أكرم القصاص - علا الشافعي

كريم عبد السلام

أزمنة الشعر- 19.. عماد فؤاد و"لغة الفرائس المحظوظة" ..البحث عن الحياة المفقودة

الثلاثاء، 16 يوليو 2019 05:31 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
" تلك لغة الفرائس المحظوظة" عنوان أحدث دواوين الشاعر المصرى المغترب عماد فؤاد ، والصادر مؤخرا عن دار ميريت 2019، وما بين الديوان الأحدث وأول أعمال الشاعر" أشباح جرحتها الإضاءة –كتاب الكتابة الأخرى 1998" ، أكثر من عشرين عاما ، استطاع خلالها عماد فؤاد أن يبنى عالمه بدأب ومثابرة ليتحول من البوح والإفضاء ورثاء الذات إلى البناء الشعرى المتماسك والوعى الجمالى والالتفات إلى مجموعة من التقنيات المستمدة من تاريخ النوع الشعرى والفنون الأخرى وخاصة التشكيل والسينما ، فالشاعر معنى أساس بالرصد لتكوين مشهد مشحون بالإشارات والدلالات ، بالكائنات التى تتدافع ، باختلاط الأزمنة بين ماض مهيمن وحاضر غائم ومستقبل محفوف بالتساؤلات والمخاوف .
 
فى ديوان " تلك لغة الفرائس المحظوظة" ، يسعى عماد فؤاد إلى إقامة بناء واضح المعالم بدءا من غلاف الكتاب وعنوانه اللافت ، مرورا بتقسيم المقاطع التى يشتمل عليها الديوان تقسيما يدعو للتساؤل والتفكير ،أية فرائس تلك التى يكتب عنها الشاعر ؟ أنحن بصدد غابة حقيقية متعينة أم مجازية تنسحب على ميادين شتى من الحياة ؟ أم أننا أمام نوعية حياة خفية لفرائس لا تدرك أنها فرائس أصلا ، وتحيا وسط دوائر من العلاقات تتصور أن لا وجود للحياة خارجها ؟ أم أننا إزاء صراع بين حضور الفرائس وتجليات الصيادين فى الذات الشاعرة ، وسيرورة هذا الجدل أو المطاردة وصولا إلى نهاية الديوان؟
 
المقطع صفر يتقدم مقاطع الديوان المرقمة من واحد إلى مائة ، كما أن الديوان يختتم أيضا بمقطع يحمل رقم صفر ، وما بين الهامشين الأول والأخير اللذين يحملان الرقم صفر ، يأخذ الشاعر بأيدينا إلى تمهيد وتذييل أو فاتحة بعنوان " دخول " وخاتمة بعنوان خروج ، تتكون الفاتحة من سبعة مقاطع مرقمة وتشتمل الخاتمة على المقاطع الخمسة الأخيرة من المائة مقطع التى تكون متن الديوان ، أما متن الديوان نفسه فيتكون من ثلاثة أقسام أساسية تبدأ بعنوان وصفى تقريرى " عن بلاغة الدم " ويشتمل على المقاطع من 8 إلى 79 ، ويعتبر المتن الحقيقى للديوان ، و"عن نفسى " ويحمل رقم 80 ، و" عن هشاشة المغفرة " ويشتمل على المقاطع من 81 إلى 85 ، والقسمين الثانى والثالث هما تنويعات على المتن الرئيسى للديوان فى القسم الأول وامتداد له 
 
والمتن الرئيسى فى الديوان ، هو مجموعة من المشاهد المتتابعة تمسك بالعنف والعنف المضاد ، بالمنتهكين والمنتهكين ، الحاضرين معا فى عين الشاعر الفاحصة الراصدة التى تختار مشاهدها وتتوحد معها ، فى هذا المتن رحلة التحول من فريسة إلى صياد رحلة انقلاب الضحية إلى جلاد ، أنين الفريسة الضحية وسطوة الجلاد القاتل المفترس ، واندغامهما معا ، فلا الضحية يمكن أن يتوقف أنينها ولا الصياد القاتل يتخفف من عبء الذنب وإثم القتل ، ولكنها نقطة الالتقاء وحدها التى يبحث عنها الشاعر بين الفريسة والصياد يمكن أن تكون منطقة للغفران ومن ثم تصالح الذات المنقسمة.
 
" أنا ..؟ أنا لا أعرف من أنا / شاءت الخرافات المحكية على مسامع العيال/ أن أكون الجنى الذى يخافونه فى الليل قبل أن يناموا/ وأن أكون القمر الذى يريهم الجنى- مقطع 15 ص29"
 
السؤال الذى يطرأ على الذهن حول بنية الديوان فور قراءته ، لماذا يحرص الشاعر على وضع الكثير من العتبات قبل المتن الرئيسى فى القسم الأول ؟ ولماذا اختار الشاعر أن يدمج جميع مقاطع الديوان فى سياق واحد مرقم من الواحد إلى المائة ، رغم الفصل بين المقاطع بعناوين للأقسام ، وكأن تتابع المقاطع غالب على العناوين / الطوابق التى يتكون منها النص ، أم أن الشاعر الذى بدأ ديوانه برقم صفر وأنهاه برقم صفر وبينهما مائة مقطع غير معنون ، يريد أن يقول لنا إن هذا الكتاب نص واحد طويل ، مشهد واحد متتابع ، يبدأ وينتهى من النقطة صفر؟  وهل هذه البنية الدائرية الصفرية هى التعبير الأمثل عن الهاجس الغالب على الديوان ، ألا وهو محاولة استعادة الحياة المفقودة ؟
 
الديوان الذى  نعتبره نصا واحدا متدافعا متداعيا مسكوبا على الورق فى شحنات متوالية ، ما هو إلى هذا السعى المحموم للإمساك بحياة مفقودة ،هاربة ، حياة هى فريسة الحاضر الضرورة والمستقبل المجهول ، ولذا نلاحظ بوضوح قوة وهيمنة الذاكرة ومشاهدها الاستيعادية على مقاطع الديوان المائة ، الذاكرة تحكم هذا الديوان وتسوق مقاطعه المائة كالقطيع ، وتشير إلى أن الحاضر مازال أسيرا للتكوين الأول المتحقق فى تلك المدينة الصغيرة بعلاقاتها القاسية والدموية وعنفها الظاهر وتفاصيل صناعة الحياة وتدافع البشر فى الليل والنهار ، لم يبرأ منها الشاعر ولم يستطع تجاوز ندوبها العميقة ، كما بات عاجزا عن العيش بدون وطأتها
 
" باب وراء باب/ وسور خلف سور/ نباح كلاب مسعورة / يتردد فى الأرجاء/ وذباب يطن عاليا/ صانعا سحابة سوداء فى العتمة / من تلال القمامة هذه / مدينة كاملة تعيش" – مقطع رقم 1 ص11 من الديوان"
 
الطفولة وسنوات التكوين الأولى ، العنف وقسوة الأب وعلاقات الغلبة وتكوين الإرادة الشخصية بالصراع والتنافس ومشاهد الدم والجنس ، كلها مستدعاة لتبرير لحظة راهنة ، لقراءة لحظة راهنة ، للبحث فى كيفية تحول البشر إلى صيادين وفرائس ، فى صناعة القسوة باعتبارها آلية للحياة ووسيلة للحماية وطريقا للبقاء ، وفى القسم الأول تحديدا " عن بلاغة الدم " ، تبدو فيه الذاكرة هى المجال الحر الذى تتجول فيه عين الشاعر الراصدة لتسجيل مشاهد مختارة بعناية من هذه العلاقات التنافسية العنيفة والوصول بها إلى النقطة الجوهرية ، كيف أسهمت مجموعة العلاقات والصور والمشاهد فى تكوين ذات الشاعر التى تقف تحت ضوء غريب لتراجع نفسها وحياتها بحثا عما فقدته خلال هذه السنوات وسعيا إلى استعادة المفقود من بوابة الفهم ربما وربما المصالحة
 
" أريد أن أكتب قصيدة عن التلهى ، عن اللحظة التى نكتشف فيها أننا نرد إلى نفوسنا بعد غيبة ، فنعود من جديد لتلمس الأركان التى هجرناها ، مواضع أعشاش العنكبوت فى السقوف ، وخيوطها تتدلى حتى تلمس رءوسنا – مقطع رقم 8 ص 21"
 
" عن نفسى / لم أحاول أبدا فهم السحر الذى تمثله لى الأشياء المفقودة /ما إن يضيع منى شيء/حتى يأخذ بعدا أسطوريا / غامضا ومريبا" مقطع رقم 80 ص 101
 
تتبع الفريسة وتحولاتها فى مقاطع  الديوان الدائرية يتضح بصورة كبيرة عند الوقوف أمام المقطعين المرقمين بصفر ، أو المفتتح الأول والمختتم الأخير ، ما قبل الدخول إلى المشهد السينمائى البانورامى الذى يستدعى فيه الشاعر مشاهده المختارة من الذاكرة أو من واقعه المعيش فى الغربة أو التعليقات الاعتراضية والتفسيرات والإضاءات التى يثبتها فى بعض المقاطع ، وما بعد الخروج من هذا المشهد بمقطع اعترافى يمكن أن يكون ضوءا ينير حياة الفرائس التى يتتبعها الشاعر ، ومنها حياته نفسها باعتباره فريسة مازالت تعانى من آثار الصيادين وتستدعى تحولاته عبر السنوات إلى صياد ، هذا المقطع رقم مائة سنتوقف عنده لاحقا بعد المقطعين "صفر"
 
يقول فى المفتتح صفر:"أربع سيقان تخطو/ وعلى مشط القدم/ ألا يسبق مشط القدم/ كانت العصا/ أعلى من توقعاتنا/ وتنزل دوماً/ في المكان الخطأ" تعلمتُ أن تكون المسافة ذاتها/ بيني/ وبينه/ لا أتخطاه/ ولا يسبقني" .
 
ويقول فى المختتم صفر: " أشكر يدى اليسرى .. الصبورة / التى تعلمت مهانة ألا تكتب أبدا "
 
المفتتح يسجل هذا التكوين الهامشى للطفل الضعيف أمام الأب القاسى ربما ، أمام وجوده المهيمن الساحق ، وجود الصياد الحاضر دوما فى ذهن الفريسة العزلاء من الأسلحة والضحية الدائمة ، أما مقطع الختام ، فهو يشير إلى ما تبقى من الفريسة فى الشاعر ، هامشه العاطل المهان ، لكنه يشير إلى تطور الوعى الذاتى من الانسحاق فى المقطع الافتتاحى إلى التصالح فى المقطع الختامى ، وكأن الصياد داخل الذات يعانق الفريسة
 
ما يمكن أن يمثل إضاءة لهذه السيرورة من الفريسة إلى الصياد وصولا لتعايشهما معا فى واقع جديد ، المقطع مائة الذى يرد فيه الشاعر القسوة والعنف إلى الطبيعة وعناصرها الغالبة ، يقول : " لم أتعلم القسوة من أحد / واسألوا النهر/ كيف شق طريقه هاويا من قمم / جاريا فى سفوح؟! "
 
إننا أمام تفسير يمكن أن يرضى به الشاعر حتى تلتئم ذاته المنقسمة بين الفريسة والصياد ، بين متن طاغ وهامش مستبعد غير مرئى ، إنه التفسير القدرى ، هكذا خلقت الأشياء والذوات ، هكذا تتحرك الطبيعة وعناصرها ، فالنهر ينحت الصخور ويشق الجبال ويغرق الأرض تنفيذا لإرادة قاهرة بأن يكون له مجرى ، وهنا لا يتحرك النهر بقوة مياهه القاهرة بمحبة أو بكراهية لسائر عناصر الطبيعة ، إنه مدفوع فقط ليقوم بما عليه أن يقوم به مثل الخنجر الطاعن فى الجسد يجرح ويشق مجرى ويقيم ضفتين لجرح ، وتبقى الندوب فى الذاكرة . وما مقاطع الديوان المائة سوى تعويذة سحرية أو حكاية مما يروى على مسامع العيال حتى يلتئم جرح الفريسة وتبرأ من كونها الضحية الدائمة .
---------------- 









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة