أكرم القصاص - علا الشافعي

عباس شومان

بين السلام والاستسلام

الأربعاء، 10 يناير 2018 10:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
يبدو أن معركة المصطلحات والمفاهيم التى لم تنجُ منها كثير من المصطلحات والمفاهيم الدينية الشريفة، قد ألقت بغبارها وغبشها وغشاوتها على بعض المفاهيم الحياتية الإنسانية التى تمس الحاجة إليها فى هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ البشرية، وما تحمله من تغيرات على كل الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية.. إلخ . ومن هذه المفاهيم التى فُهمت على غير وجهها، مفهوم السلام الذى يعد من أرقى المعانى التى نشدتها وتنشدها الإنسانية طوال مسيرتها وتاريخها.
 
ولما كان السلام هو الأساس الذى يتعايش به الناس فى حياتهم وتستقر به أمورهم، فإن رسالات السماء قد حملت معنى السلام ومبناه إلى الأرض، ففى إنجيل متى: «طُوبَى لِصانِعِى السَّلامِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللهِ يُدْعَوْنَ»، وقد علمنا إسلامنا الحنيف وشريعتنا السمحة أن السلام اسم من أسماء الله الحسنى التى أمرنا أن ندعوه بها، يقول تعالى: «وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا»، وأمرنا كذلك أن نحصيها علمًا وتأمُّلًا وتخلُّقًا وعملًا، يقول النبى- صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ»، وقد وصف ربنا عز وجل الجنة التى وعدها المتقين بأنها دار السلام، وكأن ما فى الجنة من نعيم لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر؛ كأن كل هذا النعيم لا يلتذ به أهل الجنة إلا فى وجود سلام.
 
والسلام المنشود فى الدنيا يتناقض بطبيعة الحال مع الحروب والاعتداءات بجميع صورها، بل يتناقض مع البغضاء والشحناء والكراهية التى تحملها بعض القلوب، ولذا جعل الله السلام من فرائضه على خلقه المؤمنين، فأنعم به عليهم ودعاهم إلى تحقيقه، حتى لو كان مع قوم محاربين، فمتى جنح المحاربون للسلام وارتضوه؛ فإن الله السلام يأمر بمسالمتهم، يقول سبحانه: «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ»، بل إن النصوص التى يقرأها بعض المتعالمين بعين عوراء لا تبصر منها سوى بعض جوانبها التى لا يريد هؤلاء إبصار غيرها، تجد السلام مطلبًا أصيلًا فيها، ومن ذلك قول الله تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ»، فالمقصود الأساس من إعداد القوة المذكور فى الآية الكريمة هو الدعوة إلى كف أذى هؤلاء القوم لا قتالهم أو إجبارهم على دين ما كما يفهم أصحاب الأفهام السقيمة، وليس فى الآية ما يفيد أن نعد ما استطعنا من قوة لقتل الناس، وتشريدهم، وتجريدهم من حقوقهم الآدمية، بل من أبسط حقوق الإنسان وهو الحق فى الحياة، كما يجرى بحق المسلمين المستضعفين فى أرضهم وعلى مرأى ومسمع من المؤسسات الدولية والهيئات الأممية.
 
وحتى فى الأعراف العسكرية يقال: إن مقصود الحرب تحريك السلام، فالطرف المتغطرس حين تكسر شوكته الحرب وييأس من النصر لا يرى بدًّا من السلام، فيقبل حينئذ عقد الهدنة ويلجأ إلى التفاوض الذى يفضى غالبًا إلى السلام، بعد أن كان يأبى التفاوض والسلام ويستمسك بمنطق القوة والغطرسة، وتاريخ البشرية وما شهده من حروب قديمًا وحديثًا يشهد لذلك، فما من حرب إلا كان فى نهايتها سلام، أو كان السلام منهيًا لها، مهما طال الزمن.
 
وقد أمرنا الشرع الحنيف أن ندرأ الحروب ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا، فما خُلق الإنسان من أجل الحرب والعداء، وإنما خُلق لعمارة الكون وتنمية الأرض والتعارف مع أخيه الإنسان فى الشرق والغرب، ولا شك أن ذلك يقتضى السلام، فإذا أصر المعاندون على إثارة الحرب وإشعال فتيل الفتنة ولم يفكروا فى العواقب المفجعة لذلك، فكيف السبيل إلى ردهم إلا بدفع عدوانهم، وكسر شوكتهم، وتقليم أظفارهم؟! وليست الحرب ساعتئذ مقصودة لذاتها، وإنما ليحل السلام والأمن المفضى إلى عمارة الكون وتنمية الأرض وتعارف الناس.
 
وكثير من النصوص تلمح فيها هذه الإشارات والمعانى التى تخفى على كثير من الناس جهلًا أو تجاهلًا، فيفهمونها أو يُفهمونها الناس على غير وجهها، وإلا فكيف نرى قول الله تعالى: «فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ»، أى إذا كانت الحرب التى لم يكن لك سواها خيار، فنكِّل بهم ليتعظ نظراؤهم ومن يحذو حذوهم ويخافوا مما فعلت بهم حتى لا يتجرءوا هم أو غيرهم على الحرب والقتال ونقض العهود والمواثيق، ومن ثم يعيش الناس فى سلام وأمان.
 
وعلى الرغم من ذلك نجد خلطًا معيبًا عند كثير من الناس بين السلام والاستسلام، وشتان شتان الفرق بينهما، فالسلام لا يكون إلا من قوة، أما الاستسلام فهو الخنوع والخضوع والذل والانكسار الذى لا يليق بالمؤمنين الذين أعزهم الله بالإسلام، فالمؤمن شجاع قوى واثق فى ربه معتز بنفسه فخور بالانتماء لدين لا يقبل المهانة والمذلة. ولا تناقض أبدًا بين هذه المعانى والسلام، فالسلام مع المسالم، والبطش بالمعادى المحارب، يقول تعالى: «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ».
 
ولذا، فإن المبالغة فى قبول غطرسة المتغطرسين بدعوى أننا أمة سلام هى عين الاستسلام والانهزام والانكسار المذموم عرفًا وعقيدة، وهذه الحال لا تناسب حال أمة العزة والكرامة، والمعادلة المنطقية بل الدينية تقتضى أن نكون أمة مسالمة مع من سالمها، باطشة أشد البطش مع من عاداها وتجبر عليها وتكبر وتغطرس. ووقائع التاريخ، بل إن موازين القوى فى العالم الآن تثبت بجلاء أنه لا احترام إلا للقوى، وأن الضعيف المتخاذل مطمع لكل طامع، وقد حذرنا رسولنا الكريم من أيام إن لم نكن نعيش فيها الآن، فأظننا بتخاذلنا وتشرذمنا وضعفنا قد اقتربنا منها كثيرا، فقال صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها. قالوا: من قلة يومئذ؟ قال: لا بل كثير، ولكن كغثاء السيل»، وذلك يقتضى أن تستعيد أمتنا قوتها ومجدها وعزتها، لتكون سلامًا مع من سالمها ونارًا حارقة تفتك بمن يعاديها ويحاربها.









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة