مصطفى دهيس يكتب: الكلب

الأربعاء، 22 أغسطس 2018 08:00 م
 مصطفى دهيس يكتب: الكلب كلب اليف -أرشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

 استعد الطفل الصغير “ألكسندر” للنوم، ذهب إلى فراشه ولم تغمض له عين حتى أتى جده “أدريان”

وبدأ يحكى له حكاية ما قبل النوم كما تعوّد قبل سنوات منذ أن بدأ يُدرك الأشياء.

قال الجد وقد دخل فى الفراش بجوار الصغير، قصة هذه الليلة يا صغيرى الجميل ألكسندر، قد حدثت فى قريتنا هذه قبل ثلاثين عاماً، لقد كان الوقت صيفاً، الشمس فى كبد السماء، تصوب أشعتها الحارقة فوق رؤوس الناس الذين اجتمعوا من كل ارجاء القرية يتشحون بالسواد ويحملون الأزهار الأنيقة وأطواق الياسمين، الكل فى زحامٍ شديد يتصببون عرقاً ولا يبالون بأشعة الشمس الحارقة، يتدافعون بالمآت، يدفع الرجال بعضهم بعضاً نحو المقدمة، فى هذا الزحام الشديد الكل يريد أن يلحق هذه الجنازة المهيبة ويحظى بشرف حمل النعش إلى مثواه الاخير،ارتقت النساء شرفات المنازل يلوحن ويبكين بكاءً حاراً، ولعلك يا صغيرى تسألنى عن صاحب هذا النعش الجنائزى المهيب،الذى كاد أن يهلك خلاله العشرات من الناس؟ نعم يا صغيرى الجميل، لقد كانت هذه الجنازة الكبيرة لكلب القرية الأسود العظيم " نوثارمار".

دُهش الصغير ألكسندر، ربما كان يعتقد أن هذا الموكب الجنائزى العظيم لأمير البلاد او حتى لقاضى البلدة العادل السيد " باركر" وتساءل باستهجان، كيف يكون هذا المشهد الجنائزى المهيب لكلب قد مات ؟

إن الكلاب تملأ المدينة تنتشر فى الشوارع وتكاد لا تخلو اى حديقة منزل من كلبين او ثلاث ؟

مسح الجد على رأس الصغير وداعب شعره الناعم المتدلى فوق جبهته وقال : من هنا قد بدأت القصة يا بُنى، كان الاعتقاد السائد بين سكان القرية بأن الكلب " نوثارمار" مجرد كلب كباقى كلاب القرية، ولكن لا أحد يعلم من أين جاء هذا الكلب الأسود واستوطن القرية واتخذ من أزقتها منزلا له.

إلى أن بدأ الناس يُلاحظون اشياءً عجيبة، لقد سمع الناس نباح ذاك الكلب على أى غريب يدخل البلدة حتى وإن كان من أحد أقارب السكان، يشرع فى النباح ولا يتوقف إلى أن ينهره أحدهم من أقارب الضيف ويشرح له أن هذا الوافد انما هو من اقاربنا من القرى المجاورة وليس لصاً حتى يكف عن نباحه وزمجرته، ربما اسمعك يا صغيرى وانت تقول، هذا هو دأب الكلاب منذ أن خلق الله الارض، نعم هذا صحيح، انما الامر الآخر الذى حدث ولا يصدق، عندما كان أحد المزارعين فى تلك الليلة يروى أرضه على ضوء القمر فى البر الشرقى من النهر فجاء الكلب نوثارمار جلس بجواره طوال تلك الليلة يؤنسه إلى أن فرغ من رى ارضه ثم عادا معاً، وهذا الامر ايضاً ليس بالعجيب، ما حدث فى صباح تلك الليلة هو العجب بعينه، لقد كان المزارع يحكى لأحد جيرانه ما حدث من الكلب وكيف انه جاء إليه فى البر الشرقى بينما كان يروى ارضه وحيداً وآنسه طوال تلك الليلة حتى عادا معاً عند الفجر، فصاح الرجل : كذبت ايها الرجل، كيف ذهب إليك الكلب إلى البر الشرقى من النهر وجلس معك إلى الفجر وفى تلك الليلة كان الكلب عندى يجلس بجوارى وانا اصلح سقف حظيرة ماشيتى ؟ لقد ألقيت له قطعتين من اللحم وانا اتناول العشاء !

تصايح الرجلان واقسم كلٍ منهما بكل ما هو مقدس انه على حق وان الكلب كان بصحبته وان الاخر انما هو مدعٍ او انه قد رأى خيالاً ولم يكن الكلب ! إلى أن جاء رجلٌ ثالث قد سمع تصايحهما وقال ينهرهما :

كذبتما وادعيتما بما لم يحدث، أن هذا الكلب كان معى انا.. فى تلك الليلة بينما كنت اجمع محصول البطيخ من حقلى فى بداية الليل واحمله فوق العربة استعدادا للذهاب به إلى سوق المدينة عند بزوغ الفجر، كان الكلب معى يذهب خلفى قاطعاً الحقل بطوله وانا اجمع حبات البطيخ ويعود خلفى ايضاً عندما اذهب لأضعها فوق العربة، وهاكم ولدى كان معى فسألوه، لقد اخذ يداعب الكلب! لقد عاد معنا ايضاً فى نهاية الليل وجلس هنا بجوار الثمار، واشار بيده على المكان الذى يعتقد أن الكلب نوثارمار جلس فيه فوق عربته التى يجرها بغله.

انتهى الحوار بين الثلاث رجال، كلاً منهم يعتقد أن الكلب كان بصحبته هو فى تلك الليلة وان الأخرين ربما يكون كلباً آخر كان معهما.

الغريب فى هذا الأمر يا صغيرى، أن الكلب نوثارمار كان معى انا ها هنا فى منزلنا، نعم اتذكر جيداً تلك الليلة التى تصايح فيها الثلاث رجال بجوار منزلنا، لقد كنت قلقاً هذه الليلة، فجدتك كانت فى وضعها الاول وعندها القابلة والخادمة وبعض النسوة فى هذه الليلة ولدت ابوك، كنت خائفاً عليها وقد جاء الكلب نوثارمار على غير العادة، لا اعلم كيف دخل إلى فناء المنزل ربما يكون قد تسلق احدى الاشجار وولج من السور، جاء وجلس بجوارى كان يشعر بقلقى وخوفى وتلهفى وينظر إلى نظرات حنونة كأنما هى عطف او مؤانسة،

لا ادرى.

جلس يتمسح بملابسى، إلى أن سمعت اولى صرخات ابيك وقد جاء إلى الدنيا، سعدت أيما سعادة ادرت ظهرى إلى الكلب حتى اشاركه سعادتى، فلم اجده، لقد اختفى مرة واحدة.

توالت مثل هذه الحكايات عبر الأيام والسنون، حتى اعتقد الناس أن الكلب نوثارمار ليس مجرد كلباً عادياً،

إنما هو روح، روح طيبة سكنت جسد ذلك الكلب، هذه الروح قد ارسلها الله إلى قريتنا، تؤنس الناس وتساعدهم وتقف بجوارهم تشاركهم فى افراحهم وأتراحهم، تجلس معهم فى حِلهم وتذهب معهم فى ترحالهم.

وقد أطلق الناس على الكلب هذا الاسم "نوثارمار" نسبةً إلى الشمس والقمر ففى لغتنا القديمة،

الشمس تعنى " نوث " و" أرمار " تعنى القمر فهو معك فى النهار مثل الشمس لا يتركك وصديقك الصدوق فى الليل مثل القمر يؤنسك كما يؤنس القمر السهارى والحيارى والعشاق.

قال الصغير ألكسندر وقد برقت عيناه :

انا لا استطيع أن اعتقد ذلك يا جدى..

إن ألطاف الله اكبر من أن يضعها فى روح ثم يرسلها فى جسد كلب، الله يرسل ألطافه وعنايته إلى الناس مُباشرة، يشعرون بها، يحسونها فى ارواحهم، الله لا يضطر إلى فعل مثل ذلك.!

قال الجد : هذه هى نهاية الحكاية يا بُنى، عليكَ أن لا تحتقر ما لا تؤمن به، ويؤمن به غيرك، لا تزدرى بعينيكَ منظراً قد لا تراه مناسباً لرؤيتك، ويراه غيرك مألوفاً.

يا بُنى انت لا تمتلك إلا عينيكَ وقلبك وشعوركَ، فقد ترى امراً خطئاً ويراه الناس صواباً، وهذا لا يعنى انك على صواب والناس على خطأ.ربما يرى الناس ما لا ترى وربما ترى ما لا يرون، كلاً حسب ما يعتقد ويشعر ويَفخر.

الناس يا صغيرى سواسية فى كل شيء عدا ما يعتقدون بقلوبهم وعقولهم فلن تمتلك مقدرة تغيرهم ولا قِبلَ لك بهذا فلا تحقرنّ ما يعتقدون لو لم يوافق هواك، ولا تسخر منهم.

ان انبل شيء يمتلكه المرء فى هذه الحياة يا بُنى، هو العطاء، ليس العطاء المادى وحسب، انما العطاء بما تحمل الكلمة من معنى، عطاء الاحترام، احترامك لهم جميعاً، عطاء القدوة الطيبة التى يجدونها فيك، عطاء احترامك لما يعتقدون وان كان لا يناسب ما تعتقد انت فتلك مشكلتك لا مشكلتهم.

هذا يا بنى ما يجب أن يكون عليه المرء طوال عمره.










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة