أكرم القصاص - علا الشافعي

كريم عبد السلام

أزمنة الشعر- 22 .. أشرف يوسف فى "مقهى صغير لأرامل ماركس" .. تمرينات فى التقمص والكتابة الآلية

السبت، 27 يوليو 2019 03:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

" مقهى صغير لأرامل ماركس " للشاعر أشرف يوسف عمل محفز على القراءة والمراجعة والتأمل فى طبيعة قصيدة النثر المصرية الراهنة وما يمكن أن تصل إليه من تخوم وما تعبره من حدود أدبية نوعية وما تجترحه من خيال ، الكتاب الذى يصنفه الشاعر على أنه متوالية شعرية ، يفتح الباب واسعا من جديد للكلام حول النوع الأدبى والكتابة المتجاوزة وتأثير السياق الغالب على بعض الشعراء ، فالسياق الذى يغلب عليه الأفكار المشاع عن هيمنة الرواية وهيمنة نوع محدد من الرواية هو المعنى بالسيرة الذاتية أكثر مما يعنى بالمعمار والبناء ، ربما يكون أحد المداخل للتعامل مع متوالية أشرف يوسف الشعرية ، وكما كان الأمر فى الستينيات والسبعينيات من القرن الماضى ، عندما كانت الغلبة لنموذج صلاح عبد الصبور فى المسرح الشعرى ، تحول كثير من الشعراء إلى كتابة المسرح المستمد من التراث ، بل ومن لم يفعلوا، تضمنت قصائدهم مونولوجات وقصائد ممسرحة طويلة وكأنهم يصالحون الفكرة الشائعة الغالبة عن النوع المهيمن

 

" مقهى صغير لماركس" هو العمل الخامس  للشاعر أشرف يوسف بعد دواوينه الاربعة «ليلة 30 فبراير: قصائد منسوخة»، «عبور سحابة بين مدينتين»، «يعمل منادياً للأرواح»، «حصيلتي اليوم قُبلة» ، ويمكن القول إن الكتاب بفصوله السبعة عشر هو سياق روائى كلامه شعرى يدين بوجوده لتمرينات وآليات الكتابة الآلية وصناعة الوراقة أو ما نسميه فى زماننا "مؤلفى الظل" ، المسئولين عن تحرير وأحيانا استكمال المؤلفات قبل تقديمها للمطبعة فى دور النشر، فماذا يعنى ذلك؟

 

الفصول السبعة عشر التى يشتمل عليها الكتاب ، خضعت لتفكير وتخطيط صارمين من قبل المؤلف ، الذى أراد وحسب باحثى الدراسات العليا أن يصمم مؤلفا يتناول فيه شخصية الأنثى الهامشية بنت الليل الداعرة والمتفلسفة ، المثقفة والضحية ، النزقة وصاحبة الخيال ، الباحثة عن معنى للحياة مع شريكها  والباحثة كذلك عن وجودها نفسه بمراجعة تاريخ عشاقها وأصدقائها ومن اختلطوا بها، وهى رؤية رومانسية كلاسيكية ، كثيرا ما تصدى لمعالجتها الشعراء اليساريون مع انبلاج أفق الحداثة العربية فى أربعينيات القرن الماضى ، ورأينا ذلك النموذج ساطعا فى قصائد جيل الرواد من شعراء قصيدة التفعيلة وفى روايات وقصص محفوظ ويوسف إدريس وحنا مينا ومحمد عبد الحليم عبدالله وغيرهم من الكتاب ، لكن الجديد عند أشرف يوسف أنه لا يكتب عن النموذج المغرى للرومانسيين من كتاب وشعراء اليسار بل يتقمص النموذج ويسعى لاستنطاق الأنثى الهامشية بنت الليل المتفلسفة الشاعرة فى حركتها اليومية ومراجعتها لحياتها وللكون كله ولمعنى الحياة نفسه ، وكيف ؟ بأن يتصدى لفعل ذلك شعرا ، من خلال قصائد متوالية فى المناخ نفسه ومقسمة بصورة تجعلنا ننتقل من مستوى إلى آخر ، وهو ما يجعلنا نقول إن الكتاب مبنى من خلال منطق وتخطيط روائيين ومعالجة كتابية شعرية

 

أما ما نعنيه بمسألة الكتابة الآلية ، فما يتضح من قصائد العمل ، أن الشاعر كان ملتزما بطقس يومى فى الكتابة المتدفقة وتسجيل كل ما يرد على ذهنه من خواطر وتعبيرات وصياغات ضمن المناخ الذى يتصدى للإمساك به والشخصية المحورية التى يسعى إلى استخدامها كقناع دال يحاكم به العالم ،فالشاعر منحاز للمرأة من حيث هى ضحية للتمييز والقهر والعنصرية فى مجتمعها ، وهو منحاز للمرأة الهامشية المسحوقة والمهانة وغير المعترف بها بل والمدانة مسبقا ضمن قوس المرأة العريض ، كما أنه يريد تقديم صرخة ثورية بل وفوضوية من خلال هذا القناع الأنثوى الهامشى المسحوق فى وجه المجتمع والعالم ، هذا أولا ، وثانيا ،أن الطقس الكتابى اليومى ذهب بالمؤلف إلى مناخات متعددة وطعوم مختلفة لأجواء كانت طول الوقت تسحبه فيعيد ضبطها على الإيقاع الأساسى لكتابه وهو متابعة أحوال تلك اللبؤة الغاضبة المتحررة التى تواجه سحق العالم لها بسحق مقابل

 

ثالثا ،  عندما تصدى الشاعر للكتابة فى هذه المنطقة المغوية سحبته الشخصية الأنثوية كالنداهة إلى نوع من التقمص ، بحيث أصبح يعكس عليها تاريخ هزائمه ومراراته وصراعاته ربما وإداناته وتعليقاته وبل وتاريخه الشخصى مع أصدقاء الطفولة والشباب وبدايات الكتابة ، فقد استولى قناع الأنثى الهامشية على الشاعر ووجد فيها ما يمثل له مدخلا إلى إعادة تسجيل وتقييم ومراجعة حياته كلها ، مثل هذا الطريق العريض المتشعب يراكم ، كما فى حالة أشرف يوسف، مئات الصفحات المكتوبة والقطع المتماسكة والقصائد والقصص والتعليقات والبناءات الجمالية ، التى تدفع الشاعر للتوقف عند مرحلة ما ليقول لنفسه ، عندى شيء ما كبير ولكنه يحتاج إلى مراجعة وتبويب وتقديم جيد أى يحتاج إلى صناعة السياق الذى يجب تقديمه فيه وهنا يأتى دور محرر الكتب

 

 

هل وفق أشرف يوسف فى السياق الذى قدمه لنا فى هذه المتوالية الشعرية؟ هل استطاع المؤلف الذى تخاطبه المرأة بطلة المتوالية فى أن يستخلص الأفضل بين مئات الصفحات التى كتبها وأن يقدمها فى الإطار الجمالى الأنسب؟ فى ظنى أن النصوص التى يحتوى عليها الكتاب تتضمن ما يمكن أن تسمى متوالية شعرية بخلاف التبويب الذى يقدمه أشرف يوسف ، كما تتضمن مشروع رواية قصيرة " نوفيلا " يمكن استخلاصها من سياق النصوص ، أى أن القراءات المختلفة للكتاب يمكن أن تخرج عن الإطار الذى حدده أشرف يوسف للقراءة من خلال الاستشهاد والفصل الافتتاحى المعنون بـ " أصوات النساء" وتتابع الأقسام وفق العناوين المحددة بالكتاب ، وأن تعيد الترتيب وتدمج أو تحذف ما تراه زائدا ،وهنا لابد أن نتوقف أمام العناوين وحدها ، كما نقف أمام الاستشهاد بمفهوم الراوى فى "عصر الحب"  لنجيب محفوظ

 

 

عناوين الفصول السبعة عشر والقصائد التى تشتمل عليها تستحق قراءة مستقلة ، فى كيفية صياغة العتبات التى تقدم النص للقارئ وتوجهه وتحدد مساره ، وهنا أقول إن عناوين الفصول بالكتاب خادعة وهى نتيجة براعة الشاعر ودربته فى صناعة الوراقة ، فبينما نحن أمام نص طويل متشعب ومتواتر ومتناسل يقوم على البوح والاعتراف والصراخ والغضب والتفسير للشخصية المحورية الأنثى الهامشية المتفلسفة وهى تراجع حياتها وتحاكم العالم ، نجد أننا أمام عناوين مراوغة براقة بعضها منسوج على منوال عناوين سابقة لأعمال أدبية أخرى وبعضها وليد افتتان الشاعر بالعنوان من حيث هو جملة محملة بمعنى دال موح ، وهنا أود أن أضع عناوين الأقسام إلى جوار بعضها بين قوسين وكأنها إحدى قصائد الديوان لنقترب من كيفية صناعة الشاعر لنصوصه فى هذا الكتاب: " أصوات النساء / أفكر أننى ضائعة وبلا رفيق/ كرسى فى فندق الأرق/نبية الليل / عار من الصور /لنتخيل أننى النزعة التدميرية /مجازات لغرفة الأوتيل/ كان بودى أن أكتب إليك/قطار لا يوقفه سوى نداء الموت/ قصص متخيلة على لسان عاشقين صغيرين/قلب يسوع /عيناى تدمعان فى حلمين/ قرى /محقق أمان فى زى مهرج /قصص متخيلة عن التراب/أتون وردة لأنثاه الافتراضية/ تضيع منى القصائد"

وإذا أردنا مزيدا من التوضيح يمكننا أن نثبت العناوين الخاصة بالنصوص فى هذه الأقسام ، حتى تكتمل صورة مؤلف الكتب المولع بالعناوين ، الجامع لها ، والذى قد يضع عناوين ليس لها نصوص أصلا ثم يوجد لها نصوصا مكتوبة أو يفعل العكس ، فالعناوين هنا أشبه بالنجوم فى ليلة صيفية مبهرة إذا تأملناها وهى ترصع السماء السوداء وتتزاحم بكثرتها وقوة لمعانها لكننا لا نستطيع الاهتداء بها إلى طريق

 

لن يحدث شيء إذا استبدلنا عناوين الأقسام ، ولن يحدث شيء إذا دمجنا بعض الأقسام مع بعضها ، ولن يحدث شيء إذا قررنا أن نقدم أقساما مكان أقسام فى الديوان ، لأن الشاعر مشغول أساس بالكتابة المستمرة عن الشخصية الأنثوية التى صممها ، وهو فى حالة بوح دائم ينسحب على كل مجالات حياته وعلى انشغالاته ويومه وليلته وما بهما من تفاصيل واشتباكات وتواصل مع الآخرين ، لكنه فى الوقت نفسه معنى بالسياق وإيجاده هو الوراق صانع الكتب ومؤلف الظل ، فيكون الحل فى هذا الإفراط فى العنونة للأقسام وللقصائد والسرديات والامتدادات الكلامية داخل الأقسام ، فأحيانا يكون الإفراط فى العنونة والتقديم والإهدءات والاستشهادات نوعا من معالجة فقدان المؤلف للسيطرة على نصوصه ، وهنا أرى أن للنصوص فى الكتاب حياتها المستقلة الممتدة خارج العناوين والعتبات التى يضعها أمامنا أشرف يوسف ، وإذا كان هو المؤلف صاحب الحق الأصيل فى تقديم عمله ، فالقارئ باستقباله الواعى هو صاحب حق أيضا فى إعادة نظر بكل ما يقدمه المؤلف من عتبات وحواجز ومسارات مقترحة للقراءة

 

أما الاستشهاد الذى يصدر به المؤلف الكتاب من عصر الحب لنجيب محفوظ ، فهو يفرض نوعا من الضبابية والتشويش على نصوص الكتاب بدل أن يعمل على تمهيد الأرض أمام القراء ليستقبلوا النصوص وفق ما أراد الكاتب ، " يقول الراوى :ولكن من الراوى؟ ألا يحسن أن نقدمه بكلمة؟ إنه ليس شخصا معينا يمكن أن يشار إليه إشارة تاريخية، فلا هو رجل ولا امرأة ولا هوية ولا اسم له ، لعله خلاصة أصوات مهموسة أو مرتفعة، تخلدها رغبة عارمة فى تخليد بعض الذكريات" ، فهذا الراوى الذى يحيل إلى رواية عصر الحب بتعدد أصواتها ونقلاتها العنيفة ومأساويتها ، لا يمكن أن ينطبق على عالم يتأسس على حوار بين صوتين أساسيين كما فى حالة متوالية أشرف يوسف ، شخصية المرأة التى تواجه العالم ورجلها الذى تسميه بمؤلف الكتب ، التعدد والتنوع والنقلات والمساحة الزمنية الكبيرة فى رواية عصر الحب تحتمل هذا الراوى المجهول الذى يشبه حارس الزمن العالم بكل شيء ، أما " مقهى صغير لأرامل ماركس" فهو مونولوج غاضب لشخصية محورية توجه رسائلها لحبيبها وللعالم وتعلن ثورتها على كل شيء فما دور الرواى هنا؟

 

يبقى أن " مقهى صغير لأرامل ماركس" استطاع تقديم نصوص تؤكد تطور قصيدة النثر المصرية وتجاوزها التقسيمات الحديدية للأنواع الأدبية وأن يؤكد فكرة النص المتجاوز للنوع والمستند على طاقته التعبيرية لا على إطاره المتعارف عليه ، كما استطاع حشد نصوص كثيرة فى محبة المرأة والانتصار لها وخاصة المرأة المنتهكة المسحوقة فى مواجهة عالم قاس لا يرحم ، كما استطاع أن يعبر بجرأة وتحرر عن آمال وأشواق وعذابات هذه المرأة التى تسعى أن ترد الظلم الواقع عليها بوحشية وضراوة تليق باللحظة التى نعيشها.










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة