات.
 
كان يقسم بأنه رجل، لن يهزه شيء، مثلما يقسم الآن. يفلقس فتركب البنات عليه واحدة تلو الأخرى، وبعد غمزةٍ من "سنية" لأختها الصغيرة، تزغزغه من بطن قدمه، فيطوحهن جميعا. تخرج "سنيّة" لسانها وتقول "يا خِرع"، يشتاط منها، يكيد لها مثلما كادت. يخرج إلى الطريق ويحضر صباع فحم، وعلى الحائط يرسم لعروسها الجميلة ذقنًا وشنبًا، ويجعل قدميها مشعرتين. تصرخ سنية وتركض وراءه وسط ضحكات البنات، ولا يمضي وقتٌ حتى يتصالحا، ويمرحا تحت النخل وحدائق البرتقال.
 
شيء داخله يدعوه للهرب من المجلس. لكن قُضي الأمر. غيبها الآن مكشوف داخل جدران هذه الحجرة، إذا قُضي بقتلها، فلن يستطيع أحدٌ منع الأمر، إنسيًا كان أو جنيًا. فقضاء سيدنا نافذ، لن يغيره الهروب. لا يجوز أن يتراجع عن الطلب، إن فعَل ذلك سيُخرج سيدنا الفِرفر ويفجِّر رأسه في طرفة عين. ماذا يدور الآن في الغرفة؟ سيدي عبدالرحمن ومستشاروه استمعوا إلى رأي علّام القاضي بموتها، فلا حرمة تفوق الفضيحة، ورتّل بعد ذلك قائلًا "اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ، الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ، الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ، نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ، يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ"، لم يعلن المجلس اسم علّام عندما قضوا في طلب حسين. سمع الخبر ولم يقل شيئًا، حبّ على يدهم في صمتٍ وخرج مبلولًا إلى بيته، وأقام الليل إلى طلوع الفجر.  
 
مع أول شعاع للشمس يحط في فَسَحتها استيقظت سنية، فطّرت الحمار وصغيرتها. ارتدت المحروسة ملابس المدرسة وسبقت أمها. حزّمت سنية وسطها، وضعت الأقفاص على العربة، شدت لجام الحمار ونادت طول الطريق "لا تين يا عنب، ولا بلح زيك"، الخضار الطازة". ترمي السلام على طوب الأرض، يحبها الأطفال ويركبون معها؛ تعطيهم البلح والعنب من العدّايات الطازجة، وتوصيهم على صغيرتها. تصل إلى المعدية. يساعدها المراكبي في ترويض حمارها الخائف، ويتناولان الإفطار معًا. في السوق فرشت زرعها، على مرأى من علّام، الذي انتظرها إلى أن فرغت وعادت إلى بيتها مع غروب الشمس. كان معها عندما اشترت خضارًا جديدًا من وكالة الخضار والفاكهة من البلدة المجاورة. كان من الممكن أن ينقضَّ عليها في الطريق بين البلدتين، لكن دائمًا يظهر شخص يفسد خطته؛ في المرة الأخيرة كانت الصغيرة معها، وظلتا تغنيان طوال الطريق، وعلّام يغني في الخلف معهما.
 
بعد نصف الليل نطّ بيتها، كان يتكون من طابقين، وفسحة واسعة في الطابق الثاني، تضع فيها سنية قصاري الورد والصبار. في الطابق الأول غرفتان، غرفة لها وغرفة لصغيرتها. توجَّه علّام إلى غرفتها، وكأنه نط هذا البيت من قبل، وعاش فيه زمنًا. كان الباب مواربًا، وسنية ترتدي قميصًا أسود، طويلًا يشف بياضه. تمسك جلباب رَجُلها الميْت وتشمه، تهمس إليه "اوعى كدة، زعلانة منك"، يسيح علّام تمامًا وهي تهمس بنَفَس دافئ "زعلانة منك"، كاد أن يسقط السكين. أراد أن يراضيها ويمسح دمعها. وسنية تقول لزوجها إنها على العهد، تكرمش جلبابه وتضعه أسفلها، تقبله، وتتلوى فوقه بدلال، وعلّام يشعر بنار في جسده، ودم ساخن يفرد أعضاءه، ينقض عليها، يسقط السكين عندما يلامسها، يضع كفه على فمها، يمسك جلباب زوجها ويخنقها، تعافر. تدير وجهها إليه، بنظرة من عينيها ترجوه ألا يفعل، يغمض عينيه ويلف الجلباب على رقبتها حتى تخرج روحها ويسكن جسدها الفائر.
 
لم يذهب علّام إلى دوار سيدنا، فضّل أن يصعد الجبل، ويجلس تحت القمر المكتمل. القمر سيء، كسلان، لا يخيف الذئاب والعقارب، لا يشعر بالخيبة أو المبالاة تجاه شيءٍ. مشى علّام مرتخيًا، ينظر إليه مزدريًا؛ لماذا خلق الله القمر! جلس بعيدًا عن الغرزة الصغيرة التابعة للمجلس، لا يريد أن يرى أحدًا. دائما يجلس هنا وحيدًا، يدخن المعسل في خشوع. في هذه اللحظة احمرَّ القمر وكشف عن وجهه الآخر، نار تحرق من ينظر إليها، وعلّام ينظر إلى ناره المشتعلة في الأرض، يرى أعين واسعة، مدورة، تبحلق فيه، كأنها تريد أن تقول شيئًا، تريد أن تعريَه أمام نفسه. لا يعرف ماذا يفعل الآن! ماذا سيفعل سيدنا إن علم بما حدث، سيحمل العار ويورّثه لأولاده، يفقد بيته ونظرة الناس إليه. ينظر إلى النار وإلى عقرب يريد أن يلسعه، يغرس فيه سكينًا، ويقربه من ألسنة اللهب، فتأكله، وتأكل الأعين التي كانت تحملق. يقرر الرجوع إلى بيت سنية، ربما يصلح خطأه. على الفور هرول إلى بيتها، ونطّه مرة ثانية. كانت نائمة جوار صغيرتها، ربما رأت كابوسًا مخيفًا جعلها تصرخ، ولم تهدأ إلا في حضن أمها. وربما أرادت الأم وداعها. انتظرها علّام على السلم حتى قامت، اختبأ في الطابق الثاني عندما رآها تتجه إلى الفسحة، تقف في الشرفة وتشاهد القمر الأحمر، وجواره نقطة برتقالية تلمع بشدة، تشد روحها عاليًا، ترتفع بها قبل موتها. فلم تشعر بظل علّام خلفها، عندما تسلل وقتلها، للمرة الثانية.
 
احتضنها علّام حتى لامس جسدها الأرض. بكي في حضنها، ارتجف؛ لم تستحق الموت، حاول أن يغلق عينيها ويتلو القرآن على روحها، لكنها رفضت. اتسعت عيناها عن آخرها، اعتقد علّام أنها ترفض الموت، تقاوم لمرة واحدة. لم يُرِدْ للأرض أن تنهش لحمها، حاول إنعاشها، قرَّب شفتيه من شفتيها وقبَّلها. نفخ في فمها، وضغط على نهديها، لكنها لا تعود. أمرها عجيب. حملها على ظهره، وقرر الصعود مرة أخرى إلى الجبل. كان يبكي طوال الطريق، كل ما يشغله الآن أن يدفنها، ويضمن لها حسن الخاتمة. وصل إلى مجلسه بالقرب من العقرب.
 
حافظ على جسدها دافئًا، غرس رأسه في الرمل، ثم قام وصلى ودعا الله أن تصحو. بكي في السجود كثيرًا، وسنية لا تريد القيامة. وفي الصلاة أمره الوحي بتركها. تركَ الصلاة وقبَّل رأس سنية ويدها. أمسك السكين والتهم العقرب. قطّع جسدها إلى أربع قطع، وضع كل جزء في مكان بالجبل. ذهب إلى الغرزة ليغتسل، وصلى صلاة الرجوع. قرأ ما تيسر على ماء الغُسل. أخذ المياه إلى غرفة نظيفة. تطهَّر من الذنوب التي اقترفها، ربما يستجيب الله وتنبت في جسدها روح. في الصلاة بكى كما لم يبكِ قاطع طرق. تذكَّر كل روح قطفها، كل بيت نط، وامرأة. لم يفرغ من الصلاة حتى آتاه صوتها، صوت اشتعال الروح في الجسد؛ عندما قامت سنية، على غصن شجرة، أبصرت العالم بعينيها الواسعتين، لكنها لم تكن رحيمة، كان في صدرها نار، ومن يومها.. تلبد وراءه في كل شارع، تطارده، وتهنَّدُ بصوتها الباكي.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة