أكرم القصاص - علا الشافعي

محمد حبوشه

الصحافة الورقية ترواح مكانها بفعل شيطاني رجيم!

الجمعة، 17 أغسطس 2018 10:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

كتبت في العاشر من يناير 2017 هنا في "اليوم السابع" مقالا بعنوان "الصحافة الورقية إلى زوال إلا إذا؟!" وقد وردت إلى في أعقابه ردود كثيرة غاضبة تصب فى خانة العناد والمكايدة للحقائق المرة التي تعيشها أغلب مؤسساتنا الصحفية الكبرى، خاصة من جانب قيادت صحفية كانت على رأس المؤسسات القومية - آنذاك - والذين عاتبونى مؤكدين أن الصحافة الورقية تعانى أزمة وجودية، لكنها لن تموت أبدا، بل ذهب أغلبهم مغاليا بأنها ستظل واجهة الأوطان، رغم أن الواقع يكشر لنا أنيابه قائلا : أغلب المؤسسات القومية فى مصر خلال السنوات القليلة الماضية تعانى أمراضا مزمنة جراء أزمات عدة، بسبب التطور التكنولوجى وارتفاع أسعار الورق والمطابع، فضلا عن أزمات اقتصادية طاحنة، ما أدى بالضرورة إلى تناقص أعداد التوزيع لعدد من الصحف التى اضطر بعضها إلى إغلاق أبوابها، وتسريح الصحفيين العاملين بها، أو التحول إلى مواقع إلكترونية دون إصدار نسخ ورقية.

واليوم تصرخ نفس القيادات متشدقة بالأسئلة الصعبة ذاتها التى استهجنتها من قبل، علما بأن أحد منهم لم يكلف نفسه ملامسة الواقع الموجود على الأرض، ويعترف بأن نسب توزيع الصحف المصرية تراجعت بصورة ملحوظة بحسب آخر إحصاء لعام 2017 بسبب تدني مستواهم المهني، ولم تكن أزمة التوزيع الوحيدة التى طالت الصحف المصرية الورقية بشقيها القومى والخاص، بل لايمكن أن نغفل الأزمات المالية التي كانت السبب الرئيس فى إغلاق عدد من الصحف، وهو ما أرجعه خبراء الإعلام إلى أن الصحافة الإلكترونية أصبحت البديل الأمثل باعتبارها الأرخص تكلفة من الصحف الورقية، وهو على عكس رؤية نقيب الصحفيين عبد المحسن سلامة - الذى قال قبل سنة: "إن الشعب المصري ليس بقارئ، وهذه مشكلة كبير تعوق أي تطوير أو توسعات بالصحف الورقية، موضحا أن الأزمة ليست بالمحتوي الصحفي للصحف الورقية، بل إن الشعب المصري لايقبل على القراءة، وهذه مشكلة كبيرة تعوق أي تطوير أو توسعات بالصحف الورقية.

ثم فاجأنا السيد النقيب نفسه قبل أيام بتصريح يناقض كلامه السابق يقول فيه : إن لدينا أزمة محتوى في المجال الصحفي وأزمة صناعة مدخلات وارتفاع أسعارها، معلل للمرة الثانية أنها أزمة شعب لا يقرأ، وناشد سلامة الحكومة بالحفاظ على الصحافة الورقية كأداة من أدوات التنوير، مشيرًا إلى أننا نحتاج خطة تعويم لصناعة الصحافة القومية والحزبية والخاصة، وأن هناك جريدتين مهدتين بالإغلاق، وأعترف بأن هناك أزمة كبيرة في الصحافة المصرية لكنه تدارك نفسه قائلا : أنها محنة مؤقتة، وهنا لابد لى أن أهمس فى أذن النقيب منبها: أن نسبة الشباب الآن فى مصر تبلغ 65% من عدد السكان - تحت سن الثلاثين - وهؤلاء يستمدون أخبارهم ومعلوماتهم وثقافتهم من الفضاء الإلكتروني، وأظن أن هذا الرقم الصادم يؤكد أنه ليس جمهورا محدودا بحسب زعم تصريحاتك، بل يؤكد أنه مهما كافحت من أجل وضع تشريعات وقوانين لحماية حقوق الصحفيين عن طريق عقود العمل الموحدة وقوانين الصحافة والإعلام، فلن تنجح مساعيك فى مقاومة التكنولوجيا الزاحفة نحو تآكل ماتبقى من عصر الورق.

مستقبل الصحافة الورقية ياسيادة النقيب يرتبط بالمهنية والإبداع الذي تفتقر إليه غالبية مؤسساتنا القومية، فضلا عن اختيارات عشوائية على رأس تلك المؤسسات تظل تتفن يوميا في استبعاد الكفاءات الصحفية القادرة على صناعة الحلم في صحافة متطورة تليق بشعب قارئ لمحتوى حقيقي وجيد، وليس كما يقدم حاليا من وجبات جافة تفتقد إلى الحرفية والمهنية التي تعتبر بالأساس هى المعادل الموضوعي للوطنية، لقد أصبح هذا الشعب على قدر من الوعى الذي يمكنه من فرز الغث من الثمين، قبل أن يقبل على شراء جريدته الصباحية، بعد أن فقدت طزاجتها، إذن علينا أن لا ندفن رؤسنا في الرمال ونعى جيدا حقائق الأمور التي تشير إلى عدم قدرة الصحافة القومية على التطور ومجاراة الصحافة الإلكترونية، عن طريق الاهتمام بما وراء الخبر من تحليل ومتابعات وآراء.

فبنظرة سريعة إلى مانشيتات الصحف الصباحية اليومية لن تجد فيها تميزا واضحا على مستوى الأداء المهني، ومن ثم تبدو لنا الحقائق المرة التي تشير إلى أن مجمل الصحف الورقية الحالية انخفض توزيعها بشكل لا يليق بمؤسسات عملاقة فى الوقت الراهن، فيما استطاعت بعض الصحف القومية توزيع قرابة المليون نسخة ويزيد أحيانا، خلال الأربعة عقود الأخيرة من القرن الماضي، ودعونا نعترف بأن سر تراجع الصحف الورقية هو افتقارها إلى التطور أمام المواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، إضافة إلى إن الصحافة شهدت تطورا كبيرا خلال الفترة الماضية، بعد انضمام وسائل جديدة لنقل الخبر وعلى رأسها الهواتف النقالة، وبحسب الأكاديمى "د.محمود علم الدين" فإن بعض الصحف العالمية المطبوعة اكتفت بإصداراتها الإلكترونية، موضحًا أن عدد متابعى الصحف الورقية على مستوى العالم بلغ 2 مليار و700 مليون، فيما يبلغ عدد متابعى الصحافة الإلكترونية قرابة 3 مليار و200 مليون شخص على مستوى العالم.. إذن نحن فى أزمة حقيقية تحتاج إلى إيجاد حلول عاجلة تحول دون الوصول حافة الزوال.

وفي هذه المناسبة أسوق مثالا عمليا لمسته بنفسي في أثناء حضورى لدورة تدريبية حول "تطور صناعة الصحافة الإلكترونية" عام 2009 بالولايات المتحدة الأمريكية، فقد  لاحظت أن مراكز الأبحاث الأمريكية آنذاك كانت ترجح انهيار الصحافة الورقية خلال 3 سنوات أى بحلول 2012، لكنها كانت مجرد رؤى خيالية، فيما خالف الواقع العملي كل تلك التوقعات بعد أقل من ستة أشهر، وأذكر أننا كنا  في زيارة على الطبيعة لكل من جريدتى "واشنطن بوست ونيويورك تايمز"، حيث شهد عام 2009 انهيار توزيع "الواشنطن بوست" الورقى إلى الثلث، مما اضطر الصحيفة العريقة إلى تسريح نصف محرريها تقريبا إيذانا بتحولها إلى العصر الإلكترونى على جناح القصة الإخبارية المثيرة، مع الاحتفاظ بزاوية صغيرة جدا فى الطبعة الورقية - مليون وستمائة ألف نسخة آنذاك - على سبيل تأريخ الأخبار بشكلها التقليدي، فيما شهدت نفس الفترة ارتفاع مؤشر جريدة الـ "نيويورك تايمز" إلكترونيا إلى "22 مليون اشتراك" على الـ "أيفون" وحده، جراء استيعاب إدارتها للزحف الالكترونيا القادم، حتى أن ناشرها قال لنا يومها فى أثناء لقاء بمكتبه أنه لم يعد يلقى بالا بالطبعة الورقية.

والآن لا يبدو لى أمل يلوح في الأفق نحو استعادة الصحافة الورقية لدورها المعهود بها، بل إني أراها إلى زوال لامحالة، ليس بسبب ارتفاع أسعارها ولكن بفعل شيطاني رجيم يكمن في عدم الانحيار إلى عناصر الكفاءة والمهنية في الاختيار، بعد أن تسلق المناصب القيادية حفنة من البلهاء في غيبة من وعى الدولة بوظيفة الصحافة التي يفترض بأنها تكتب المسودة الأولى للتاريخ، اللهم إذا أجريت عملية جراحية دقيقة من شأنها تحول تلك الصجف  إلى التميز فى شكل الكتابة التى تناسب طبيعة الحياة المعاصرة في ظل أكبر تدفق للصورة فى التاريخ، جراء الفعل الدرامى المأساوى الكبير فى حياتنا الحالية، بما تشهد من وقائع اغتيال الإنسانية التى تفوق الخيال، وهو الأمر الذى يحتاج لحس صحفى روائي، استنادا لقاعدة "تولستوى" فى كتابة أحداث الرواية: على طريقة "دعنى أرى ماتراه"، وهو مبدأ مهم أرسته جريدة "وول ستريت جورنال" فى تدريب كودارها الجديدة، ولابد من الاهتمام أكثر بالرأى والتحليل والمتابعة الدقيقة ، وصناعة ملفات احترافية تمس حياة المواطن اليومية، لكن بعضا من هذا وليس كله يتطلب بالأساس اختيار كوادر صحفية - هذه المرة - تكون واعية بحجم الكارثة التى تتربص بنا، كوادر مهنية تدرك حقيقة العصر، حتى يستطيع الورق منافسة الفضاء الإلكترونى الذى يمتاز بالانتشار السريع.

لقد أعجبني ذلك التوصيف الدقيق لحال الصحافة الورقية المصرية من جانب شيخ الصحفيين الأستاذ مكرم محمد أحمد، رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، والذي  اعترف فيه بإن الصحافة الورقية تمر بأزمة شديدة، موضحًا أن هذه الأزمة من الممكن أن تحدد مصير المهنة، إما بإعلان ميلاد جديد للصحافة المصرية، أو نهاية للصحافة المصرية، مضيفا: إن الموقف الحالي يحدد مدى قدرة الصحفيين في الحفاظ على المهنة، والصحافة الورقية، ولأنه رجل مخضرم ويتسم بالحكمة المستمدة من خبرات السنين، فقد أدرك بحسه المهني ما لا يستطيع فهمه أو إدراكه غالبية الكوادر الصحفية الذين يترأسون تحرير الصحف القومية حاليا - للأسف - حين وعى إلى حقيقة "إن المتابعة اللحظية للأحداث من جانب التليفزيون استنفدت جانبًا كبيرًا من الصحافة الورقية"، مضيفا أنه من الضروري مواجهة الأزمة التي تمر بها الصحافة بشكل من التحدي، للتجويد وإظهار قدرات الصحفيين المصريين، ولكنى أقول له أن فاقد الشيئ لايعطية!.

في النهاية أعيد وأكرر الأزمة لا تكمن في أننا شعب لايقرأ - على حد تعبير نقيب الصحفيين - بل العيب كل العيب في صناع الصحافة الورقية الحاليين الذين يفتقدون لأبجديات العمل الصحفي، فبعد أن كانت الصحف الورقية هي القوت اليومي للمواطن، ولا يمكن تصور رجل ينتمي للطبقة الوسطى لا يجلس على المقهى مطالعًا جريدته المفضلة، وكان نجيب محفوظ قبل الاعتداء عليه من متطرف ديني عام 1994م يذهب إلى مقهى "علي بابا" في ميدان التحرير في تمام السابعة صباحًا ليتناول فنجانه من البن ويطالع جرائد الصباح، لكن هذا كله أصبح شيئًا من الماضي، فمع مطلع الألفية الجديدة تراجع دور الصحافة الورقية، ولم تعد مصدرًا لتقديم الخبر إلى القارئ، فقد سبقتها إليه القنوات الفضائية، والمواقع الإلكترونية على النت، ومواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت بمنزلة نبض الشارع والحياة.

هكذا حرمت الصحافة الورقية من ملايين الجنيهات التي كانت تتدفق عليها من الإعلانات، وتوقف قطاع كبير من القراء عن التعامل معها، وهو قطاع الشباب أو من هم دون الأربعين، هؤلاء الذين لم يدمنوا ملمس الورق ورائحة الحبر ومطالعة الجريدة الصباحية، هؤلاء الذين نشؤوا في عصر الستالايت والشبكة العنكبوتية و"السمارت فون"، وبالتالي توجد أزمة حقيقية في المحتوى، وإذا لم تنتبه الصحف الورقية إلى ضرورة أن تطور من أدائها وفكرتها وطرائق تواصلها ومحتواها، لن يكون لها فائدة، ومن ثم يمكن للصحف الورقية أن تنهض مجددا، وتسترد مكانتها لدى القراء ببعض تغييرات حتمية في رؤاها التحريرية، حتى لو تمسكت وجاهرت بتوجهاتها السياسية، وهو أمر مشروع، فطبيعي أن تنحاز الصحف الحكومية والحزبية والخاصة لملاكها، لكنها بجانب هذا عليها أن تنتصر للحقيقة، وتراعي حاجات القارئ، ومتعته أيضا، فهذا "الملول الشارد" لن يعود إلا إذا وجد ما يحبه، وإرضاءه - ممكن جدا بقليل من الجهد - خاصة أن هناك قطاعات من المجتمع ما زالت تفضِل الورق على الهواتف والأجهزة، بل ربما يحب بعضهم ملمس الورق، ورائحة الحبر من باب الارتباط حتى بالميل لـ"الهاند ميد"، لكن كل ذلك يظل رهن التطور المهني المنشود، وتلك هى الفريضة الغائبة في صحافتنا الورقية!.










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة