أكرم القصاص - علا الشافعي

كريم عبد السلام

الإهمال أخطر من الإرهاب

السبت، 02 مارس 2019 03:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
الإهمال أخطر علينا من الإرهاب، الإرهاب زائل مهما طال شهورا أو سنوات قليلة، لكن الإهمال عدو خفى إذا تحكم فى مجتمع دمره كما يدمر السوس النخيل، الإرهاب لا يستطيع التجذر فى مجتمعنا بعد الحرب المفتوحة على منابعه وتجلياته والحركات التى تتبناه وتدعمه، لكن الإهمال يمكن أن يكون له ألف وجه ووجه، بل يمكن أن يتعاطف معه بعض المصريين الذين لم ينشأوا على الكدح والبناء والعصامية والمجالدة وعدم الاستسهال واللجوء إلى التبريرات والأعذار كطريقة حياة.
 
حادث قطار محطة مصر الذى أبكانا ووضع عموم المصريين فى حالة نفسية سيئة، نموذخ صارخ للإهمال الجسيم كسلوك وثقافة وآفة يجب استئصالها من حياتنا إذا أردنا حقا أن نبنى بلدنا، وأن ننهض بها لننافس الدول الكبرى، ولسنا أقل منها فى شىء، اللهم إلا فى مجموعة الأفكار والسلوكيات والقيم الحاكمة. 
 
تأملوا قليلا فى خطاب سائق القطار وتبريره للحادث الذى أودى بأرواح 22مصريا وتسبب فى إصابة أربعين آخرين، تجده بارد الأعصاب، يسوق المبررات التافهة والأسباب غير المعقولة ليحاول الإيحاء بأنه لم يرتكب جرما، يا بنى آدم كيف تبرر نزولك من كابينة الجرار وتترك مفتاح التشغيل فعالا، لتتشاجر مع سائق قطار آخر بدعوى أنه اصطدم بك أثناء دخوله المحطة؟ وعندما اكتشفت أن القطار تحرك وعجزت عن اللحاق به، كيف جرؤت على أن تترك المحطة وتمضى إلى بيتك لتأكل وتشرب وتنام دون أن يرف لك جفن أو تشعر بالندم والأسف؟!
 
ليس الشعور بالأسف أن تعترف بأنك أخطأت وخلاص، وكأنك تقول لنا اعملوا اللى أنتم عايزينه محتميا باللوائح الإدارية البالية التى لا تفرض عقوبات مغلظة على الإهمال الجسيم الذى يودى بالأرواح، فلو كنت فى اليابان مثلا لكنا علمنا بخبر انتحارك تكفيرا عما تسببت فيه، ولو كنت فى دولة أوروبية متقدمة لشهدنا فيديو لك وأنت تلقى بنفسك تحت قطار، أو تعلن رغبتك فى أن تتلقى عقوبة الإعدام.
 
لكننا للأسف الشديد لم نر أيا من هذه الأمور، لأن المجتمع تم تجريفه على مدى عقود حتى أصبح متهالكا بصورة أشد وأنكى من قطارات وخطوط السكك الحديدية نفسها، أصبحنا نبرر القبح والجهل والتطرف والكذب والتواكل، كما أصبحنا متعايشين مع الإهمال وتآكلت القيم المرتبطة بالعمل والإتقان والمعرفة، بينما تضخمت السمات الاستهلاكية والمادية المظهرية، وبعد أن كان الموظف المرتشى أو المقاول الغشاش موصوما طوال حياته بلعنة فساده، أصبح المجتمع يتغاضى عن قبح الجريمة ما لم يتم ضبط المجرم متلبسا، بل وصل الأمر إلى اعتبار الجرائم، مثل التنقيب عن الآثار، إحدى مهارات العصر التى يفرضها التطور.
 
وبعد أن كان المجتمع الكادح الطامح إلى التحرر والتنمية فى عقود سابقة يتحرى مصادر الثروة ويجرم المشبوهة منها ويدين أصحابها، تحول المجتمع إلى المادية العمياء، وأصبحت قيمة الإنسان بما يملك من مال، «معاك قرش تساوى قرش»، الأمر الذى دفع خمسة أجيال تالية إلى هجرة كل ما هو جاد، ويحتاج إلى مهارات وصبر فى التكوين، لأن الهدف  العام أصبح الحصول على النقود بأية وسيلة وبأسرع طريق.
 
ومن هنا انتشرت السمات الفهلوية والمظهرية الفارغة، ولم يعد لدينا الحرفى المتمكن ولا المعلم صاحب الفلسفة ولا الصانع الماهر ولا الموظف الملتزم، لدينا أشباه النموذج المنشود طوال الوقت، لكنها أشباه بائسة أقرب إلى خيال المآتة فى حقولنا، لا يمكن أن تكون بشرا يدرك ويفكر ويتخذ موقفا من حياته ومن الآخرين ولا يمكن أن تتقن شيئا أو تتحمل مسؤولية.
 
إننا إذا كنا نحتاج إلى خطة شاملة وطموحة لتطوير هيئة السكك الحديدية فى زمن محدود، فإننا أحوج ما نكون إلى إعادة بناء العناصر البشرية فى المجتمع، وإعادة الاعتبار لمجموعة القيم المتراجعة مثل عقيدة العمل والعصامية والإتقان والتفانى والطموح المسنود بالجهد والابتكار، فضلا عن التسامح وقبول الآخر والفهم الحقيقى للحريات، هل يمكن أن نعترف لأنفسنا كمجتمع بما صرنا عليه؟ وهل يمكن أن نبدأ فى تغيير أنفسنا إلى الأفضل، لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم؟ يا رب.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة